مقاربة نقدية لقصيدة (الوطن) للشاعر سعد سرحان من ديوانه (أكثر من شمال.. أقل من بوصلة) عبر قصيدة تلملم أشلاء وطن يرحل الأديب سعد سرحان باحثا في ربوع خريطته عن ملامح الوطن الملاذ.. لكنه يورط معه القارئ في مطب البحث عن إجابة شافية تكفي المتلقي للاستئناس بدلالتها لتحديد هوية للوطن. وكأني بالشاعر يستدرجنا جميعا للتساؤل الحر: هل يكفينا الركون للمتداول المألوف للتعريف بالوطن؟ أو هل يمكن التعاطي مع اللغة الشعرية لدى سرحان بمرجعية معيارية قسرية؟ أم أن نظرية التلقي الإبداعي تقتضي تجاوز الفهم الجاهز الموروث بهدف ربط التواصل مع الخطاب الشعري الاستعاري كلغة مفارقه للمتداول؟ فمنذ مطلع نص قصيدة (الوطن) يبدو الميول الثوري المتمرد لدى سرحان ضد رتابة التوصيف الإنشائي المستهلك لتمجيد الوطن يقول: "الوطن صديق غريب.. دائما يصادف عيد ميلاده يوم عطلة / لذلك فهديتنا الوحيدة إليه.. هي النشيد نفسه ملفوفا في لحنه القديم"، حيث تنكشف خلفية الامتعاض من نمطية تحنيط قامة الوطن في مجرد نشيد يتردد وفق إيقاع عسكري جاف لتكريس هيبة مقامه في وجدان أهله؛ بل يجنح سرحان في مقطع آخر ليصور لنا الوطن فضا غليظ القلب "الوطن أب صارم.. يعنف أبناءه كلما تأخروا حتى الهزيع الأخير من المنفى". بالطبع، لأنهم لم يجدوا بين أحضانه دفء الانتماء والملاذ الكريم.. نعم، لم يجدوا غير تغزل شهواني بجمال ربوعه من منظور براني شغوف بمفاتنه السياحية فقط: "الوطن قصيدة شاسعة.. منشورة في مجلة سياحية". وكأن الشاعر بهذه اللغة الكاشفة ينتفض في وجه ثقافة تحنيط مشاعر الأجيال باسم نشيد لم ينصف كل من أدى الرسالة لصون عزة الوطن فأودى تضحية لحماه. إنها انتفاضة شعرية في وجه من أدمنوا تلفيف الوطن بعباءة وصاية أبدية. هكذا تتوالى مرايا التلون التي يتجلى عبرها الوطن المخطوف من لونه الوطني الأصيل، ليبدو كالآتي: "الوطن عويل حجري.. تحت راية من حرير الروح". إنما تبقى حرارة الكتابة للوطن أو عنه بحسب شاعر مسكون بحساسية التقاط تفاصيل التردي التي تعتري أحوال الوطن؛ تبقى غير مقيدة دوما بإكراهات القبول بالأمر الواقع كما هو شأن السواد الأعظم من أهالي الوطن. فتأتي الكتابة للتمرد على تقمص المشاعر الجاهزة بحسب نشأة الترديد الإنشائي لدى جل التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإدمان إلى يوم الدين. فموقف التمرد هنا عبر لغة التوصيف الشعري ليس ترفا أو إسرافا استعاريا؛ بل نكاية بتلك الصلة بالوطن والخاضعة لوصفة ذهنية قسرية تجبر أهله على الركون للمتداول من التصورات تزكية لروابط الانتماء النمطي الرسمي. ومثلما يشعر المرء برابط الانتماء إلى الأرض عبر بقعة أو حدود أو راية أو هوية أو حكاية؛ فإنه أيضا يستشعر الارتباط وفق جدلية الذات والموضوع / الشاعر والوطن؛ إما من خلال ترانيم مقطوعة موسيقية أو رحلة عودة عقب غربة قسرية أو حكاية تذكار أو حتى مجرد خاطرة عابرة؛ نعم هكذا يتيسر للقارئ رفقة سرحان فتح آفاق إدراك أخرى لتجليات الوطن فينا. فكم من مرة يجادل بعضنا بعضا بشأن تحديد تعريف للوطن أو بشأن توصيفنا لأحواله بين ذويه؛ فلا يجد المجادل أدنى حرج في نعته بأحط الأوصاف عن غيض أو حقد أو غيرة لا يهم؛ المهم هو هل لدينا مرجع موحد يستند إليه كل من أراد الدفاع عن مقام الوطن؟ بمعنى هل يخضع منظورنا للوطن بالضرورة لمرجعية الماضي الاستعماري أم لمرجعية الحاضر الاحتكاري أم للمستقبل المصادرة رؤاه من ضحايا التنميط والتحنيط؟ إنه السؤال الذي ينزاح بالمتلقي إلى تقفي استعارات سرحان من بوابة قصيدة (الوطن) لولوج دغل تصورات مفارقة للمألوف الجاهز لتوصيف نظرتنا للوطن.. نعم إنها تصورات شعرية غاية في متعة التوصيف.. كما في قوله: "الوطن ضربة جزاء خيالية.. يقرها القدر مع انطلاق الحياة"، أو "الوطن وسادة محشوة بأحلام القتلى.. وكوابيس القتلة"، أو "الوطن مستقبل يخطو بأقدام الماضي.. والحاضر من الشهود"، أو "الوطن جريدة رسمية.. تشرف عليها هيئة صارمة.. لا تنشر إلا ما تراه صالحا للجبر"، أو "الوطن صيرفي خبير.. ليس من البريق يعرف معادن الناس.. بل من رنين حياتهم"، أو "الوطن حمامة بيضاء.. ذات بيض ذهبي/ كلما فقست واحدة.. تندلع في عشها حرب شعواء"، أو "الوطن تاج مرصع بالعيون.. لذلك يحبه الشعب حبا أعمى". وللقارئ الحصيف أن يتوقف مليا عند كناية (مرصع بالعيون) ليتذوق لغة الكشف البلاغية لإدراك البعد الدلالي للصورة الشعرية الماكرة؛ إذ المثير للاندهاش هنا في خطاب سرحان أن ظلال المتواليات الدلالية ذات الشحنة الإيجابية (تاج / مرصع / الحب الأعمى) كلها تتحول بحدة لافتة لتنقلب إلى النقيض بمجرد ربط سياقها بلفظة (العيون).