تعتبر الحياة البشرية العصب الرئيسي الذي تأسست على اثره مجموعة من العلاقات الانسانية المتداخلة الأنشطة والاختصاصات، ومن هذا المنطلق سعى بنو البشر و منذ عصر الانسان القديم الذي كانت تخضع فيه العلاقات لمنطق الغاب المحكوم آنذاك بمنطق موازين القوى مرورا بمجموعة من الشرائع الانسانية ثم وصولاالى الشريعة الاسلامية فاستحداث مجموعة من الاليات البديلة لتصريف أمور الحياة الانسانية عبر اخضاعها لنمط ثم الاحتكام فيه الى دساتير ثم تضمينها بالحقوق والواجبات الخاصة بالأفراد والجماعات ، ومن هذا المنطلق يمكننا القول بأن مسألة تنظيم الحياة الانسانية لم تكن لتتم في معزل عن تجاذب المصالح الذي كان يصل في بعض الأحيان الى نزاعات فردية أو جماعية ، الأمر الذي يفسر لنا ماهية اهتمام مختلف الشرائع الانسانية بتصريف مختلف هذه النزاعات عبر الاحتكام الى منطق كان يتسم بسيادة منطق الزجر وذلك اما من خلال طلبتحكيم حاكم القبيلة أو العشيرة من جهة أو التوجه الى القضاء الذي لطالما اتسم بالتعقيد المتمثل في طول مدد الحسم في القضايا المعروض عليه حلها من جهة أخرى. هذا دون أن ننسى الدور الريادي الذي لعبتهالشريعة الاسلامية في مجال تدبير نزاعات بني البشر وذلك من خلال اعتمادها اما على الحدود أو على بدائل أخرى تتسم بالسلم في أفق تحقيق السلام كالوساطة والتحكيم، وكما لا يخفى على أحد فالحياة الانسانية قد أصبحت تخضع للتطور الغير محدود في الزمان والمكان، وبالتالي وانطلاقا من مفهوم العولمة المفرطة التي أصبحت تحكم العالم بأسره والمتسمة بسرعة الاداء ومن ثمة تعدد المعاملات التي أسفرت عنظهور نزاعات عابرة للحدود ، الأمر الذي أدى بمختلف الدول ومن بينها المغرب الى التفكير في استعمال بدائل سلميةفي حلها ، و لا سيما الوساطة التي تعرف بكونها الوساطة هي مرحلة متقدمة من التفاوض تتم بمشاركة طرف ثالث يعمل على تسهيل الحوار بين الطرفين المتنازعين و مساعدتهما على التوصل لتسوية ، ولا يجوز للوسيط اتخاد قرار بات في اساس النزاع ، بل ان دوره ينحصر في محاولة تقريب وجهات النظر بين الطرفين او الاطراف وحسر الهوة بينهما وفي طرح الحلول البديلة أمامهم دون فرض أي منها عليهم، وان كان البعض يرى انه يمتنع على الوسيط حتى القيام بطرح حلول بديلة على الأطراف، ومن جهة أخرى فالوساطة تعتبر من بين الحلول البديلة لتسوية النزاعات والخلافات ،التي قد تنشا بين الأطراف، وتختلف بشكل متميز عما تفتضيه المساطر القضائية التقليدية الأصلية ، فهي عملية إرادية غير إلزامية لفض النزاعات ، يساعد من خلالها شخص محايد ، الأطراف في محاولتها للوصول إلى حل متفاوض عليه، هذه الأخيرة ثم العمل على إقرارها بمختلف الأنظمة القانونية والقضائية العصرية، وذلك بالنظر لما توفره من مزايا يتمثل أبرزها في المرونة والسرعة في البت، والحفاظ على السرية، وإشراك الأطراف في إيجاد الحلول لمنازعاتهم، هذا فضلا عن كلفتها المتواضعة نسبيا، وبالتالي وانطلاقا مما سبق ذكره يتبن لنا بأن كنه الموضوع المراد التطرق اليه بالدراسة والتحليل يمزج بين عنصرين أساسيين الا وهما الشريعة الاسلامية وتحديات العالم المعاصر في