هوية بريس – الإثنين 10 نونبر 2014 الكلام عن حقوق الإنسان، والخير، والقيم الكونية، والتضامن البشري، وقيم الحرية والحب التي تجمع بني الإنسان صار نَبيذاً فاسداً في دِنَانٍ يتم تجديدها كل حين، عبر وسائل الإعلام يوميا، وعبر مقالات فلسفية بليغة الصياغة والتنضيد اللغوي لا أحد من العالمين بات يصدقها، في الوقت الذي أمسى الفتك بالإنسان إيقاعا يوميا وعاديا، تستعجل شاشات العالم في نقله لنا على موائد غذائنا الشهية. فتنهمر دموعنا الصفراء وتتظاهر ألسنتنا بالحزن وبفضائل الصبر الجميل، ونلتزم الصمت الذي هو رمز الحكمة ومنبعها في هذا العالم الضاج بالكلام والشعارات. وها نحن بعد عقود من مسالخ الاستعمار ضدنا، نعود لنكتب تاريخنا الحزين، وها هي حروبنا ضد بعضنا قد بدأت من جديد، ليسارع الجميع إلى عالم البرزخ ومن ثمة إلى محكمة الله العادلة، القاتل، والذي رغب في قتل قاتله، وبينهما أبرياء لا حصر لهم، لأجل أن يقدم كل منهم خصمه أمام ربه، بعد فقدهم الأمل في محاكم أوربا والعالم الغربي، اللذين يزوداننا بأحدث الخطابات عن العدالة والمساواة والفكر الحر، وفي ذات الآن يهبنا أروع أنواع الأسلحة وأصدقها فتكا، لنزايد على بعضنا عمن يقتل أكثر، وكذا عمن هو أشدنا شراسة ودموية همجية ومجانية، وليزدهر الموت بيننا وتتراكم أرقامه في مقابرنا الجماعية، وتتأجج الصراعات المطولة بوحشية وغباء يتكرر منذ قديم الزمن مع نفس الكائن الذي استخلفه الله على أرضه. لقد فُقِدَ الخير من البشر، وبين البشر، وجروح ملايين اللاجئين من عين العرب وعرسال إلى الأردن ولبنان ليست لها غير ضمادات وكالات الغوث، ومؤتمرات الدعم الدولي وصدقاته التي قد تصل أو لا تصل، ومجاملاته المنافقة للأيادي المنفقة، وبعض المواعظ المؤثرة هنا وهناك عن فضائل التسامح والسلم والأمن العالمي، والتي يكون مبعوثها ورسولها هو أحد صناع الخطاطة الأولية لهذه الحروب، كما هو الشأن مع "توني بليير" مبعوث اللجنة الرباعية للسلام في الشرق الأوسط، والذي أمسى يقترن الوعي بزياراته مع وفود مآسي جديدة للمنطقة، وانعطافات أخرى لصراعات تسير بروية ويقين نحو الاستدامة والاستمرار، والذي لا نعلم من أي قلب منافق يأتي بحديثه وكلامه عن السلم والأمن في منطقة يعتبر أجداده فيها إسرائيل بأنها هدية مفخخة من الغرب والرب للعرب. وبعيون هنيئة وبريئة جدا يقف العالم الغربي من بعيد ليتأمل أمام شاشات وسائل إعلامه، وليشاهد منظر أطفال سوريا يبكون من شدة الجوع، وبقلوب مرهفة جدا يجلس الإنسان الغربي ينظر إلى حشود من اللاجئين يرافقهم البرد والثلج وغصة فقدهم الوطن وهم يسيرون إلى جنوبتركيا البارد جدا علَّهم يجدون مكانا لا يذبح فيه البشر إخوانهم البشر، ولا يوجد فيه آدميون يتقربون إلى السماء بسفك الدماء، ولا أسدا ساديا وسط شعب من الأبرياء. ليظهر الواقع المرير بالحجة والدليل أن لا أمل في الضمير الغربي وفي العالم كله، فكلاهما دونما رحمة ولا قلب يجعلانهما ضجرين برؤية الآخر كيف يسحق وكيف يتلذذ بموته، لكن بقايا الإنسانية لديهما هي ما تجعلانهما دون أن ينسوا زف موتى ربيع العرب وشهدائه إلى عالم البرزخ بتدبيجات حزينة عن الإنسان، وعن فضائله قبل موته، ونكات أخرى من قبيل حضور افتتاح رسمي لمركز إسلامي، وإلقاء خطب ودروس عن الحب والتسامح التمساحي، أو بتهنئة العالم الإسلامي بحلول شهر رمضان، ولما لا حضور أحد حفلات الإفطار بمسجد في أحد