جدد دعم المغرب الثابت لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة :جلالة الملك يهنئ الرئيس الفلسطيني بمناسبة العيد الوطني لبلاده    المغرب: زخات مطرية وتياقط الثلوج على قمم الجبال ورياح عاصفية محليا قوية اليوم وغدا بعدد من الأقاليم    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يكشف عن قائمة الأسماء المشاركة في برنامج 'حوارات'    خناتة بنونة.. ليست مجرد صورة على ملصق !    محكمة فرنسية تأمر بالإفراج عن الناشط اللبناني المؤيد للفلسطينيين جورج عبد الله بعد 40 عاما من السجن        إجلاء 3 مهاجرين وصلوا الى جزيرة البوران في المتوسط    البرلمانيين المتغيبين عن أشغال مجلس النواب يقدمون مبررات غيابهم ويؤكدون حضورهم    حماس تعلن استعدادها لوقف إطلاق النار في غزة وتدعو ترامب للضغط على إسرائيل    جثة عالقة بشباك صيد بسواحل الحسيمة    لوديي يشيد بتطور الصناعة الدفاعية ويبرز جهود القمرين "محمد السادس أ وب"    مكتب الصرف يطلق خلية خاصة لمراقبة أرباح المؤثرين على الإنترنت    "السودان يا غالي" يفتتح مهرجان الدوحة        قتلى في حريق بدار للمسنين في إسبانيا    هذه اسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    اقتراب آخر أجل لاستفادة المقاولات من الإعفاء الجزئي من مستحقات التأخير والتحصيل والغرامات لصالح CNSS    المركز 76 عالميًا.. مؤشر إتقان اللغة الإنجليزية يصنف المغرب ضمن خانة "الدول الضعيفة"    كارثة غذائية..وجبات ماكدونالدز تسبب حالات تسمم غذائي في 14 ولاية أمريكية    الطبيب معتز يقدم نصائحا لتخليص طلفك من التبول الليلي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    "خطير".. هل صحيح تم خفض رسوم استيراد العسل لصالح أحد البرلمانيين؟    التوقيت والقنوات الناقلة لمواجهة الأسود والغابون    وكالة الأدوية الأوروبية توافق على علاج ضد ألزهايمر بعد أشهر من منعه    مدينة بنسليمان تحتضن الدورة 12 للمهرجان الوطني الوتار    بمعسكر بنسليمان.. الوداد يواصل استعداداته لمواجهة الرجاء في الديربي    ارتفاع كبير في الإصابات بالحصبة حول العالم في 2023    رصاصة تقتل مُخترق حاجز أمني بكلميمة    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على الجزء الأول من مشروع قانون المالية 2025    وليد الركراكي: مواجهة المغرب والغابون ستكون هجومية ومفتوحة    رئيس الكونفدرالية المغربية: الحكومة تهمش المقاولات الصغيرة وتضاعف أعباءها الضريبية    نفق طنجة-طريفة .. هذه تفاصيل خطة ربط افريقيا واوروبا عبر مضيق جبل طارق    ترامب يواصل تعييناته المثيرة للجدل مع ترشيح مشكك في اللقاحات وزيرا للصحة    الأحمر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    فيضانات إسبانيا.. طبقا للتعليمات الملكية المغرب يعبئ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني    تصريح صادم لمبابي: ريال مدريد أهم من المنتخب            الأردن تخصص استقبالا رائعا لطواف المسيرة الخضراء للدراجات النارية    محكمة استئناف أمريكية تعلق الإجراءات ضد ترامب في قضية حجب وثائق سرية    حرب إسرائيل على حزب الله كبدت لبنان 5 مليارات دولار من الخسائر الاقتصادية    أسعار النفط تتراجع وتتجه لخسارة أسبوعية    وفاة الأميرة اليابانية يوريكو عن عمر 101 عاما    "الأمم المتحدة" و"هيومن رايتس ووتش": إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    جدعون ليفي يكتب: مع تسلم ترامب ووزرائه الحكم ستحصل إسرائيل على إذن بالقتل والتطهير والترحيل    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«لا إكراهَ في الدِّين»: قَبْلَ "الإسلام" وبَعْدَه!
نشر في هسبريس يوم 04 - 11 - 2013

«لا إكراه في الدِّين، قد تَبيَّن الرُّشد من الغَيِّ ؛ فمن يَكفُر بالطّاغُوت ويُؤمن باللّه، فقد استمسك بالعُرْوة الوُثقى لا انفصام لها ؛ واللّه سميعٌ عليمٌ.» (البقرة: 256)
«ولو شاء ربُّك، لآمن مَنْ في الأرض كلُّهم جميعا. أفَأنتَ تُكْرِهُ النّاس حتّى يَكُونوا مُؤمنين؟! وما كان لنَفسٍ أن تُؤمن إلّا بإذن اللّه، ويجعلُ الرِّجْس على الذين لا يَعقلون! قُلِ: "ﭐنْظُروا ماذا في السّماوات والأرض!" ؛ وما تُغني الآياتُ والنُّذُر عن قومٍ لا يُؤمنون!» (يونس: 99-100)
«[...] إلّا من أُكْرِه وقلبُه مُطمئنٌّ بالإيمان![...]» (النّحل: 106)
الذين يَنطلقون من مُسلَّمةِ أنّ «حقوق الإنسان»، كما صِيغتْ حديثا قبل بضعة عُقود، تُمثِّلُ قطيعةً معرفيّةً وسياسيّةً بالنِّسبة إلى كل ما سَبَقها دينيّا وفلسفيّا لا يَكتفون فقط بارتكاب مُغالَطةٍ منطقيّة (إيجابُ "الانفصال" حيث لا مناص من إثبات "الاتِّصال")، وإنّما يَجرُؤون على الوُقوع في مُفارَقةٍ تاريخيّة تتمثّل في رُجوعهم الاستدباريّ لمُحاكَمةِ كل "التُّراث" الفكريّ والدِّينيّ المُتعلِّق بالعصر الوسيط والعصر القديم كما لو كان تُراثا يُعبِّر فقط عن طبائع "الاستعباد" ومَصائب "الاستبداد"!