مجالات تطبيق الحلول البديلة لفض النزاعات والتي تعتبر الوساطة نواتها الصلبة الوساطة في الاسلام هي الشفاعة ، وقد تكون شفاعة حسنة أو سيئة ، والحسنة منها ما أعانت على الخير ، وتُوصل بها إلى تحصيل المباح ، دون اعتداء على حق آخرين ، وبالتالي فالاعتماد على الطرق البديلة في حلالنزاع ليس بالجديد في الفكر الإسلامي، وهذا ما يستشف من خلال الآية الكريمة:" وإن خفتم شقاق بينهما (أي بين الزوج والزوجة) فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيرا". (4/35) ، هذا دون أن ننسى الدور الذي قامت به السنة النبوية الشريفة في تثبيت المعالم الرئيسة للوساطة كآلية من اليات تصريف النزاعات بطريقة ودية وسلمية ، وخير مثال نسوقه في هذا الباب أنه عند إعادة بناء الكعبة، نشب نزاع حاد حول وضع الحجر الأسود ، بحيث أن كل رئيس قبيلة من قبائل قريش الأربع المتنازعة حول هذه القضية كان متلهفاً للحصول على السبق لوضع الحجر ، وقد وصل النزاع إلى الطريق المسدود،مما دفع بأحد الزعماء الى تقديم مقترح نال موافقة جميع الأطراف المتنازعة تمثل بالأساس في أن من يدخل الحرم في الصباح التالي سيحظى بوضع الحجر الأسود، الا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان الأول الذي وصل إلى الحرم، واعتبارا لحكمته وتبصره الخارقين لم يشأصلى الله عليه وسلم أن يتفرد بهذا الشرف لنفسه ، اذ طلب من القبائل المتعارضة أن تختار كل واحدة منها رئيسا لها، ثم بسط ثوبا من القماش على الأرض وضع وسطه الحجر الأسود، طالباً من كل رئيس قبيلة أن يمسك طرفا من أطرافه الأربعة ويرفعوه معاً، وبهذه الطريقة تم تجنب نشوب نزاع محقق من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، اذ الوقت نفسه منح الرؤساء الأربعة شرفاً متساوياً بوضع الحجر في مكانه، الأمر الذي يبين لنا بأن الشريعة الاسلامية قد دشنت من خلال كتاب الله وسنة رسولنا المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لاعتماد الوساطة كآلية فريدة لحل النزاعات بطرق سلمية بين المتنازعين احتكاما الى القاعدة الفقهية القائلةبانه:" مسموح تسوية الخلافات بين المسلمين، ولكن ليس بالاتفاق على جعل الحرام حلالا والحلال حراما" هذا وتجدر الاشارة الى أن الوساطة في الاسلام ينبغي أن تتأسس على مجموعة من الشروط التي من اللازم توفرها في القائمين بها والمتجلية في أنه:" ينبغي أن لايكونوا من الذين يرضون بالتحقيق السطحي أو التحري البسيط في القضية حتى يتم فحص كل شيء بشكل كلي أكان مع أم ضد، وعندما تشتبه أو تغمض عليهم بعض الأمور ينبغي أن يتوقفوا ويذهبوا إلى مزيد من التفاصيل حولها"، وفي نفس المضمار يقول الامام علي:" إياك والعجلة بالأمور قبل أوانها أو التقسيط فيها عند امكانها". في مجلده الواسع عن الفقه الفاطمي، كرس الفقيه الهندي المسلم البارز الدكتور آصف أصغر علي فيضي فصلاً كاملاً عن " آداب القضاة" معتمداً على كتاب دعائم الاسلام للقاضي النعمان (ت 974) الفقيه الاسماعيلي الفاطمي. وبخصوص سيرة القاضي، بين الدكتور فيضي أنه: "ينبغي أن يكون القاضي صبوراً لايظهر ضيقه لأي طرف، ويصدر حكماً فقط عند وجود بينة واضحة