هل يحقّ للمرء أن يكتب عن رواية صدرت منذ عشرين عاما؟ تحية لأديبنا الميلودي شغموم بهذه المناسبة وبدونها أيضا.. 1 – يوهمنا الميلودي شغموم، وبتواطؤ مع سارد روايته (الأناقة 2001)، أنه يؤرخ لوقائع "اليوم السعيد" التاسع من فبراير 1998، وما جرى لعادل وصديقه إبراهيم لما علما بنبأ ترشيح زينب الرنجي لمنصب وزيرة في تشكيلة الحكومة الجديدة. وزينب التي شاع بين شخصيات الرواية ترشيحها لهذا المنصب واحدة من سلالة عائلة آل الشكور المصابة دائما والممتحنة في المال والبنين، ولذلك غيرت هذا الاسم، منذ قرنين، إلى الرنجي. لكنهم ظلوا معروفين دائما وأبدا بآل الشكور أو الصالحية، نسبة إلى صالحه أتيس الشكور، أو صالحه بنت الخضير الخماس. وقصة هذا النسب تدعو إلى التأمل، لأنها لا تربط الماضي بالحاضر فحسب، بل لأن الماضي هنا يتمّم الحاضر؛ فالمجاز الذي يؤثث سيرة صالحه وصالحه ويمنح للحكاية بعدها "الأسطوري" كما قد يبدو جليا للوهلة الأولى، يغدو، عند التمعّن، تعبيرا عن "شعور" الحكاية لما يظهره من مصير قاس وكينونة مرهفة ومتوترة ومنكسرة، إن في لحظات اليأس الشديد أو لحظات الأمل الكبير؛ وبهذا يتداخل المصير الفردي مع المصير الجماعي حين ظل قدر آل الشكور أو المامون أو الرنجي على ما هو عليه منذ ظهور صالحه وصالحه إلى اليوم. ويخبرنا السارد أن آل الشكور في نظر الناس من أهل الشكر والأناقة والصلاح والتقوى، وعند أنفسهم من أصحاب المآسي والمحنة والاختبار. دعوني أبيّن لكم كيف يحوّل سارد الرواية التاريخ الفردي والجماعي إلى حكاية ملغزة تتداخل فيها المصائر والأقدار: حين يبسط السارد في مفتتح الرواية "تصميمه" ويثبته بالحصى معينا موقع "الصالحية" الكبرى فإنه يخبرنا بأن هذه المدينة من إنشاء امرأة شديدة البساطة: صالحة أتيس الشكور. قد يكون هذا مصدرا للحكاية الملغزة حين تبدو "مركز جذب" بالنسبة للمدينة والقبيلة على حدّ سواء، إلا أن حكاية صالحه بنت شيخ القبيلة وصالحة بنت الخماس شديدة الإيحاء، لأنها تماثل بين عالم غرائبي وآخر واقعي، كأنها تودّ أن تقول: كلاهما مفيد في معرفة ممكنات الوجدان والإيمان بقيمة انتماء السلالة إلى ذاكرة وتجربة. "الحكاية انتماء ورجاء" يقول العطوي صاحب كتاب "النور في أخبار الشكور". الحكاية انتماء ورجاء، بمعنى: لكي نفهم الواقع المحيط بنا ونستوعب قيمه المتفاعلة يلزمنا، أحيانا، هذا البديل الغرائبي الذي يتحوّل من مجرد عنصر بنائي إلى "رؤية للعالم" تحقق بواسطتها الكينونة توازنا (بل أكاد أقول تلاحما) مأمولا بين الحقيقة والتوهّم. 2 – لعلّ زينب الرنجي في (الأناقة) أن تكون بطلة الرواية، حضورها لافت للنظر وتنسج حوله العديد من المواقف والذكريات والآمال؛ نعلم أنها رحلت إلى أوروبا ابتداء من يوليو 1973 لدراسة الفن واستقرت بباريس لتنخرط ضمن حركات التحرر والانعتاق التي كانت سائدة آنئذ، انخرطت فيها وساهمت في تمديد السكة الحديدية بألبانيا، وحملات إيصال الدعم إلى كوبا وفيتنام، كما شاركت في الثورة الثقافية الصينية، وتدربت على السلاح مع