ولذلك، فلا عجب أن تَجدهم يُصرُّون إصرارًا على القول بأنّ نصّ «لا إكراهَ في الدِّين» لا يُعبِّر عن رُوح «الإسلام/الدِّين» الذي يبقى - في ظنِّهم- نظاما عَقَديّا ومذهبيّا قائما على "الإكراه" قهرًا وتسلُّطًا. ومن لم يجد بُدّا من الاعتراف بامتياز "الإسلام" على غيره، تراه يَقْصُر دلالةَ ذلك النّص على حال النّاس قبل الدُّخول فيه أو حالةَ «أهل الكتاب» (اليهود والنّصارى) الذين كانوا يُجبَرون – رغم ذلك- على دفع "الجِزْية" (للبقاء، في ظنِّه، على دينهم ؛ وليس لحماية أنفسهم ومُمتلَكاتهم من دون المُشارَكة في الحرب!)، وإلّا فإنه لا يَتردّد عن القول بأنّ حُكم «لا إكراهَ في الدِّين» قد نُسِخ بعد نُزول ما سُمِّي جِزافًا «آية السّيف» (التوبة: 5)!
وإذَا كانت البداهةُ تَحكُم بأنّ أمرَ القُلوب لا سبيل إليه - في الواقع- مهما تَكُن سطوةُ القهر والسلطان، فإنّ مُشكلةَ «حُريّة المُعتقَد والضمير» لا يُمكن أن تُعالَج في "الإسلام" فقط بنفي أخذه بالإكراه في الدِّين ؛ وإنما لا بُدّ من تَبيُّن أنّ «رُوح الدِّين» – و، من ثَمّ، «رُوح الشّريعة»- لا تَنْفكُّ فيه عن الإيمان بأنّ اللّه – عزّ وجلّ- إنّما يَتعرَّفُ لعباده ابتداءً بأنّه «الرّحمان، الرّحيم» وبأنّه «أرحم الرّاحِمين» ([الأعراف: 151] ؛ [يُوسف: 64 و92] ؛ [الأنبياء: 83])، بل بأنّه سبحانه «خير الرّاحِمين» ([المؤمنون: 109 و118]) وأنّ «رحمتَه وَسعتْ كل شيء» ([الأعراف: 156]) وأنّ «رحمتَه سبقت نِقمتَه» ([البُخاري: 7553 و7554] ؛ [مُسلم: توبة 14-16]) وبأنّه «لا تُنزع الرحمة إلّا من شَقيّ» ([الترمذي: بِرّ، 16] ؛ [أحمد: 3، 301، إلخ.])، وأنّ سيِّد المُرسَلين ونبيّ "الإسلام" ﭐختُصّ بالرّحمة «وما أرسلناك إلّا رحمةً للعالَمين!» ([الأنبياء: 107]). ومعنى هذا أنّ العذابَ لا يَحقّ إلّا على الظّالِمين وأنّ العقاب جزاءٌ للمُجرِمين!
ومن ثَمّ، فإنّ من مبادئ «فقه الشّريعة» (كما يُقرِّر علم «أُصول الفقه») أنّ «الحَرج مرفوعٌ شَرْعا» («ما يُريد اللّهُ ليَجعل عليكم من حَرج ؛ ولكنْ يُريد ليُطهِّرَكم» [المائدة: 6] ؛ «هو ﭐجْتباكم، وما جعل عليكم في الدِّين من حَرج.» [الحجّ: 78]) وأنّ «الضرورات تُبيح المحظورات» («فمنِ ﭐضْطُرّ غير باغٍ ولا عَادٍ، فلا إثْمَ عليه!» [البقرة: 173] ؛ «فمن ﭐضْطُرّ غير باغٍ ولا عادٍ، فإنّ اللّهَ غفورٌ رحيمٌ!» [النّحل: 115]) وأنّ «الحُدود (العُقوبات) تُدرَأ بالشُّبُهات» («ادفعوا الحدود ما وَجدتم لها مَدْفَعًا.» [ابن ماجه: حدود، 5] ؛ «ادْرَأُوا الحُدود عن المسلمين ما استطعتم، فإنْ كان له مَخرج فخَلُّوا سبيله، فإنّ الإمام لأن يُخطئ في العفو خيرٌ له من أن يُخطئ في العقوبة!» [التِّرمذي: حدود، 2])، وأنّ «الرِّفْق مطلوبٌ في كل شيء» («إنّ اللّهَ يُحبُّ الرِّفْق في الأَمر كُلِّه.» [البُخاري: 6024] ؛ «[...] إنّ اللّهَ رفيقٌ يُحبّ الرِّفق ويُعطي عليه ما لا يُعطي على العُنف.» [مُسلم: 2593] ؛ [ابن ماجه: أدب، 9] ؛ «إنّ الرِّفْق لا يكون في شيء إلّا زَانَهُ، ولا يُنزَع من شيء إلّا شانَهُ.» [مُسلم: بِرّ، 78] [أبو داود: جهاد، 1]). وبالتالي، فهَيْهات أنْ يَستقيم ما يَبْتغيه "المُبْطلون" من جعل «الإسلام/الدِّين» قرينًا لآفات "الإكراه" و"العُنف" و"التَّرْهيب" كما يَعِجّ بها واقعُ "التّديُّن" لدى العوامّ والجُهلاء من المُسلمين فيُراد، من ثَمّ، إلصاقُها ظُلما وعُدوانا بدين اللّه!
