رد الرد على مقال " الحركة الإسلامية: قبل الهدف أو الوسيلة" "" لابد من الإشارة أن الفكر المتحرر يحترم أراء الآخرين وتوجهاتهم في الأخذ والرد، والنقد والنقد المضاد، والإقناع والرفض المقنع، ليس انتصارا للذوات والنفوس بقدر ما هو انتصار للحق وخدمة للقضية، بفتح آفاق التحليل والنقاش الهادف والتدافع المحمود، على عكس العقليات الصلبة والمتحجرة التي تنحو منحى التقديس والانغلاق والجمود الفكري والقطعية المطلقة والاتهامات الجاهزة. دعونا نقول إن لدى كل واحد منا درجة من التصلب الفكري ، بحسب التأثر والانبهار وبحسب التربية والعقلية وكذا الفهم والإدراك. و في مقالي هذا لا أود إتّباع أسلوب "الفنقة" بأنكم قلتم ثم أقول فتقولون لأقول، لنحكم على أنفسنا بالدوران في حلقة مفرغة ونقاش ثنائي لا آخر له ولا نهاية...بقدر ما هي توضيحات لا بد منها. ما أود أن أصل إليه من خلال مقالي السابق، ومقال الأخ "عبد الكريم كعدواي"، وكذا الأخت "أسماء اغتراب" بمدونتها شذو الجراح - تحت عنوان:" بين الدعوة للتنظيم و الدعوة للدعوة"..-، مع الاختلاف الحاصل هو مناقشة نقدية للتنظيمات والوقوف على أخطائها وثغراتها، إصلاحا لا هدما، وتقويما لا زعزعة بوضعنا تساؤلات جادة حول وجودها القائم و عملها الحاضر..في أخطاؤها، وعيوبها، ونهجها، وسياستها، وأهدافها...، بعيدا عن التصلب الفكري و التزمت التنظيمي و التحيز المنهجي. إذ ما لفت انتباهي بداية في مقال الأخ "عبد الكريم كعدواي"، عنوان المقال "الحركة الإسلامية: قبل الهدف أو الوسيلة"، و أضع سطرا على "قبل الهدف"، فحينما تحدثت عن معنى الهدف من وجود التنظيم في مقالي السابق إنما كنت أقصد الغاية التي من أجلها نشأت الحركة الإسلامية أي الدعوة إلى الإسلام ، وأي وسيلة هذه التي تسبق الهدف!! ما لم تكن الغايات أولا فتأتي بعدها الوسائل ثانيا، وكأن الأخ يدعونا بقوله إلى الاعتقاد بأن الحركة الإسلامية وسيلة سبقت الإسلام أو أن التنظيمات آليات جاءت قبل الدعوة للإسلام وجاءت كحتمية ضرورية لا تنفك عن حركة الإسلام. وهذا في نظري خلل في المنهج والأسلوب. وحينما قال صاحب الرد"خاصة وأنها تؤخذ بجريرة أفعال شخصية" مدافعا عن جريرة شخص، نسي أن يكون ذاك الشخص مرشدا أو قائدا ، له القدرة بجرة قلم أو بيان سياسي يدعو فيه أتباعه للتمرد أو العصيان المدني، قد تدخلنا في فتنة أكبر تفوق جريرة فعل شخصي، فهذا الاستصغار للزلات والجرائر على رأس القيادة ما لم يكن بمبدأ الشورى للعلماء والحكماء، فرب جريرة عند البعض تأخذ البلاد والعباد إلى ما لا يحمد عقباه. ولما ذكرت المفارقة بين الخطاب والسلوك على حد تعبيري "كيف لا وزعيم إسلامي، أو منظر، أو فاعل إسلامي ينفق في عرسه أو عرس ابنته ما لا يستطيع أن ينفق عشر عشره على قضية إسلامية عادلة"، كان المعنى واضحا لمن يرى ببصيرة العقل لا ببصر العاطفة، أن القصد هو التبذير والإسراف في الإنفاق، لننهل من قوله تعالى: { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (العلق:6-7)، وقول النبي عليه السلام لما قال الصحابة، " وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت". فهل من شيم الإسلام الحق ومبادئه، -أقول الحق- أن يغتني ويفرح المسلم وقد كفاه الله من الضروريات لينتقل للكماليات والتحسينيات، ويكفي هنا قول النبي عليه السلام: { من أصبح آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها }حديث صحيح، رواه الترمذي، ولهذا من ملك قوت يومه فقد حاز الدنيا و يكون في منأى طغيان الغنى وهوان الفقر، فبالكاد نتشدق بالقضية الفلسطينية وحصار غزة ... ثم ما قاله صاحب الرد أني أروج للدروشة، بقوله "حتى أضحى يروج للدروشة في صفوف القاعدة الإسلامية"، فليس عيبا أن أروج للدروشة إن سلمنا بذلك، باعتبار الدروشة مفهوما للطيبة والزهد وليس كما اعتبره الأخ الفاضل ضعفا واستكانة وانكسارا وإذلالا اختلطت عليه في ذلك المفاهيم، واستناده للحديث الشريف "اليد العليا خير من اليد السفلى" في حين ما دخل اليد العليا والسفلى بالفقر والعسر؟