مدن عالمهم، والإشادة بالديمقراطيات العربية الأكثر طوعا وطاعة. سوريا المسكينة وغيرها من بلاد الربيع العربي تجر جسدها المليء بالرضوض يوميا أمام وسائل الإعلام بكل اللغات وفي سائر بقاع المعمورة، وبدل هجوم العالم على رأس الأفعى ذات الرؤوس المتعددة، ها هو يثير المعارك الجانبية هنا وهناك، لا لإنهاء الصراع ولكن لإلهائه، وللنفخ على قبسه كي تستمر نار الفتن ولا تخبو، دون أن ينسى الغرب مسؤولياته اتجاه الإنسان ببعث أكياس الدقيق والكمادات وعلب السردين وزيت التدفئة وأغطية وخيام ليحفظ كرامته أمام التاريخ وأمام خطابات النزعة الإنسية ومقررات الأخلاق اليسوعية التي ظن "نيتشه" أنها جعلت الإنسان المعاصر مخنثا أخلاقيا، بحيث صار كائنا لا يؤذي ولا يعض، مرهف المشاعر، وطيب الإحساس، وصارت طلعته مفعمة بشيء من البلادة السمحة الظريفة. إن الذي يحدث اليوم يقودنا إلى إلحاحية وراهنية الاعتراف مع فلاسفة التنوير إلى ضرورة الاعتقاد باستحالة وجود الخير في عالم الدنيا وقيامه فيها، وكذا انتصار آله وصحبه، والتصديق بنبوءة ملائكة السماء حينما صرحوا بأن مهمتنا في هذه الأرض لا ولن تجسد الحق ولا ولن تحقق الخير ولن تحفظ الحياة في سعي ضال من الكائن البشري لأن يضاد رغبة الربّ في تحمل أمانة الحياة وإشعال مشاعل الحب وإيقاظ همم الفضيلة للضالين منا، فينتصر فينا وبدواخلنا البديل الشيطاني، وتتمادى فينا أفكار القتل وصناعة الموت دون أن نجد صعوبة في لي أعناق الدلائل الشرعية وآيات النصوص في صراع هيرمينوطيقي شرس يخرج الدين عن غاياته ومقاصده السنية، ويجعل نصوصه التي يجب أن تقرأ في خشوع مثالي ومتعالي دعوات للموت وأمرا به، ويجعلون من نفوسهم الغليظة والمستثقلة حارسة للدين والعقيدة وقائمة بشرع الله وبأماناته. إن استراتيجية الغرب اليوم هي ضرورة أن تكون هناك حروب وفوضى، لكن ليست داخل أراضيه فيكون ضحاياها من غير سكانه، ولا حتى من جنوده لا قدر الله، لهذا دعونا لا نضيع المزيد من الوقت ونترك أوربا وبنتها العزباء أمريكا اللتين لا تكفان عن حديث صالونات القرن السابع والثامن عشر الممجوج عن الإنسان وحقوقه، وعن نظم الابتهالات العميقة عن التسامح وعن كونية القيم، فما هي إلا أيام قليلة حتى تجد نفسها وسط نارها فميزة الحرب منذ قرن من الزمان أنها لا تتيح لأي دولة فرصة للحياد، وكما كان مقررا في الحروب العالمية، أن تكون المستعمرات هي موطن الحرب صارت أوربا هي مركزه وقتل الجاويش هتلر لوحده من العالمين 37 مليون أغلبهم في أوربا. الإنسان العربي بئيس الحال أمسى، وحزين الدواخل مكفهر المآل أصبحت حياته، دموعه أمست أكثر زرقة من كثرة ما نظر إلى مدد السماء، فبدل أن يواجه القتلة وأكلة لحم البشر كما في عصوره الوسطى من خارج أوطانه كما مع جحافل المغول، صار يواجه دواعش من بني جلدته يأتون من هنا وهناك، لينصبوا لفسحة عمره الفخاخ والكمائن وليعطوه مثالا صريحا وصارخا عن صدق هوبز وأنصار فكرة أن الإنسان ذئب ولا يعدو أن غير ذئب لأخيه الإنسان، وأن الأخير بدواخله وحوش جبارة مكتنزة بالبغض وبمشاعر الكراهية وأفكار القتل الممعنة في الشراسة والضلال والظلم العظيم، يقتلون بلا قضاء ولا قدر، ويمزقون لحم الأمة، ويهتكون عرضها على قارعة التاريخ، في استراتيجية ماكرة وغبية تضحك الشيطان نفسه، وتبتز وتستفز دوره في قيادة العالم نحو الجحيم، والرجل الغربي وجه الإنسانية الجميل وقلبها