وهكذا، فالثّابت في "الإسلام" أنّ "الدِّين" أصلُه "الاختيار" وأنّ "التّكليف" لا يَكُون إلّا مع "الرُّشْد"، لأنّ "الإنسان" قد حَمَل الأمانة طَوْعًا ولم تُفرَضْ عليه كَرْها («إنّا عَرَضنا الأمانةَ على السّماوات والأرض والجبال، فأَبَيْن أن يَحمِلْنَها وأَشْفقنَ منها، وحَمَلها الإنسان ؛ إنّه كان ظَلُوما جَهُولا!» [الأحزاب: 72]) وأنّ بني آدم قد كُرِّموا وفُضِّلوا على كثير من العالَمين («ولقد كَرَّمْنا بني آدم، وحَمَلناهم في البَرّ والبحر، ورَزقناهُم من الطيِّبات، وفضَّلْناهم على كثير ممَّنْ خَلقنا تفضيلا!» [الإسراء: 70]). فلا أسخف، إذًا، مِمّا كان ولا يَزال يَلُوكه «أنصافُ الدُّهاة» من أنّ كرامة "الإنسان" وحريّتَه لا تتحقّقان إلّا بنفي "الأُلوهيّة" إلحادًا أو إبطال "الدِّين" تَدْهيرًا!
لقدِ ﭐعْتِيدَ أنْ يُعترَض على الشُّموليّة التشّريعيّة لمبدأ «لا إكراهَ في الدِّين» بنَصٍّ قُرآنيٍّ ([التوبة: 1-15]) و، أيضا، بنصَّيْن حديثيَّيْن («أُمرتُ أن أُقاتل النّاس حتّى يَشهدوا أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمدا رسول اللّه، ويُقيموا الصلاة ويُؤْتُوا الزّكاة ؛ فإذَا فَعَلوا ذلك، عَصَموا منّي دماءَهم وأموالَهم ؛ إلّا بحقِّ الإسلام وحسابُهم على اللّه.» [البُخاري: 25 ؛ مُسلم: 21-22] ؛ «مَنْ بَدَّل دينَه، فﭑقْتُلوه» [البُخاري: 3017، 6922]) كما لو أنّ "الإسلام" دينٌ لم يُفْرَض إلّا بقُوّة السيف ولا يُمكن أن يَستمرّ إلّا بفعل الإكراه والاضطهاد.
لكنَّ أيَّ تبيُّن جادٍّ يَقُود إلى أنّ القراءةَ النَّسَقيّة لنُصوص "القُرآن" و"الحديث" في سياقها تَرُدّ مثل ذلك الاعتراض وتُؤكِّد، في المُقابل، أنّ مبدأ «لا إكراهَ في الدِّين» أصلٌ مُقوِّمٌ لشريعةِ "الإسلام" من دُون أيِّ تقييد أو تخصيص: إنّه حاكمٌ قبل الدُّخول في "الإسلام" وحتّى من بعد اعتناقه لمن شاء الخُروج منه!
وعلى الرَّغم من كل التّبايُن الموجود بين المُفسِّرين حول سبب نُزول آية «لا إكراهَ في الدِّين» (أَفِي الأنصار أمْ في رجل أو امرأة ممَّن أرادوا إكراه أبنائهم على الدِّين) وتوجُّهها الحُكْميّ (خاصّة أو عامّة أو منسوخة أو مُحكَمة غير قابلة للنَّسخ)، فإنّ الرّاجح هو أنّ هذه الآية مُحْكَمةٌ وليست مَنْسوخةً بأيِّ حال (يقول "ابن جرير الطَّبَري" [224-310 ه]: «وأَنْكَرُوا أن يكون شيءٌ منها منسوخا.»[1] أو «أَنْكَر أن يكون منها شيءٌ منسوخٌ.»[2]) وأنّ جُمهور المُفسِّرين يُثْبت أنّ الدُّخول في "الإسلام" لا يَكُون بتاتًا بالإكراه والقهر.
ونجد، بهذا الصدد، أنّ "الزمخشري" (467-538ه) يقول: «"لا إكراه في الدين"، أيْ لم يُجْرِ اللّهُ أمرَ الإيمان على الإجبار والقَسْر، ولكنْ على التّمكين والاختيار، ونحوُه قولُه تعالى: "ولو شاء ربُّك، لآمن مَنْ في الأرض كلُّهم جميعا. أفأنتَ تُكْرِهُ النّاس حتّى يَكُونوا مُؤمنين" [يونس: 99] ؛ أيْ لو شاء، لقَسَرهم على الإيمان ؛ ولكنّه لم يَفعل وبَنى الأمر على الاختيار ؛ "قد تبيّن الرُّشد من الغيّ": قد تميّز الإيمان من الكفر بالدلائل الواضحة [...]»[3]. ويقول "ابن كثير" (700-774ه) في تفسير تلك الآية: «"لا إكراه في الدِّين"، أيْ لا تُكْرهوا أحدًا على الدُّخول في دين الإسلام، فإنّه بيِّنٌ واضحٌ، جَلِيّةٌ دلائلُه وبراهينُه، لا يحتاج إلى أن يُكْرَه أحدٌ على الدُّخول فيه، بل من هداه اللّهُ للإسلام وشَرَح صدرَه ونَوَّر بصيرتَه دَخل فيه عن بيِّنةٍ ؛ ومن أعمى اللّهُ قلبَه وخَتم على سمعه وبصره، فإنّه لا يُفيده الدُّخول في الدِّين مُكْرَها مَقْسُورًا.»[4].