، بمعنى أن كل من هم فقراء ومعسرين من المسلمين هم في نظر أخينا ضعفاء، فوقع اللبس بين هذا الحديث وحديث آخر"المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" ، وإذا ما عدنا لمعناه نجد أن المؤمن القوي في إيمانه، والقوي في بدنه وعمله، وليس المؤمن من تقوّى بماله.لأن المال في الأخير مال الله ، و المال في الإسلام وسيلة لا غاية...، وما العيب في الدروشة ؟ انطلاقا من عشرات الأحاديث النبوية وشمائل سيرته فالدروشة والزهد كانت لصيقة بخلق النبي القدوة عليه الصلاة والسلام ،وأكتفي هاهنا بالاستدلال بحديث واحد أراه موفيا للغاية و كاشفا للمقصد، رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لو كان لي مثل أُحِد ذهبا ما يسرني أن لا يمر علي ثلاث وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين" رواه البخاري. أما ما طرحه الأخ "كعدواي" في تساؤله "وكم من القيادات التي لم يسعفها رصيدها المادي لشراء سيارة في مستوى من يدور في فلكها المهني؟" ...، وما الضير في امتلاك سيارة بسيطة تفي بالغرض؟ لأن كل من يصل الفلك المهني وجب في حقه لبس فلك الأبهة، كان هذا الفلك أولى لأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما دخل على الأقباط يتسلم مفاتيح "المقدس" فكان لزاما عليه أن يلبس فلك الخلافة، أم أن الأبهة والانبهار بالتحضر أغوت القاعدة والقادة الإسلامية. ولا أود أن يفهم أنها دعوى للتفقير والتعسير ويؤخذ كلامي على غير القصد الذي يجب أن يفهم في سياقه. وعليه ما وصل له كثير من القيادات داخل الحركات الإسلامية هو نتيجة غيرة أبناء التنظيمات من باب غيرتهم على الدين فاغتنى من اغتنى من هؤلاء، إما بالاتجار في الكتب التي يؤلفونها، لأنه لولا أن أتباعه ما أخذوها أخذ عزيز مقتدر لأكلها الغبار والتراب في رفوف المكتبات، ومن أوصل فلان وعلان إلى قبة البرلمان باسم المشروع الإسلامي تحت يافطة الحزب الإسلامي بحيث لا تنقضي عليه المرحلة النيابية حتى تجب ما قبلها، وكان الفضل في الأول والأخير للقاعدة وأبناء الصحوة الإسلامية في تقديم تضحياتهم بحكم " من خدعنا في الدين انخدعنا له". ولما نقرأ "حتى إذا افترضنا جدلا أن هناك قيادات فاسدة تستغل المشروع لحسابها الخاص"على حد تعبير الأخ، هل معناه أن نستبق الأحداث ونؤصل لقيادات فاسدة تنضاف لقيادات سبقتها بالفساد، ولأن التعميم مسألة مبالغ فيها نقول البعض وليس الكل، إلا من هم في دائرة النقد. واسمح لي أخي بمجرد أن يُعلم بفساد القيادة يجب أن تتنحى عن كرسي الريادة طوعا وإلا جبرا إن أمكن، لأنه لا يحكم ولا يقود ولا يتزعم قائد فاسد تنظيما تربويا. أما الجواب على هذا التساؤل الذي طرح علي كسابقه بشكل مباشر "وهل هذا الأمر خاص بالحركة الإسلامية أم أنه ظاهرة عامة في المجتمعات المتخلفة حضاريا وعمرانيا؟" بما أن الحركات الإسلامية التي تعتبر نفسها تمتلك القدر الكافي من التربية على خلاف المجتمع بحكم الجلسات التربوية واللقاءات والرباطات..، وأما أن تتساوى الحركة الإسلامية من حيث تربية أبنائها مع تربية المجتمع البسيط كما جاء ضمن السؤال الأخير، فلما أصلا هذا التميز تحت مسمى "الإسلاميين "والتنظيم الإسلامي مادامت الحركة الإسلامية مجتمع مصغر داخل مجتمع كبير متخلف كما جاء على حد الوصف. ثم ما استعمله صاحب الرد في مقاله استحضار المعطى الإنساني لم يكن هناك أي معطى ولا يحزنون، فقط أراد أن يقولني ما لم أقله في كلامي "كثير من العاملين في حقل الإسلام لم يستوعبوا حقيقة العمل الإسلامي"، ولم أقل عنهم معصومون لا يخطئون، لأن هناك فرقا بين كلمة الاستيعاب وما أراد الأخ أن يقولني إياه في إساءة للعاملين ضمن حقل الإسلام، فالاستيعاب شيء والعصمة شيء آخر. الحركة الإسلامية في الأخير ما هي إلا آلية ووسيلة للدعوة، من بين الوسائل التي تنحو منحى الدعوة، فأصبح الجميع يدعو الجميع للحركة الإسلامية بشتى تلاوينها وتصوراتها المعقدة والمركبة وآلياتها وهيئاتها الكثيرة والمتنطعة، بدل دعوة الناس لمنهاج الإسلام وتيسيره لهم. