تعززت المكتبة الصوفية بصدور كتاب "دراسات في الفقه والتصوف بالأندلس والمغرب.. ابن العربي والبادسي نموذجا" للدكتورة فاطمة طحطح، الباحثة والمتخصصة في الدراسات الأندلسية التي اشتغلت لردح من الزمن أستاذة باحثة ومحاضرة بكل من جامعة محمد الخامس بالرباط وجامعة غرناطة بإسبانيا. الكتاب الجديد، الذي صدر عن مطبعة دار الأمان بالرباط ويقع في 135 صفحة من الحجم المتوسط، يروم البحث في المدرسة الصوفية للغرب الإسلامي من خلال استحضار شخصية كل من القاضي ابن العربي المعافري أحد أقطاب المذهب المالكي بالأندلس والمغرب، وعبد الحق البادسي الغرناطي الذي عاش بعده بقرن من الزمان، حيث أقام ببادس التي كانت منارة للإشعاع الثقافي والروحي ومركزا للعلماء والزهاد من الريف خاصة ومن بعض مهاجري العدوة الأندلسية مثل ابن سبعين وابن الخراز والبادسي الجد، كما كان لمدينة بادس مرفأ يربطها بثغور متوسطية مثل جنوة والبندقية ووهران وتونس، ناهيك عن المدن الساحلية للأندلس على حد قول الحسن الوزان المعروف بليون الإفريقي. وقد استطاع البادسي بجهده المتفرد أن يستجمع فقهاء وصلحاء الريف في كتاب "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف". لذلك، جاء الكتاب مستعرضا مقومات المدرسة الصوفية التي ميزت العدوتين الأندلسية والمغربية في لحظات زمنية متباينة، تعكسه صفحاته عبر الخيط الناظم، الذي يستجمع مكوناته من خلال الجمع بين علمين من الأندلس والمغرب في الفقه والتصوف. خطة الكتاب ودواعي التأليف يتكرس اهتمام الدكتورة فاطمة طحطح أستاذة الأجيال في الدراسات الأندلسية مشرقا ومغربا في كتابها الجديد "دراسات في الفقه والتصوف بالأندلس والمغرب.. ابن العربي والبادسي نموذجا" من مسلمة أساسية مفادها أن مدرسة التصوف الأندلسي المغربي كان لها الدور الكبير في نبش غبار الإهمال عن تراث فكري وارف جمع طائفة من العلماء والأئمة والمحدثين في منطقة الغرب الإسلامي التي كانت شمس علومها تشرق على جغرافيات متعددة من الامتداد الروحي والفكري لمدرسة التصوف التي عرفتها الأندلس ومعها العدوة المغربية. لذلك، لم تجد المؤلفة بدا من الغوص في ثنايا هذه المدرسة التي لا تزال تغري الباحثين والمهتمين بالدرس والتحليل والتمحيص من خلال الوقوف على قامات فكرية، على نحو ما فعلت في كتابها الجديد الذي تم إخراجه في حلة رائقة تفتح شهية القارئ وتروي نهمه الفكري للوقوف عن كثب على مسالك كل من القاضي ابن العربي المعافري صاحب أول رحلة أندلسية علمية صوب المشرق العربي والمعروفة ب"قانون التأويل" والتي مكنته من صقل مواهبه وفتح العنان لحلقاته ومناظراته هناك، وعبد الحق البادسي صاحب كتاب "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف" الذي عاش بعد ابن العربي بردح من الزمن، واستطاع من خلال كتابه جمع شذرات من أعلام التصوف وزهاد الوقت بشمال العدوة المغربية من بلاد الريف، التي كانت ممتدة جغرافيا ما بين سبتةوتلمسان. وقد جاء الكتاب زاخرا بمادة علمية غزيرة، ليجمع بين دفتيه شتات عملين اثنين تفتقت فيهما معا قريحة الدكتورة فاطمة طحطح في مجالات الفقه والتصوف، فالأول أماط اللثام عن شخصية القاضي ابن العربي المعافري أحد أقطاب المدرسة المالكية بالغرب الإسلامي، من خلال الورقة البحثية التي شاركت بها المؤلفة بمدينة مرسية جنوب إسبانيا عام 2003 حول "التصوف والتشريع الإسلامي"، حيث تناولت ورقتها البحثية "معالم الفقه والتصوف بالأندلس من خلال كتاب "العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي". أما العمل الثاني الذي ينمق هذا الكتاب فقام على أساس النبش في شخصية عبد الحق البادسي صاحب كتاب "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف"؛ وهي ورقة بحثية شاركت بها الدكتورة فاطمة طحطح على هامش حفل تكريمها بمدينة الحسيمة عام 2013 في موضوع "صلحاء الريف من خلال كتاب "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف" لعبد