ويقول الشيخ "محمد عبده" (1849-1905): «كان معهودا عند بعض المِلل – لا سيّما النّصارى- حمل النّاس على الدُّخول في دينهم بالإكراه. وهذه المسألة ألصقُ بالسياسة منها بالدّين لأنّ الإيمان هو أصل الدّين، وجوهره عبارةٌ عن إذعان النّفس، ويستحيل أن يكون الإذعان بالإلزام والإكراه، وإنما يكون بالبيان والبُرهان، ولذلك قال تعالى بعد نفي الإكراه "قد تبيّن الرُّشد من الغيّ"، أيْ قد ظهر أنّ في هذا الدِّين الرُّشد والهدى والفلاح والسّيْر في الجادّة على نُور، وأنّ ما خالفه من المِلَل والنِّحَل على غيٍّ وضلال.»[5] ؛ ثُمّ عَقَّب قائلا: « وَرَد بمعنى هذه الآية قولُه تعالى: [10: 99] "ولو شاء ربُّك، لآمن مَنْ في الأرض كلُّهم جميعا. أفأنتَ تُكْرِهُ النّاسُ حتّى يَكُونوا مُؤمنين"، ويُؤيِّدُهما الآيات الكثيرة النّاطقة بأن الدِّين هداية اختيارية للناس تُفرَض عليهم مُؤيَّدة بالآيات والبيِّنات وأن الرُّسل لم يُبعَثوا جبّارين ولا مُسيطرين، وإنّما بُعثوا مُبشِّرين ومُنذِرين [...]. فقوله تعالى "لا إكراهَ في الدِّين" قاعدةٌ كُبرى من قواعد دين الإسلام ورُكن عظيم من أركان سياسته، فهو لا يُجيز إكراه أحد على الدُّخول فيه ولا يسمح لأحد أن يُكره أحدا من أهله على الخروج منه. وإنّما نَكُون مُتمكِّنين من إقامة هذا الرُّكن وحفظ هذه القاعدة إذَا كُنّا أصحاب قوّة ومَنَعة نَحمي بها دينَنا وأنفسَنا ممّن يُحاول فتنتَنا في ديننا اعتداءً علينا بما هو آمنُ أن تَعتدي بمثله عليه إذْ أمرنا أن ندعو إلى سبيل ربنا بالحكمة والموعظة الحسنة وأن نُجادل المُخالفين بالتي هي أحسن مُعتمدين على أن نُبيِّن الرُّشْد من الغيّ بالبُرهان: هو الصِّراط المُستقيم إلى الإيمان، مع حريّة الدّعوة، وأمن الفتنة ؛ فالجهاد من الدِّين بهذا الاعتبار، أيْ أنّه ليس من جوهره ومَقاصده، وإنّما هو سِياجٌ له وجُنّة. فهو أمر سياسيّ لازِمٌ له للضرورة. ولا ﭐلتفات لِمَا يَهْذي به العوامّ، ومُعلِّمُوهم الطَّغَام، إذْ يَزْعُمون أن الدّين قام بالسيف وأنّ الجهاد مطلوبٌ لذاته، فالقُرآن في جملته حجّة عليهم.»[6].
ونجد "سيد قطب" (1906-1966) – وهو الذي صار يُعدّ زعيما للتّطرُّف الاسترهابيّ!- يقول في تفسيره لآيةِ «لا إكراه في الدِّين»: «إنّ قضية العقيدة – كما جاء بها هذا الدين- قضية اقتناع بعد البيان والإدراك ؛ وليست قضية إكراه وغَصْب وإجبار. ولقد جاء هذا الدّين يُخاطب الإدراك البشريّ بكل قُواه وطاقاته. يُخاطب العقل المُفكِّر، والبداهة النّاطقة، ويُخاطب الوجدان المُنفعل، كما يُخاطب الفطرة المستكنّة. يُخاطب الكيان البشريّ كله، والإدراك البشري بكل جوانبه ؛ في غير قهر حتّى بالخارقة المادية التي قد تُلجئ مُشاهِدَها إلجاءً إلى الإذعان، ولكن وعيه لا يَتدبّرها وإدراكه لا يَتعقّلها لأنّها فوق الوعي والإدراك. وإذا كان هذا الدِّين لا يُواجه الحس البشريّ بالخارقة الماديّة القاهرة، فهو من باب أَوْلى لا يُواجهه بالقوة والإكراه ليَعتنق هذا الدِّين تحت تأثير التّهديد أو مُزاولة الضغط القاهر والإكراه بلا بيان ولا إقناع ولا اقتناع. وكانت المسيحية – آخر الدِّيانات قبل الإسلام- قد فُرضت فرضًا بالحديد والنار ووسائل التّعذيب والقمع التي زاوَلتها الدولة الرومانية بمجرد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية.
[...]. فلمّا جاء الإسلام عقب ذلك جاء يُعلن – في أول ما يُعلن- هذا المبدأ العظيم الكبير: "لا إكراه في الدين. قد تبيّن الرشد من الغيّ". وفي هذا المبدأ يتجلّى تكريم الله للإنسان ؛ واحترام إرادته وفكره ومشاعره ؛ وترك أمره لنفسه فيما يختصّ بالهُدى والضلال في الاعتقاد ؛ وتحميله تبعةَ عمله وحساب نفسه. وهذه هي أخصّ خصائص التحرُّر الإنسانيّ[،] التحرُّر الذي تُنكره على الإنسان في القرن العشرين مذاهب مُعتسِّفة ونُظُمٌ مُذلّة ؛ لا تسمح لهذا الكائن الذي كرّمه الله – باختياره لعقيدته- أن يَنطوي ضميرُه على تصوُّر للحياة ونُظُمها غير ما تُمْليه عليه الدولة بشتّى أجهزتها التوجيهيّة، وما تُمليه عليه بعد ذلك بقوانينها وأوضاعها ؛ [...] إنّ حريّة الاعتقاد هي أُولى حقوق "الإنسان" التي يَثبُت بها وصف "الإنسان".
فالذي يَسلُب إنسانًا حريّة الاعتقاد، إنّما يَسلُبه إنسانيّتَه ابتداء[.] ومع حريّة الاعتقاد حريّة الدعوة للعقيدة، والأمن من الأذى والفتنة[،] وإلّا فهي حريّةٌ بالاسم لا مدلول لها في واقع الحياة. [...]. والتّعبير هنا يَرِد في صورة النّفي المُطلَق: "لا إكراه في الدِّين"[،] نفيُ الجنس كما يقول النّحويون[،] أيْ نفي جنس الإكراه. نفي كونه ابتداءً. فهو يستبعده من عالم الوُجود والوقوع، وليس مجرد نهي عن مُزاوَلته. والنّهي في صورة النّفي – والنّفي للجنس- أعمق إيقاعًا وآكد دلالةً.»[7].