بشكل ظاهر، وحسب الماوردي، الفقيه المسلم الكبير، يقضي القاضي في النزاعات ويحل الاختلافات والتباينات بتحقيق التراضي بين الطرفين. ومن هذا المنطلق، يمكننا القول بأن الشريعة الاسلامية قد شكلت النواة الأساسية لميلاد الوساطة واعتبارها الية سلمية بديلة في حل النزاعات وتسويتها خارج السياق الرسمي التخاصمي، اذ غالباً مايرفع المتقاضيان إلى المحكمة أن المصلحين أجروا الصلح بينهما، مشيرين إلى أن التسوية تمت خارج المحكمة. هذا، وتعتبر النصوص القانونية الدستورية الاداة الرئيسية التي تعتمد عليها مختلف دول العالم في تصريف قضاياها سواء في علاقتها مع المؤسسات أو الأفراد والجماعات ، ومن هذا المنطلق ثم تضمين دساتيرها بمجموعة من النصوص القانونية التي تهدف في مجموعها صون الحقوق والحريات في أفق استكمال ورش البناء الديمقراطي لدولة الحق والقانون ، وبالتالي فمجمل المنازعات التي يمكنها أن تقع ثم التنصيص عليها في أبواب قانونية تتضمن مجموعة العقوبات الزجرية التي من شأنها تصحيح المسار وارجاع الأمور الى نصابها، الا أن معظم الدول ان لم نقل كلها لم تقف عند العقوبات القضائية في حل نزاعاتها مع الأطراف الأخرى ، بل نجد بأنها قد سعت كذلك الى تطبيق اليات بديلة في حل مثل هذه النزاعات كالوساطة ،فالقانون الأردني للأحوال الشخصية لعام 1976، مادة 132قد تضمن اجراءموسعاً حول الوساطة ، فهو يحدد بتفصيل واسع الاجراء الحالي الذي ينبغي أن يتبع وشروطه، من بين ما يحدد، محكمين من ذوي السمعة الحسنة والاستقامة الأخلاقية للتدخل في تحفيز المصالحة، ويجب أن يكون أمثال هؤلاء الأشخاص من ذوي الخبرة والنزاهة والقدرة على اجراء المصالحة، كما توجد شروط شبيهة لهذه في قانون الأحوال الشخصية في أقطار مثل سورية ومصر والكويت وليبيا والجزائر والمغرب وتونس وايران وماليزيا، وكذلك في قانون الأسرة المسلمة لباكستان، هذا وتجدر الاشارة الى أنه في العصر الحالي، أصبحت مكنة الوساطة من بين أهم الآليات البديلة لحل المنازعات التي أعطت نتائج إيجابية في عدد من دول العالم ، سيما وأن المؤتمر العاشر لهيئة الأممالمتحدة الذي انعقد بفيينا ناشد الدول المؤتمرة بإيجاد الآليات الكفيلة بتحقيقالعدالة التصالحية بين الأطراف، ومن مستجدات هذه المسطرة شهد القانون المقارن تحقيق السبق في الأخذ بمسطرة الصلح ومن ذلك التشريع الأمريكي والمصري والفرنسي ، اذ عمد القانون الفرنسي الى الأخذ بمسطرة الصلح بموجب القانون رقم 315-99 في المادة41 من قانون المسطرة الجنائية وهي نفس المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية المغربيالتي تتضمن بدورهامقتضيات تجيز الصلح ، والنصوص القانونية المغربية كثيرة في هذا الباب سواء تعلق الأمر بقوانين الشكل او بقوانين الموضوع. لقد أصبح اللجوء الى حل النزاع بالطرق البديلة وخاصة الوساطة أكثر اندفاعا اليوم أكبر من أي زمن آخر في تاريخ النزاع البشري، ويعود السبب إلى حد كبير، إلى عجز النظام القضائي المدني في العالم على معالجة أعباء القضايا المتزايدة ، انطلاقا من نقصالموارد البشرية المادية واللوجستية، وفي نفس السياق تجدر الاشارة الى أن الوساطة