الفلسطينيين... خمسا وعشرين سنة لم تجد فيها ما يكفي من الوقت للدراسة، اللهم بعض السويعات التي حضرت خلالها القليل من دروس فوكو وألتوسير ! ( ص 89 ). ولمّا عادت زينب مع رفاقها العائدين إلى الوطن، بدا لها البلد متغيرا بشكل مخيف، شيء واحد ظهر لها مبررا للبقاء في الوطن: حركة المرأة التي ازدادت قوة ونشاطا وبعض جمعيات حقوق الإنسان. عدا ذلك: تقهقر ملحوظ حدّ الإفلاس ... الظاهر مما سلف أن السارد يلتقط لحظات دقيقة من حياة زينب الرنجي المسكونة بالقلق والتوتر والمغامرة والاعتراف. ولذلك تبدو شخصيات الرواية مهوسة بملاحقة تفاصيل اليومي في أدق التباساته ومفارقاته وتعقيداته. وتجلّي هذه الملاحظة ميسما دالا يمكّن شخصيات الرواية من التعبير وامتلاك قدرة الكلام..إنها شخصيات تتكلّم، وحتى حين تصمت تكلم نفسها: حوارات عميقة تدور بين عادل وإبراهيم وبقية الشلة في مقهى "اليوم السعيد"، حوارات أخرى صاخبة وساخرة تجمع بين الحريزي والعبدي والهادي، أو بين السيدة الوقور والبتول وزينب. ومن الحوارات اللافتة للنظر في الرواية حوار "الزعيم" مع زينب لمّا التقاها ببيت البتول وعرض عليها العمل معه وزيرة مكلفة بالتضامن والرعاية في الحكومة الوطنية، أو حكومة التغيير والتناوب كما يسميها راديو المدينة، ويستعيد الحديث بينهما أجواء التغيير ومصلحة البلد ومواجهة الخصوم والتضحية من أجل مقاومة انسداد الأفق وتطويق الأزمة. وليس الكلام في هذه الحوارات تقنية سردية فحسب، ولكنه – بحكم العوالم التي يصفها عبر الترميز والهزل أحيانا أو الصلة بالراهن واليومي أحيانا أخرى، تصريف لما يراه الكاتب محفزا على تفتيت صلابة الواقع حتى لا يبدو أقوى من الشخصيات أو بعيدا عنها. كلام شخصيات الرواية ذاتي وحميم، ولعله وسيلتها الوحيدة لمقاومة اليأس أو خيبة الحظ. يقول إبراهيم معلقا ومعقبا على كلام صديقه عادل: "لا بأس، لا بأس، من أن تعبر عن حالك يا صاحبي، فاتركني الآن أعبر عن حالي، فأنا، وفي هذا الموضوع بالذات والصفات ذاتها، لا أظن أني أمارس الكلام مثلك: يحدث أن نريد الكلام لنتكلم فقط، الكلام لذاته، وهو شيء مفيد وأساسي، وإلا فإننا ننفجر ونحرق ... ( ص 53 )". تنشغل رواية (الأناقة)، إذن، باستعادة لحظات سياسية واجتماعية قد لا يخطئ المرء حين يروم مطابقتها مع "وعيها القائم". استعادة تلك اللحظات ضرورة حكائية لأنها تبين المنحى التخييلي الذي يحوّل "الوعي القائم" إلى "وعي ممكن" يمنح زينب الرنجي، مثلا، إمكانية التفكير في مصيرها "الذاتي" و"السياسي". لا تستطيع زينب الجزم، إنها مترددة ولم تحسم في اقتراح "الزعيم": هل تقبل منصب الوزيرة أم لا؟ تنتهي أحداث الرواية آخر فبراير. زينب تفكر، وحيدة وحزينة: ماذا ستفعل؟ لا ندري. 3 -يدور بين عادل وإبراهيم حديث حول الأناقة في فصل مثير وعميق الدلالات: "الرنجة"؛ ويستند حديثهما على مناقشة أفكار للبروفيسور العوني وأخرى للبروفيسور جمال. ثمة حديث عن صور متعددة للأناقة: أناقة القناع، أناقة الوظيفة أو المهنة، أناقة البساطة، أناقة الواجهة، أناقة الخواء... يفرز هذا الحديث، في ظني، طبيعة المفارقة التي يمكن للكينونة أن تعيشها في علاقة بالعالم المحيط بها، وبصرف النظر عن الطابع البراني أو الجواني لقيمها الذاتية أو الموضوعية. هكذا يأتي حديث شخصيات الرواية عن الأناقة مشحونا بالسخرية حينا، ومحمّلا بنبرة كاريكاتورية حينا آخر. ولحكمة ما، يحتل هذا الفصل وسط الحكاية؛ كأنه معبر للربط بين حالات من السلوك السائدة والقيم الثقافية التي تحوّلها إلى علامات اجتماعية وإيديولوجية. من هنا، يبدو لي أن الأفكار التي تطرحها الرواية بخصوص الأناقة تتجاوز هذا البعد الرمزي أو الاجتماعي، وتعانق أبعادا أخرى تعيها شخصيات الرواية وتعبر عنها بهذا الصيغة أو تلك حين يتعلق الأمر بسلوكيات التخفي والتقنع، أو التلقائية والمرونة والشفافية. نقرأ في صفحة 78 هذه الفقرة المعبرة: "... الشخص الأنيق حقا، كما تعلم أيها القارئ الكريم، لا يرتدي أغلظ اللباس وأثقله، ومثله لا يحس أمامه بأنه ظل أو صدى فارغ، إذ يرتبط لديه القناع بدور محدود في الزمان والمكان، كأنه ممثل بارع يلعب الدور في وقته ومكانه ثم يتخلص من قناعه ليلعب دورا آخر مختلفا عنه، وبالتالي فإنه حر في جسده، تشعر أنه يمتع ويستمتع به في حرية وتلقائية ومرونة وشفافية". 4 -ما يشبه التركيب: أفترض أن سحر الحكاية في الرواية لا يعود فقط إلى قدرتها على إيهام القارئ بواقعية الأحداث أو تقاطع أفعالها مع إمكانات التخييل وعوالمها الممكنة كما تقول إحدى نظريات المنطق وتحليل خطاب الأدب، بل يعود كذلك إلى قدرتها على منح شخصياتها تجربة وجودية تختصرها لحظات وجدانية ورمزية وإنسانية توجه سلوكها ومصيرها عبر الحلم والتذكر والاستيهام والحب والفرح والسلطة والمرارة... وهذا ما يجعل الحكاية في الرواية غنية وذات تشييد دلالي حامل لخطاب منفتح على فضاءات الكينونة والتاريخ والإيديولوجيا..لكل حكاية فلسفة، ولأنها تبني أفكارها انطلاقا من لحظات بعينها، فإن عوالمها التخييلية تسعف قارئها على تمثل قيم التحوّل والاحتمال والغربة والاغتراب والاختفاء والانتهاز والخداع ... يهمّني – في ضوء ما سلف – أن ألفت النظر إلى صلة الحكاية بالكتابة، إذ عبرها تتكشف مواقف الشخصيات وأفكارها وترسم الأزمنة والأمكنة وتشيّد الكلمات واللغات. وتزداد أهمية صلة الحكاية بالكتابة من خلال البناء العام لكل رواية وما يستتبعه من صيغ للسرد تنوّع التفاصيل والإشارات. وبين الحكاية والكتابة يبرز صوت السارد مدمجا ضمن عدّة أصوات أخرى قد تظهر أو تختفي، لكنها تعلن منظورا وزاوية نظر تسهم في تجسيد الوقائع والحالات. إن سارد الحكاية قبل أن يكون راويا هو وعي وليس مجرّد مكوّن من مكوّنات الخطاب الروائي. كلام السارد حكاية، وهو أيضا كتابة. الأناقة: هذه رواية حيوات بسيطة تحاول أن تتجاوز العجز وتتخطى التردد.. كائنات هذه الرواية بلورية تعكس الحكاية أعماقها الصافية؛ ولذلك، ترمي بنا في عالم نظن أننا نعرفه، لكنها ترسم لنا، في الواقع، عالما منفتحا على عدة احتمالات فيها من الحب قدر، ومن الإرادة قدر آخر، ومن الأحزان قدر ثالث...