ويأتي "محمد الطّاهر ابن عاشور" (1879-1972) فيُقرِّر: «ونفيُ الإكراه خَبَرٌ في معنى النّهي، والمُراد نفيُ أسباب الإكراه في حكم الإسلام، أيْ لا تُكْرهوا أحدًا على اتِّباع الإسلام قَسْرًا، وجِيء بنفي الجنس لقصد العُموم نصًّا. وهي دليلٌ واضحٌ على إبطال الإكراه على الدِّين بسائر أنواعه، لأنّ أمر الإيمان يَجري على الاستدلال، والتّمكين من النّظر، وبالاختيار. وقد تقرّر في صدر الإسلام قتال المُشركين على الإسلام، وفي الحديث: «أُمرتُ أن أُقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلا اللّه، فإذا قالوها عَصموا منّي دماءَهم وأموالَهم [؛] إلّا بِحقِّها». ولا جائزٌ أن تكون هذه الآية نَزَلت قبل ابتداء القتال كلِّه، فالظّاهر أنّ هذه الآية نَزلت بعد فتح مكّة [...]»[8]. (ويُلاحَظ أنّ إيراد "ابن عاشور" لآراء السَّلَف المُتباينة بعد رأيه هذا لم يَكُن إلّا للاستئناس بها، كما ينبغي أن يُلاحَظ أنّ عبارتَه «وقولُه "قد تبيَّن الرُّشد من الغيّ" واقعٌ مَوْقعَ العلّة لقوله "لا إكراه في الدِّين"، ولذلك فُصِلَت الجملة.» تُعَدّ تأكيدا لكون الآية الكريمة من المُحْكَم العامّ الذي لا يَصحّ أن يَجريَ عليه النَّسخ تماما كما سبق ل"الطبري" أن بيَّنَه).
وعليه، فكل من ذهب ولا يزال إلى أنّ آية «لا إكراهَ في الدِّين» قد نُسخت أو خُصِّصت يَغْفُل عن أمرين أساسيَّيْن: أوّلُهما عُموم الصِّيغة فيها ("لا" النّافية للجنس: نفيٌ لكل أنواع الإكراه)، وثانيهما بيان العلّة من نفي الإكراه في الدِّين (تبيُّن الرُّشد من الغيّ: ظُهور الإسلام وانتصاره على الشِّرْك وغيره من المِلَل ؛ وإنّ الآيات التي بعدها [البقرة: 257-260] لتُؤكِّد هذا الأمر بما لا يُنْكره إلّا جاهل أو جاحد: "إبراهيم" في مُحاجّته عن ربِّه ومَثَلُ الذي ذهب مُتسائلا عن البعث والنُّشور!).
وأخيرا، لعلّ في تعقيب المُستعْرِب الفرنسيّ "جاك بيرك" (1910-1995)، ضمن ترجمته للقُرآن، على آية «لا إكراه في الدِّين» خيرَ بيان يُقرِّر تلك الحقيقة، إذْ يقول: «يُستَشفُّ تقدُّم الوحي الجديد، في ﭐتِّجاه العقل والحرية، من هذه الآية، وهو ما أَتَى بيانُه مُباشَرةً بعد آية الكُرسيّ.» (« le progrès de la nouvelle révélation, dans le sens de la raison et de la liberté, ressort de ce verset, lequel est mis en évidence, venant tout de suite après le verset du Trône. »)[9].
وفيما وراء ذلك، فإنّ هناك من دَرس موضوع حُريّة الاعتقاد في "الإسلام" وانتهى إلى تأكيد أنّ مبدأ «لا إكراهَ في الدِّين» أصلٌ شرعيٌّ مُحْكَمٌ ومبدأٌ عامٌّ حاكمٌ. ويَجدُر، بهذا الخصوص، ذكر عمل "عبد الرحمن حللي" في كتابه «حريّة الاعتقاد في القرآن الكريم: دراسة في إشكاليات الردّة والجهاد والجزية»، حيث يَستخلص قائلا: «إنّ ما قدَّمناه في دراستنا لآية "لا إكراه في الدين" والآيات المؤصِّلة لحرية الاعتقاد، ولموضوع الردَّة كما عَرَض له القرآن، يُؤكِّد لنا عُموم النّهي عن الإكراه في الدِّين بما يَشمل المُرتدّ الذي يَكفُر بعد الإسلام، إذْ علَّة نفي الإكراه مُتحقِّقةٌ فيه، فقد تبيَّن الرُّشد من الغيّ بالنِّسبة له ؛ كما أنَّ نُصوص القرآن، التي تحدَّثت عن الكفر بعد الإيمان لا تُساعد على القول بقتل المُرتدّ[،] بل تُؤكِّد العكس فنجد الذين كفروا بعد إيمانهم أُناسًا يعيشون بين المُسلمين على كُفرهم الجديد وربّما أسلموا ثُمّ عادوا إلى الكفر واستمرّوا عليه وازدادوا فيه. إلّا أنَّ ما نجده من نصوص في السنَّة، وما أوضحناه من اتِّجاهات في التعامُل مع موضوع الردَّة، وما نجده في المُصنّفات القديمة منذ القرن الخامس الهجري من أنَّه لم يقع في شيء من المُصنّفات المشهورة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم عاقب مُرتدًّا أو زنديقًا بالقتل [...]، وما يُؤكِّده الباحثون من أنَّ ألفاظ الردَّة التي وردت على لسان المُؤرِّخين والتي عبَّروا بها عمّا حدث من بعض الأعراب في صدر خلافة الصديق – رضي الله عنه- لا تعني الكُفر المُخْرِج عن المِلَّة لوُرود نُصوص أُخرى تُثبت الإيمان لأصحاب هذه الأعمال التي وُصفت بالردَّة، [...]. وإذَا تبيَّن لنا شُمول حريّة الاعتقاد لِما بعد الإسلام، فلا بُدّ من التّنويه لأمر مُهمّ هو أنَّ عدم تجريم من يُغَيِّر مُعتقدَه إلى غير الإسلام لا يَعني عدم تحريم ذلك إذَا ما كان عبثًا أو غير مُؤسَّس على فكر جادٍّ ؛ فليس كل ما يُعتبر مُحرَّمًا في الإسلام يُعتبر جريمةً يُعاقَبُ عليها الفرد، فالتّجريم له عقوبتان دنيويّة وأُخرويّة، أما التّحريم فهو فيما بين العبد وربّه. وبالتالي فلا يَلزم من حريّة الاعتقاد إباحة الكفر أو الباطل أو الخروج من الإسلام، وإنّما المقصود هو رفع سلطان البشر عن التدخُّل في مُعتقدات النّاس والمُحاسبة عليها، وترك ذلك إلى ربّ العباد، إذْ هو الوحيد الذي يَعلم بأسرارهم [...]. وعليه فالردّة عن الإسلام [أيْ الكفر بعد الإيمان] لا تُوجب قتل المُرتدّ، وإنّما يَترتّب عنها حرام يقع فيه هذا الذي كفر، وهو اتِّجاهٌ تَدعمه الآيات القرآنيّة المُؤصِّلة لحرية الاعتقاد، ويُؤيِّد ما اتّجهنا إليه الشّرطُ الذي وَافق عليه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في صُلح الحُديبيّة من أنّه إذَا أسْلَم مُشرك يُعاد إلى قُريش وإذَا ارتدّ مُسلم لا يُعاد إلى المُسلمين [...].»[10].