قد تم امتهانها اليوم من طرف خبراء خبراء من غير المحامين ، ظهور هذه الكفاءات الجديدة جاء نتيجة لترسانة قانونية تشجع دائما على استعمال الطرق البديلة في حل النزاعات عوض اللجوء إلى المحاكم، وفي هذا الباب قال لون فولر من جامعة هارفارد:" إن نوعية الوساطة تكمن في قدرتها على إعادة توجيه الأطراف تجاه بعضهم البعض ليس من خلال فرض أحكام عليهم، ولكن بمساعدتهم على انجاز تصور جديد وتشاركي لعلاقتهم، تصور يعيد توجيه مواقفهم تجاه بعضهم البعض." (فولر، 1971، " الوساطة: أشكالها ووظائفها"، مراجعة قانون كليفورنيا الجنوبية)، ومن هذا المنطلق فإن الصفة الرئيسية للوساطة طبقا لفولر، "هي ليس اقتراح أحكام على الأطراف، وضمان موافقتهم عليها، بل لخلق ثقة وفهم متبادلين يمكن الأطراف أنفسهم أن يتفهموا أحكامهم الخاصة"، كما أنه ، منذ 25 سنة تقريباً ابتدع فرانك ساندر من مدرسة الحقوق في جامعة هارفارد هذه العبارة (حل النزاع البديل) في مؤتمر في الولاياتالمتحدةالأمريكية، متزعماً لمنظرين وممارسين في مختلف أجزاء العالم، يتساءلون عن المبادئ الأساسية التي بنيت عليها هذه العبارة، ومن جهته أكد هوارد جادلن من المعهد الصحي الوطني على الوسطاء في حل النزاعات ، محتاجون إلى تعزيز الثقة بأنفسهم وفي عملية حل النزاع، كما أن أطراف النزاع أنفسهم يحتاجون إلى تقوية الثقة بأنفسهم قبل التمكن من الوصول إلى عتبة الوساطة. في المرحلة الراهنة يوجد في بريطانيا 1.5 مليون مسلم يمثلون التنوع والتعددية في العالم الإسلامي بأسره، وبالنسبة للأكثرية منهم، فقد أتموا 50 سنة من العيش في هذا البلد، ومن بين مساعيهم لإيجاد "مكان للإسلام" في هذا البلد فانهم يتطلعون إلى مظاهر مختلفة لحياتهم رفقة أبنائهم الذين نشأوا في هذا المحيط، ومن هذا المنطلق عمل المسلمون في بريطانيا بالاعتماد على الوساطة كبديل لتسوية نزاعاتهم الخاصة وذلك من داخل مجلس الشريعة للمملكة المتحدة، ان بريطانيا ، تسوى نزاعات المسلمين بالطرق القضائية وخارج القضاء، والأخيرة بشكل أوسع، ، هذا الأمر يمكن تفسيره الى أن مليون ونصف مسلم فيها أتوا من أصول قانونية تعددية‘ ويذهب التفكير القضائي إلى أن الاعتراف بالتعددية يحتاج – شئنا أم أبينا- إلى سند من مبادئ التعددية القانونية . تعرف "الوسائل البديلة" أو "الطرق المناسبة" لحل المنازعات، لا سيما الوساطة المؤدية الى الصلح، اهتماما متزايدا ان على مستوى الدراسات الفقهية والأعمال البحثية أو على صعيد إقرارها بمختلف الأنظمة القانونية والقضائية العصرية، وذلك بالنظر لما توفره هذه الوسائل من مزايا يتمثل أبرزها في المرونة والسرعة في البث، والحفاظ على السرية، وإشراك الأطراف في إيجاد الحلول لمنازعاتهم، هذا فضلا عن كلفتها المتواضعة نسبيا. لقد تكثف اللجوء للوسائل البديلة لحل النزاعات بالمغرب وخاصة في عصر العولمة المفرطة، المقرونةبتلبية متطلبات الأعمال، لذلك وتماشيا مع الحاجيات المستجدة والمعقدة للمقاولات والشركات، وتشجيعا لجلب الاستثمار وتحريك الادخار، ومواكبة لتياراتالتبادل التجاري، هذا التوجهواكبه إبرام العديد من المعاهدات الدولية ذات البعد الثنائي والجهوي