بين من يُطَبِّل للشيخ ومن يُصَفِّق لثقافة الشيخة، يندلق الحبر منبطحا على ورق تغليف بلاط العالم الإلكتروني العجيب، وتُوَلْوِل شفاه ذَوِي اللحى (والجلابيب) راسمة للمشهد أبعادا تنأى أكثر مما ينبغي عن مصداقية أهل الفكر وأهل الفن. لا غرابة أن نُثَمِّن رأي العارف الفقيه حرقة على المتاهة التي ابتلعت أحذية الأجيال الصاعدة بعد أن أضاع الأبناء بوصلة الحِكمة في غياب القُدوة التي تُعَبِّد الطريق إلى الصواب وتُعيد توجيه الشباب، لكن هذا لا يعني أن نُسْقِط من حساباتنا ما يتفوق فيه تلاميذ مدرسة الزمان، أولئك الذين يَكتسبون الخبرة مما تُلَقِّنُه لهم تجارب الحياة التي تَبني الإنسان. وبناء عليه، فالشيخ الضليع في علم الدين، والشيخة البعيدة كل البعد عن ميزان المتفقهين البالغين من معرفتهم مراتب اليقين، يَظل كل منهما إنسانا، والإنسان كما نَعرف ليس من الضروري أن يكون من الشياطين إذا لم يكن من الملائكة النورانيين. الإنسان ليس بالقِدِّيس ولا هو مِن سُلالة إبليس، ولأنه مجرد إنسان، فإنه يصيب مرة ويخطئ مرة أخرى، لأن القاعدة تقول إننا من الأخطاء نتعلم، ولا يختلف اثنان في أن الحياة أكبر مدرسة قد تَجعل الواحد منا مَرِنا لِيَقفز على حاجز الخطأ كما قد تَجعل الآخرَ فاشلا في تلقي دروس النجاح. العارف مجتهد يَبني علمه على البحث والدراسة العميقة، لكن ما يتعلمه من حِكمة الكتب والمقررات لا ينفي أن يستفيد غيره شيئا منه على دفعات وهو يَتَصَفَّح كتاب الحياة. الحياة تُعلمنا الإنصات، والإنصات يُرَوِّضُنا على التأمل والتدبر والقراءة بعيون البصيرة، والتأمل يَستدرجنا إلى مناجم الحكمة، والحكمة تُؤْخَذ من كل فَمٍ يَستحق أن تَنحني عقولُنا إعجابا بما يَتَفَوَّه به. الحكمة بِنْتُ التأمل العميق، والتأمل العميق يُخَلِّد التجربة، والتجربة لا تَشترِط جَوازَ سَفر إلى عواصم الثقافة... لِنَقُل إن الحكمة ابنة بيئتها. كَفانا سخرية من بعضنا وتسفيها لبعضنا الآخر، فكلما كَثُرَ الحديث عن النموذج الذي يبدو للبعض أنه غير جدير بأن يُقتدَى به في منحى من مناحيه، تَفاقَم الانتباه إليه من فرط تسليط الأضواء عليه وكأنه النموذج المثالي وأُعْطِيَ له من الاهتمام ما لا يَليق إلا بِسِواه. عَين العقل تُجِيد التقاطَ الصواب والحق، ومنطقُ القلب لا يُخطئه ذوقُ الباحث عن الحقيقة.