كما نجد أنّ "طه جابر العلواني" قام في كتابه «لا إكراه في الدِّين: إشكالية الرِّدّة والمُرتدِّين من صدر الإسلام إلى اليوم»[11] بتناوُل مُشكلة "الردّة" من جهة حقيقتها في "القُرآن" وحُكم المُرتدّ في السنة والفقه، حيث يرى أنّ «المُرتدّ مُتوعَّدٌ بالعقاب الأُخرويّ دون ترتيب عقوبة دنيويّة على فعله.
ومن الآيات الصريحة في هذا قوله تعالى: "إنّ الذين آمنوا، ثُمّ كفروا، ثُمّ آمنوا، ثُمّ كفروا، ثُمّ ازدادوا كفرا لم يكن الله ليَغفر لهم ولا ليَهديهم سبيلا" [النِّساء: 137]. فكل هذه الآيات صريحة لم تَذْكُر مرة واحدة حدّا للردّة أو عقوبة دنيويّة لها، لا إعداما ولا دون ذلك ؛ لأنّ حاكميّة القرآن حاكميّةُ تخفيف ورحمة، وحاكميّة تقرير لحريّة العقيدة وحمايتها وحفظها، وحاكميّة تُؤكِّد أنّ الإيمان والكُفر شأنٌ قلبيٌّ بين العبد وربّه، وأنّ العقوبة على الكفر والردّة بعد الإيمان إنّما هي عقوبة أُخرويّة موكولة لله – تبارك وتعالى- وهو -سبحانه- صاحب الحقّ الأخير والأوّل في هذا الأمر، وأنّ أمر التوبة عن الردّة، والرّجوع عنها بعد السقوط فيها، وقَبُولها وعدم قَبُولها، كل ذلك شأنٌ إلهيٌّ بين الله وعباده لا شأنَ للحاكمين أو غيرهم فيه ما دام لم يَقترن بشيء آخر.» (ص. 95). ويَختم "العلواني" دراسته بتأكيد «أنّ الإنسان المُكرَّم المُستخلَف المُؤتَمن أكبر عند الله وأعزّ من أن يُكلِّفه ويَسلُب منه حريّة الاختيار، بل إنّ جوهر الأمانة التي حَمَلها، والتي استحقّ بها القيام بمُهمّة الاستخلاف، إنّما يقوم على حريّة الاختيار التامّة الكاملة: "لا إكراه في الدِّين"، "وما أنت عليهم بجبّار"، "لست عليهم بمُصيطر"، "فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب"، "أفأنتَ تُكره الناس حتّى يكونوا مُؤمنين"، "فمن شاء فليُؤمن ومن شاء فليكفر" [؛] وبالتالي فإنّه لا يُمكن أن يُقرِّر القُرآن المجيد فيما يزيد عن مائتي آية من آيات الكتاب الكريم حريّة الاختيار، ثم يُعاقب بتلك العقوبة الصارمة من مارس تلك الحريّة- دون أن يعتدي على أحد سوى نفسه، أو يرتكب آيّة جريمة أخرى مُصاحِبة لتلك الضلالة البَشعة التي سقط فيها. كما تَبيَّن لنا من خلال البحث أنّ فُقهاءنا الكرام الذين ذهبوا إلى إثبات هذه العقوبة قامت في أذهانهم تلك المُلازَمة القائمة على الأغلب المُشاهَد في عصورهم: من أنّ الردّة الدينيّة كثيرا ما تكون ثمرةَ تحوُّل شامل لدى الإنسان عن الوَلاء للأُمّة، والقَبُول بنظامها، واحترام شرائعها، والانتماء إليها ثقافيّا وحضاريّا، والخضوع لقوانينها ونُظمها، ثم يجعل، بعد ذلك الفِصام، البعد عن الدّين والكفر به بمثابة الإعلان عن القطيعة التامّة [عن] كل ما يقوم عليه كيان الأمة التي كان ينتمي إليها. ولذلك قد ذهبوا إلى إقرار ذلك الحدّ وتلك العقوبة. أما لو أنّ الأمر أُخذ على أنّه مجرد تغيُّر في الاعتقاد (كليّ أو جزئيّ)، من غير أن تَصحبه جرائم أُخرى، فما كان من المُمكن أن يقولوا بهذه العقوبة التي ناقشنا كل ما يَتعلّق بها، وما استُدلّ به عليها من أدلّة وأَمارات تؤدِّي إلى بَرْد اليقين بأنّ شريعةَ التّخفيف والرحمة، ورَفْع الحرج، وتكريم الإنسان، واحترام حريته وصيانتها، والمُحافظة عليها واعتبارها من ضرورات التّزكية، أسمى من أن تضع عقوبةً دُنيويّةً تَبلُغ مستوى القتل على مُمارَسة تلك الحريّة.» (ص. 175-176).