والعالمي المنظمة لإجراءات استعمال الاليات البديلة في حل النزاعات. وفي نفس السياق، فقد حث جلالة الملك محمد السادس في مناسبات متعددة على ترقية الوسائل البديلة لفض المنازعات من خلال ادراجها ضمن اوراش إصلاح المنظومة التشريعية والقضائية،اذ دعا جلالته في يناير 2003 بأكادير الحكومة إلى "تنويع مساطر التسوية التوافقية لما قد ينشا من منازعات بين التجار، وذلك من خلال الإعداد السريع لمشروع قانون التحكيم التجاري، الوطني والدولي، ليستجيب نظامنا القضائي لمتطلبات العولمة"، ودعما للوساطة المؤسساتية فقد تأسس عدد من مراكز التحكيم والوساطة أو التوفيق بالحواضر الكبرى للمملكة (الدارالبيضاء، الرباط...) ومنها مركز وجدة للوساطة والتحكيم الذي تم إحداثه سنة 2008، بالإضافة إلى المركز الاورو-متوسطي للوساطة والتحكيم بالدارالبيضاء، ومركز التحكيم بين الغرف التجارية لأكادير ولاس بالماس وتنيريفي...، كما أنه ورغبة منه في تقوية الأساس القانوني لالية الوساطة كبديل لحل النزاعات بالمغرب قام المشرع بإصدار القانون رقم 05-08 الذي نشر في الجريدة الرسمية رقم 5584 بتاريخ 16 ديسمبر 2007 والذي سنمن خلاله إجراءات جديدة تنظم الوساطة الاتفاقية. على إثر التحولات السياسية التي كانت طرحت على المغرب في تفاعلاته مع مكونات مجتمعه السياسية الاقتصادية والاجتماعية، أنشئت هيئة الإنصاف والمصالحة في مرحلة دقيقة ومهمة في سيرورة التطور الذي عرفه المغرب، منذ بداية التسعينات، وتعتبر هيئة الإنصاف والمصالحة، انطلاقا من كونها آلية للعدالة الانتقالية، بمثابة ثمرة من ثمرات هذا التطور التدريجي، الصعب والمركب في حل المشاكل والملفات المرتبطة بحقوق الإنسان، ومحصلة للتفاعلات والنقاشات على مستوى الطبقة السياسية والقوى الفاعلة في المجتمع المدني، في أفقالبحث عن أحسن السبل لتسوية نزاعات الماضي وحلها بشكل عادل ومنصف. هذا وتندرج تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة ضمن ما أصبح متعارفا عليه اليوم بلجان الحقيقة والمصالحة عبر العالم، والتي يتم إحداثها في سياق ما يسمى ب "العدالة الانتقالية"، وهي مفهوم يحيل على قضايا معروفة في "علوم الانتقال السياسي"، وغيرها من الدراسات التي تهتم بالموضوع، هذا الأخيريشير في معناه القريب الى سياق تسوية المشاكل والآثار المترتبة عن ممارسات الماضي، في محاولة لتطبيق أشكال من العدالة تكون ملائمة لمرحلة الانتقال الديمقراطي السليم. وبالنظر للفضاء الجغرافي والتاريخي والحضاري للمغرب، فإن تجربته في مجال الحقيقة والإنصاف والمصالحة تعتبر غير مسبوقة، اذ يرى الملاحظون من خارج هذا الفضاء أن أولى الخصائص التي تميز التجربة المغربية تتمثل في أنه، و لأول مرة ضمن حوالي 40 تجربة عبر العالم، يتم في بلد سائر في طريق النمو التأسيس لإقامة نظام يهدف الى التصالح مع الماضي في أفق بناء مستقبل ديمقراطي وحداثي يحتكم فيه الى العهود والمواثيق الدولية الخاصة بتنظيم حقوق وواجبات الأفراد والجماعات من خلال المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. وفي هذا الصدد، تم تسجيل انبعاث إرادة الانخراط في هذا المسار من داخل