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }القمر17. دون أن ننسى انحراف هذه الحركات في أولويات مسارها الدعوي، فاشتغلت بما هو سياسي في طلب الإصلاح السياسي ودخولها هذا المعترك في صياغة للمشهد السياسي الانتخابي دون أن نغفل معارضة العمل الحزبي من آخرين هم أيضا ضمن التنظيمات الإسلامية، ومن هنا لم تعد الحركات ابتداء حركات دعوية لتتحول بذلك إلى حركات احتجاجية وسياسية محضة. السؤال المطروح كم مر على وجود هذه الحركات الإسلامية؟ و كم من الزمن استغرقت في بناء ذاتها منشغلة عن الناس وقضاياهم ؟ وانكبابها على العمل في بناء تلك الإطارات التي خندقت نفسها داخلها وخندقت معها عشرات، بل آلاف الشباب المتحمس في غثائية ليس لها نظير، دون أن توظف إبداعه واندفاعه للعمل بشكل أكثر ديناميكية، فقط تفلح في جلبهم واستدعائهم لرفع الشعارات والصراخ بضع دقائق من أيام السنة الطويلة على قضية من قبيل القضايا الإسلامية (القضية الفلسطينية نموذجا)، ثم ما إن تلبث حتى تعود لسباتها العميق طيلة السنة تنتظر الكيان الصهيوني يشعل فتيل مزايداتها بمجزرة جديدة. وما المظاهرات إلا كمثل "البرق الذي لا مطر" ، والشعارات والخطابات كأنها القمر الذي يلمع ويتغنى به الشعراء، فإذا وطئته كان حفرا ومطبات. وأستغرب لماذا ينزعج البعض حينما نساءل الحركة الإسلامية؟ ولماذا لا يكون السؤال إلى متى هاته الحركات؟ ولماذا لا نسائلها وننتقدها ما دامت تحمل مشعل التغيير؟ لماذا إذن ترفع هذه الحركات شعارات ولافتات التغيير والتجديد وهي غير قادرة على حملها وتحملها، وهي أحوج من غيرها إلى تجديد ذاتها في محاولة منها مواكبة العصر المتسارع والمتقلب، فأصبحت بالكاد إن قامت تقوم فقط بردود الأفعال وتقف موقف دفاع تدود فيها عن الدعوة والإسلام بردود أفعال لا بالأفعال، وعاجزة عن صناعة الفعل، وما إن تحقق المقاومة الإسلامية في شرق البلاد الإسلامية من لبنان أو فلسطين أي انتصار على سبيل المثال حتى يتنفس المترقبون داخل الحركة الإسلامية الصعداء ... فالتنظيمات الإسلامية أو الحركات تحت أي مسمى كانت أو أي مصطلح أو مفهوم، ليست مسرح معركتنا تحديدا، لأن الصراع الحقيقي تدور رحاه بالأساس على قضية الإنسان وإنسانيته، ولأن الذي يريد أن ينكر الدور الذي لعبته الحركات الإسلامية إما هو حاقد أو جاحد. وفي نفس الوقت ما أراه من وجهة نظري أن ما وقع فيه أبناء التنظيمات دودا عن التنظيم بمبدأ "عقدة المؤامرة "، "وعقدة المخزن" جعلهم يسقطون في دوامة تقديس التنظيم إلى درجة الثمالة. ولذلك فأمام هذه التنظيمات التي ليست إلا تنظيمات ميكانيكية اجتهد من أنشأها في حيز معين ومكان معين، تبقى في الأخير العودة لسماحة الإسلام الرحب ونقائه الطاهر من نبع القرآن والسنة، هي الركيزة الأساسية لمن هو في التنظيم أو من كان خارج التنظيم، وإلا سنقف أمام نتيجة حتمية هي ضياع الدين من الفرد والجماعة والتنظيم . وفي الختام يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله)) رواه البخاري ومسلم، لتظل المهمة الأولى هي إقامة الدين وحفظ تعاليمه على مستوى الذات بداية وانتهاءا، لا البحث في صخب وزحمة التنظيمات المتفرخة، كل يدعي وصلاً بليلى ... وليلى لا تقر له بذاك. طاقي محمد -طالب باحث ومدون مغربي. (وجدة) [email protected]