ومن أجل ذلك كلِّه، فإنّ كثيرين مِمّن يَحتجّون بحديث «أُمرتُ أن أُقاتل النّاس حتّى يَشهدوا أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمدا رسول اللّه، ويُقيموا الصلاة ويُؤْتُوا الزّكاة ؛ فإذَا فَعَلوا ذلك، عَصَموا منّي دماءَهم وأموالَهم ؛ إلّا بحقِّ الإسلام وحسابُهم على اللّه.» ([البُخاري: 25 ؛ مُسلم: 21-22]) يَفُوتهم – كما أكدّ "ابن حجر العسقلاني" مُتابِعًا "ابن دقيق العيد"- أنّ الأمر فيه يَتعلّق ب"المُقاتَلة" وليس إطلاقا ب"القتل" (نصّ الحديث «أُمِرْتُ أن أُقاتل» وليس «أُمرتُ أن أَقْتُل»!)، حيث يقول الإمام "أحمد بن حجر العسقلاني" في شرحه للحديث: «وقد أَطْنَب "ابن دقيق العيد" في "شرح العُمْدة" في الإنكار على من استدلّ بهذا الحديث على [قتل تارك الصلاة]، وقال لا يَلْزم من إباحة المُقاتَلة إباحة القتل، لأنّ المُقاتَلة مُفاعَلةٌ تستلزم وُقوع القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل. وحَكى "البيهقيّ" عن "الشافعيّ" أنّه قال: ليس القِتال من القتل بسبيلٍ، قد يَحِلّ قتالُ الرجل ولا يَحِلّ قتلُه.» [12].
وهكذا، فإنّ الأمر بقتل من ﭐرتدّ عن دينه («مَنْ بَدَّل دينَه، فﭑقْتُلوه» [البُخاري: 3017، 6922]) لا يُفْهَم إلّا بناءً على ذلك التّوجيه الخاصّ: ما كان الأمرُ بقتل المُرتدّ عن دينه إلّا لأنّه يدخل في فئة المُقاتِلين أو المُحارِبين (أوْرَد "البُخاري" الحديث ابتداءً في باب "الجهاد والسِّيَر"، ممّا يُشير إلى أنّ «الأمر بقتل المُرتدّ» مُترتِّب على دُخوله في نطاق العدوّ المُقاتِل والمُحارِب، وهو ما يُؤكِّده حديث «لا يَحِلّ دَمُ ﭐمْرِئٍ مُسلمٍ يَشهد أن لا إله إلّا الله وأنّي محمد رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: النّفس بالنّفس، والثَّيِّب الزّاني، والمارِق من الدِّين التّارِك الجماعة.» [البُخاري: 6878]، وعند "مُسلم" «[...]، والتّارِك لدينه المُفارِق للجماعة.» [مُسلم: 1676] !). ومن الثّابت أن من كان يَرتدّ قديما عن دينه يَصير في حُكْم العدوّ أو المُتعاوِن مع العدوّ، من حيث إنّه يَستبدل بطاعةِ قومه الأوائل ووَلائه لهم طاعةَ غيرهم ممّن هُم على دينه الجديد (ولا يزال هناك، حتّى في الدُّول الدِّمُقراطيّة، من يَنْظَر للمُخالِف في "الدِّين" بصفته أقرب إلى العدوّ منه للمُواطن المُوالِي لبني وطنه، خصوصا حينما يَتعلّق الأمر في سياسة الدولة بمُعاداة أو مُحارَبة من يُشاركونه في الانتماء الدِّينيّ دون الانتماء الوطنيّ!). ومن هُنا، فإنّ قتل المُرتدّ له نفس علّة قتل الخائن لأُمّته ووطنه بما يَعني أنّ انتفاء هذه العلّة يمنع من قتل المُرتّد عن دينه. ولا يَخفى، بالتّالي، أنّه في «الدّولة الرّاشدة» لا يكون الوَلاء للدّولة على أساس الاشتراك في الدِّين، وإنّما على أساس "المُواطَنة" بما هي اشتراك في الوطن يُحدَّد قانونيّا كمُساواة في الحقوق والواجبات، مِمّا يقتضي أنّ "الدِّين" بالأساس لا يكون أبدًا «دينَ الدّولة» بحيث تَفْرِضه على المُواطنين اعتقادًا وتعبُّدًا، بل «الدِّين كُلُّه للّه» فلا تجوز الفتنة به أو فيه عُدْوانا وتسلُّطا، ولا يَصحّ الوَلاء في الدِّين إلّا أُخوّةً إيمانيّةً واجتماعيّةً مِهمازُها التّواصي بالحقّ والصَّبْر ومعيارها التّعاوُن على البِرّ والإحسان.
إنّ ما يجعل "الإسلام" قائمًا على مبدأ «لا إكراهَ في الدِّين» هو كونُه يَتحدّد دينيّا بأنّه «إسلامُ الوَجْه طوْعًا لربِّ العالَمين» بحيث لا يَصحّ أن يكون الدُّخول فيه كَرْها أو يكون الخُروج منه ﭐرتدادًا حدُّه القتل. ف«الإسلام/الدِّين» توجُّه خُلُقيّ ورُوحيّ تُجسِّدُه آياتُ «الذِّكْر الحَكيم» قُرآنًا يُتْلَى بلاغًا مُبينا ودعوةً بالتي هي أحسن لمن شاء من النّاس: «ولو شاء اللّهُ، ما أشركوا ؛ وما جعلناك عليهم حفيظًا ؛ وما أنتَ عليهم بوكيل!» (الأنعام: 107) ؛ «فإنْ أَعرضوا، فما أرسلناك عليهم حفيظًا ؛ إنْ عليك إلّا البلاغ!» (الشُّورى: 48) «وقُل: "الحقّ من ربِّكم"، فمن شاء فليُؤمن ؛ ومن شاء فلْيَكفر؛ إنّا اعتدنا للظّالمين نارًا!» (الكهف: 29) ؛ «فذَكِّرْ، إنّما أنتَ مُذكِّرٌ، لستَ عليهم بمُصيطر!» (الغاشية: 21-22) ؛ «فإنّما عليك البلاغ، وعلينا الحساب!» (الرّعد: 40).