النظام نفسه، الذي قرر بجرأة وحكمة إحداث قطائع إيجابية في اتجاه التحديث والديموقراطية ووضع حد لاستعمال العنف في تدبير الخلافات السياسية وتعويضه بالطرق البديلة المتمثلة في الوساطة من خلال تأسيس هيأة كهيئة الانصاف والمصالحة. هذا، وتجدر الإشارة في هذا الصدد أن الأمين العام للأمم المتحدة قد ذهب في تقريره المقدم لمجلس الأمن حول "سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع" (غشت 2004) ، إلى تصنيف التجربة المغربية ضمن التجارب الخمس الأوائل من بين ما يزيد عن 30 تجربة. لقد عملت هيئة الانصاف والمصالحة باستلهام مجموعة من الأفكار الرئيسية التوجيهات الملكية السامية والتراكمات الحقوقية الوطنية،مما مكنها من وضع نظام أساسي ومناهج وطرق عمل في مستوى طموحات البلاد في القطع مع التجاوزات السلبية، والتعاطي الإيجابي مع طي ملف ماضي حقوق الإنسان بالمغرب، ومن هذا المنطلق يمكننا القول بأنها قد ساهمت في تأصيل التجربة المغربية في مجالالعدالة الانتقالية، من خلال منطلقات وأهداف استراتيجية وخطة عمل لتحقيقها،مركزة في ذلك على الكشف عن الحقيقة وإقرارها بصفة عمومية، إذ تمتد من بداية الاستقلال إلى صيف 1999، وقد تطلبت هذه المهمة الوقوف عند سياقات الأحداث ، والتطور القانوني والمؤسساتي لقضايا حقوق الإنسان خلال تلك الفترة، كما اعتمدت فلسفة خاصة ومقاربة شمولية في مجال جبر الأضرار وإنصاف الضحايا، من خلال سياسة وبرامج تميزت بأكثر من قيمة مضافة في هذا المسار، كما أنه ورغبة منها في تعزيز الإصلاحات الجارية وتأمين الوقاية اللازمة لعدم تكرار ما جرى، بلورت الهيئة توصيات ومقترحات في مجالات الديموقراطية وبناء دولة القانون والمؤسسات واحترام حقوق الإنسان وسيادة القاعدة القانونية، وبالتالي يمكننا القول بأن هذه المؤسسة ذات البعد التصالحي بامتياز، قد عملت منذ تأسيسها على تثبيث الأسس الكفيلة بتحقيق نمط الوساطة كبديل لحل النزاع بشكل سلمي بين الدولة والمواطن ، وذلك من خلال: - تنظيم لقاءات تواصلية بالتعاون مع مؤسسات تعليمية وتربوية للتعريف بمهام الهيئة؛ - تنظيم جلسات استماع عمومية للضحايا وجلسات خاصة مع بعض الشخصيات التي عاصرت أحداث معينة؛ - تأطير العديد من الأنشطة التي نظمتها جمعيات ومؤسسات وطنية تهتم بمجالات التنمية والتربية على حقوق الإنسان - التعريف بالتجربة المغربية في مجال التسوية غير القضائية لماضي الانتهاكات في العديد من المحافل والمنتديات الدولية (مونتريال، برلين، بروكسيل، أمستردام، القاهرة، باريز، جنيف)؛ - تنظيم دورات تدريبية لمنظمات غير حكومية عربية في مجال العدالة الانتقالية؛ - تنظيم جلسات حوارية حول المواضيع التالية: - إشكالية الانتقال الديمقراطي؛ - تجاوز العنف كاستراتيجية للتدبير السياسي؛ - الإصلاحات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي؛ - الإصلاحات على المستوى التربوي والثقافي؛ - الإصلاحات التشريعية والتنفيذية والقضائية. - عقد لقاء حول الأرشيف بالمغرب الخ... إن نجاح الوسائل البديلة لحل المنازعات وخاصة الوساطة ، بالرغم كل ما قيل في حقها ونظرا لحداثة التعامل بها ومعها، يبقى في الغالب