النضاح بالخير والحب كما يصور نفسه من بعيد يناقش إمكانية التدخل والإمكانات التي يطرحها عدم التدخل في موقف متناقض ليمنح الفرصة لدواعش الزمان لتفقأ عيون العرب عينا عينا، وليمنح أقدام اللاجئين مزيدا الشوك وعوج المسافات الطويلة، وليمنحهم شتاءات أبرد، وأياما أخرى دون مدارس ولا منازل ليكون التشرد هويتنا والجهل بصمتنا في جبين العالم، ويصبح الموت الزؤام نمط الحياة الأليف، ويصير شعر العرب بكائيات طويلة لأطلال خرساء لن تجد من يقرأ أبياتها ولا حتى من يحتفي بها في ركن جريدة ولا في مدرج كلية. أيكون خدعنا أبو القاسم الشابي بدعواه إلى الحرية، وبصدق معادلة إرادتها واستجابة القدر لما نبغي ونريد؟ ربما، بل نعم لقد خدعنا، وكان علينا ألا نصدق أبدا نصائح شاب متهور مثله، أو أن تستمع لكلام شاعر ينصاع لضرورات الشعر أكثر من ضرورات واقع سياسي تحكمه قلوب بربرية حتى الشيطان أمسى يخاف من أفاعيلها الشنعاء، والذئاب في غاباتها التي كانت تسوق بقدر مقدور ما يكفيها لغذاء جماعاتها من الذئاب، أمست تتطلع إلى السماء لينزل الله قيامته، فقد صار الرؤساء والحكام أندادها الغرباء، يسوقون شعوبهم ومعارضيهم إلى مسالخ التاريخ الموبوءة بتنسيق مع قطاعان الذئاب الجائعة المسماة في بعض البلاد بالبلطجية وفي أخرى بالشبيحة، فيقتسمون نهش لحمها، وإراقة دمها بتنسيق آخر مع دواعش كل واحد منها يحمل نفس القلب، لكن بجوازات سفر مختلفة وشراسة في القتل متقاربة القد والمقاس. على العالم أن يعي جيدا أن لعنة "معذبي الأرض" وصلت رسائلها إلى السماء، وكما حلت لعنة المستعمرات ذات يوم على مستعمريها على شكل حربين فاتكتين وشرستين كادتا تفتكان بالقارة العجوز لولا مساعدات ترومان وقنابله النووية، ولولا مشروع مارشال الخيري الكبير تجاه أوربا، ستحل بالعالم كله جميع اللعنات، وبشكل أشرس من الحرب وأفتك منها، من مثل أوبئة تسحق الجميع دون رحمة ولا مبالاة، فتسلط علينا الموت بعشق وضراوة وفي إصرار مستميت لتهبنا قرابين للذعر والرهاب، وتجعلنا خائفين حتى من نَفَسِ من نحب ومن عناقاتنا الحارة لمن نحب بعد سفر بعيد أو غربة طويلة، فنشك في رشاح بعضنا، ونعد العدة لإغلاق مطاراتنا في وجه العالم، أو إغلاق مطارات الأخير في وجوهنا فنلتزم بالوحدة القاتلة والعزلة الموحشة، جزاء حسانا على تفرج العالم لسنوات تسير نحو أن تكون عقودا عديدة على حرب موحشة تزكم أنف الأرض والسماء من النافذة دون حتى أن يتدخل لدفن جثة أخيه الانسان لكي يعلم بعد لا علمه أن الكون بيت وللبيت رب ينتقم له ويحميه. وفي الأخير وكي لا نندم، وحتى لا تنتشر في العالم فوضاه، فتصبح خرائطنا هرجا في مرج، ويصير أمر الإنسان بين يد القناصين وزوار الليل، أقول، لقد آن للعالم أن يحفظ لآلاف الأجنة في بطون آلاف السوريات والكرديات واليزيديات حقهم في أن يظفروا كما بقية أجنة العالم حينما يخرجون من بطون أمهاتهم باسم وبحارة وبمدينة ووطن ومدرسة، وبأهل وأصدقاء أيضا، وبأب لا ينتزع من بين أحضان زوجته ليعانق أحضان بندقية قيل له أنها ستحرسه وأهله من شبيحة النظام، وألا يكون في ذاكرة أحدهم خرم لأسماء من كانوا ولم يعد لهم حق في مناداتهم، وأن ينعموا في حياتهم التي أمست الأكثر قِصَراً بنعمة وبفضيلة أن يرسموا في قاعات درسهم لوحات لحقول خضراء بأسراب عصافير ما تزال أصوات مدافع الظلم التي تزودنا بها مصانع العالم المحتضر تطردها عن عالمنا عالمهم.