ولأنّ الجاهل أو الجاحد هو وحده من لا يُبالي إذْ يُنْكر ذلك، فإنّ الأكيد هو أنّ إقامة «الدّولة الرّاشدة» عدلا مُنْصفا وحُريّةً مُكَرِّمةً لجميع المُواطنين لا تكون من دون ترشيد "الدّعوة" في المجال العموميّ حتّى لا تبقى ثمّةَ فُسحةٌ لإتيان شيء من الفتنة «باسم الدِّين» (ولا، بالأحرى، «باسم العلم»). وإنّ ﭐتِّفاق دُعاة «الإسلامانيّة الجامِعة» (كإرادةٍ لفرض «الإسلام/الدِّين» عموميّا) وأدعياء «العَلْمانيّة المانِعة» (كإرادةٍ لمنع «الإسلام/الدِّين» عُموميّا) على ردِّ ذلك المبدأ ليُعَدّ أكبر دليل على أنّ حقيقة "الإسلام" لا يُقرِّرُها أصحابُ الأهواء، بل إنّ ﭐتِّفاقَهم ذاك لا يُفيد إلّا أنظمة "الاستبداد" التي تتوسَّل "الإسلام" كاحتياطيّ معنويّ لاستجلاب ما يُؤسِّس أو يُعزِّز مَشروعيّتَها المُغتصَبة فترى خُدّامَها يَتفانون، بوعي أو من دُونه، في استبعاد الإقرار الدستوريّ ل«حُريّة المُعتقَد والضمير» بدعوى الدِّفاع عن "الإسلام"!
والحال أنّ «حُريّة المُعتقَد والضمير» أصلٌ شَريعيٌّ بيِّنٌ يُقرِّرُ حقًّا طبيعيّا ويُؤكِّد أنّ "الإسلام" ليس فقط دينًا قائما على مبدأ «لا إكراهَ في الدِّين»، بل إنّه شريعةٌ لا قيام للحريّة نفسها إلّا بها في المدى الذي يُمثِّل "العدلُ" – بما هو الأساس الموضوعيّ لقيام "الحُقوق"- أحد الأُصول الكُبرى في "الشّريعة". وعليه، ف«لا إكراهَ في الدِّين» قبل الدُّخول في "الإسلام" وبعد الدُّخول فيه على النّحو الذي يُوجب كفالةَ حقّ الارتداد لكل مُسلم أراد أن يَتْرُك "الإسلام" كُفْرًا بَواحًا به أو إلحادا مُنْكِرًا لربِّ العالَمين، بالقدر نفسه الذي يجب ضمان «الأمن الرُّوحيّ» للمُؤمنين تمكينا ماديّا وموضوعيّا لحُقوقهم الأساسيّة. ولا سبيل من دُون ذلك لتخليص "الإسلام" من جَرائر كل الذين يَختفون وراء قناع «الإسلام المَظْهَريّ» نفاقًا وتضليلا. «ولا يَحْزُنْكَ الذين يُسارعون في الكُفر، إنّهم لن يَضُرُّوا اللّهَ شيئا ؛ يُريد اللّهُ ألّا يَجعل لهم حظًّا في الآخرة، ولهم عذابٌ عظيمٌ! إنّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يَضُرُّوا اللّهَ شيئا، ولهم عذابٌ أليمٌ. ولا يَحْسبَنَّ الذين كفروا أنَّمَا نُمْلِي لهم خيرٌ لأنفسهم، إنّما نُمْلي لهم ليَزداوا إثْما، ولهم عذاب مُهين! ما كان اللّهُ لِيَذَرَ المُؤمنين على ما أنْتُم عليه حتّى يَمِيزَ الخبيثَ من الطيِّب [...]!» [آل عمران: 176-179].
الهوامش:
[1] اُنظر: ابن جرير الطبري، تفسير الطّبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق محمو محمد شاكر ومراجعة أحمد محمد شاكر، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ج 5، ص. 414.
[2] اُنظر: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تفسير الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر، 1422ه/2001م، ج 4، ص. 553.
[3] اُنظر: جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوّض، مكتبة العبيكان، ط 1، 1418ه/1998م، ج 1، ص. 476.
[4] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق سامي بن محمد السلامة، دار طيبة، [ط 1، 1418ه/1997م] ؛ ط 2، 1420ه/1999م، ج 1، ص. 682.
[5] اُنظر: محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ط 2، دار المنار، القاهرة، 1366 ه/1947م، ج 3، ص. 37.
[6] المرجع السابق نفسه، ج 3، ص. 38-40.
[7] اُنظر: سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، [ط 1، 1972] ؛ ط 32، 1423 ه/2003م، مج 1، ص. 291.
[8] اُنظر: محمد الطاهر ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية، للنشر، تونس، 1984، ج 3، ص. 26.
[9] اُنظر: - Jacques Berque, Le Coran : Essai de traduction, édition revue et corrigée, éditions Albin Michel, Paris, 1995, p. 63, note v 256.
[10] اُنظر: عبد الرحمن حللي، حرية الاعتقاد في القرآن الكريم: دراسة في إشكاليات الردّة والجهاد والجزية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/بيروت، ط 1، 2001، ص. 126-128.
[11] اُنظر: طه جابر العلواني، لا إكراه في الدِّين: إشكالية الرِّدّة والمُرتدِّين من صدر الإسلام إلى اليوم، دار الشروق، [ط 1، 2003] ؛ ط 2، دار الشروق والمعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1427ه/2006م.
[12] اُنظر: أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار السلام، الرياض، ط 1، 1421ه/2000م، ج 1، ص. 104.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.