الأعم رهينا بمدى الاستعداد الذي يمكن أن تبديه الأطراف المتنازعة في التفاوض والتصالح، وتسوية النزاع، وتنفيذ المقررات المتوصل إليها ومدى استيعابها لجدوى هذه العدالة اللينة، السريعة والفعالة والتي لا تتطلب شكليات مفرطة في الحصول على رضي الأطراف، وإنما المهم هو أن يكون هناك اتفاق على اللجوء لهذه الوسائل من طرف المتنازعين، وبالتالي فرهان تطبيق هذه الطريقة مقبول ونجاح التجربة رهين بتوعية الفاعلين في الحقل القضائي والقانوني ، والمجتمع المدني والمشاركة الإيجابية للإعلام، وتوافق صيغتها مع التقاليد المحلية الخاصة، ومدى تفهم الجهة التشريعية لهذه الثورة القضائية الإيجابية والناجعة، التي تهدف للبحث عن مصالح الأطراف في أسرع وقت وبأقل تكلفة محافظة على الأسرار، ومن هذا المنطلق يمكننا القول بأن ركوب قاطرة الوسائل البديلة لحل المنازعات أي الوساطة ، قد أصبح مطلبا، إنسانيا، اقتصاديا، واجتماعيا ملحا وممكنا، غايته تلافي تراكم الملفات بمحاكمنا إذا ما تكاثفت الجهود وتوافرت النوايا الحسنة –"إذ لا عدالة مع سوء النية" أخيرا ، لما كان مشروع الوسائل البديلة لحل المنازعات يندرج في سياق تحديث وإصلاح مؤسسة القضاء بشكل عام، فإن المسؤولية مشتركة في تفعيله على أرض الواقع عبر ضمان اشراك حقيقي وفعال لكل من: - فعاليات المجتمع المدني: وذلك لمالها من دور فعال في هذا المجال، اعتبارا من كونها مجتمعات للقرب الكفيل بتحقيق التواصل الدائم وغير المشروط مع المواطنات والمواطنين ،واعتمادا على المقتضيات الدستورية الجديدة المتضمنة في دستور المملكة لسنة 2011 ، التي أصبحت منظمات المجتمع المدني تتوفرمن خلالها على مكنات جديدة في مجال تدبير المسلسل الاقتصادي والاجتماعي المغربي ، اذ أصبح بإمكانها تقديم عرائض ومذكرات مطلبية ، والتي وبالرغم من قوتها الاقتراحية الا أنها ستساهم لا محالة في تنوير الطريق أمام مدبري الشأن العام الرسميين في مجال حل النزاعات؛ - الأحزاب السياسية المغربية : اذ أصبحت مطالبةبإعادة النظر في علاقتها مع المواطن الذي يعد سبب نشأتها ، الأمر الذي لا يمكننا الوصول اليه الا من خلال قيامها بمهامها التأطيرية بشكل تحترم معه الخصوصية المغربية ، في أفق تمكن المواطنات والمواطنين المغاربة من فهم حقيقي لماهية الوساطة كآلية أساسية من الاليات البديلة لحل النزاعات بالمغرب؛ -النقابات المهنية : عبر القيام بتكوينات مباشرة وغير مباشرة للعمال والمهنيين فيما يتعلق بأهداف ونتائج الوساطة باعتبارها الية من اليات تصريف النزاعات بطريقة سلمية؛ - الاعلام السمعي البصري : وذلك من خلال تقديم برامج اذاعية تلفزية ولمالا موسوعات الكترونية تهتم بمهمة التحسيس بأهداف ونتائج الاحتكام الى الوساطة كآلية من الاليات السلمية في حل النزاعات بالمغرب؛ - المدارس والجامعات : عبر اعداد مناهج تربوية وتثقيفية تهتم بالتعريف بالوساطة كالية من الاليات البديلة في حل النزاعات وماهية اثارها على الفرد والمجتمع الأمر الذي وان ثم تطبيقه سيمكننا من ترسيخ معالم الجنوح الى السلم لدى المواطنات والمواطنين المغاربة في حل نزاعاتهم الفردية الجماعية ولمالا المؤسساتية.