الحق البادسي الذي عاش قرنا من الزمن بعد القاضي أبي بكر بن العربي. لذلك، اقتضت خطة الكتاب أن يتم تقسيمه لعدة محاور يجمعها خيط ناظم يبحث في حلقات دروس الفقه والتصوف وينبش في أعلام العدوتين، وهذا ما فطنت إليه الدكتورة فاطمة طحطح بمقومات منهج يروم تقديم هذه الدراسة بشكل مفيد ومختزل، يضع القارئ في سياق الاجتهادات الفقهية التي ميزت عهد سيادة دولة الملثمين في المغرب والأندلس، بما راكمته من إسهامات وإنجازات فكرية حصيفة جعلت العصر المرابطي عصر الفقه والفقهاء. لذلك، لم تجد المؤلفة بدا من تخصيص الفصل الأول من القسم الأول للحديث وبإسهاب عن سموق الفقه والتصوف خلال عهد حكم المرابطين، حيث وضعت القارئ في سياق أهم التحولات والتجاذبات الفكرية بين الفقهاء والأئمة ومدى انتصارهم للمذهب المالكي الذي ارتضوه منهاجا في تدبير شؤونهم الدينية والدنيوية. كانت المؤلفة حريصة كل الحرص على الوقوف عند المناخ الثقافي والفكري السائد الذي كان يتجاذب فقهاء وزهاد ومتصوفة ذلك العصر، التي بلغت فيها الاجتهادات العقائدية والفقهية حدا لا يوصف. أما الفصل الثاني من القسم الأول فقد استحوذ على مجاميعه القاضي أبو بكر بن العربي المعافري، حيث كرست المؤلفة هذا الفصل للحديث وبشكل مستفيض عن كتاب "العواصم من القواصم" باعتباره جاء ردا حازما على الإمام الغزالي خاصة فيما ذهب إليه فيلسوف بغداد في تصوفه الإشراقي. مع الإشارة إلى زمرة من القضايا الخلافية التي استوقفت الإمام ابن العربي المعافري. أما القسم الثاني فأماط اللثام على أهم متصوفة وزهاد منطقة الريف من خلال كتاب المقصد الشريف للبادسي، حيث خصت المؤلفة فاطمة طحطح الفصل الأول من القسم الثاني للتعريف بمنطقة بادس وبإشعاعها الثقافي الذي جعلها منارة علمية على ساحل العدوة المغربية، مع تخصيص لمع من سيرة ومسار عبد الحق البادسي، والوقوف عند كتابه "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف" وأهم تقسيماته التي تضمنت الوقوف عند مفهوم المقامات والكرامات ومفاهيم تخص التصوف والولي والفقير. أما الفصل الثاني من القسم الثاني فقام بجرد لأهم زهاد ومتصوفة الوقت الذين حفظهم كتاب المقصد الشريف، مع الإشارة إلى أهم الحركات الصوفية التي كانت زمن البادسي، والسلوك الوعظي والصوفي الذي ميز صلحاء الريف، كما أن المؤلفة لم تتوان في نفض غبار الإهمال عن الصالحات بمنطقة الريف، اللواتي شهد لهن الرجال بالكرامات، والتهمم بالسلوك الوعظي والديني الخالص. ملامح من علم الفقه والتصوف بالأندلس زمن المرابطين يمثل عهد الدولة المرابطية بالمغرب والأندلس مرحلة مهمة انطوت على قيمة بالغة الأهمية بمنطقة الغرب الإسلامي، باعتبارها حاملة لمشروع سياسي إصلاحي في لحظة كانت فيها شمس الإسلام تميل نحو الأفول، وذلك بعد انتثار عقد الخلافة الأموية الذي كان يشد الجميع على بوصلة الوحدة والتوحد، بعدما تفرقت الأندلس إلى مدن وممالك وطوائف تتحارب فيما بينها تارة وتتهادن تارة أخرى. لذلك، وجد المرابطون في هذا المناخ العام ما يشحذ همتهم ويذكي عزيمتهم لإعلان الجهاد ضد النصارى، الذين كانوا يتربصون بأملاك المسلمين بالأندلس، خاصة بعد توحد ممالك قشتالة وليون ونافارا وإعلانها حرب الاسترداد التي زكتها الكنيسة خلال تلك المرحلة التاريخية التي اتسمت بحساسية كبيرة. ولعل هذا ما أوعز إقامة جبهة تقوم على أساس استنهاض همة الأندلسيين في مواجهة المد المسيحي الذي بدأت شرارة بركانه تظهر للعلن بعد سقوط طليطلة في يد ملك قشتالة ألفونسو السادس، باعتبار أن سقوطها المدوي كان إيذانا بسقوط مدائن الأندلس الأخرى. لذلك، وجد المرابطون في هذا المناخ العام تكريسا حقيقيا لمشروعهم السياسي والديني الإصلاحي الذي قام على أساس وحدة المذهب المالكي، مما أوقد جذوة وحماسة الفقهاء والعلماء عبر زخم من الاجتهادات الفقهية والتيارات الصوفية التي اطلعت بدور فاعل في المشهد الفكري الذي عرف سموق رجالات الفقه والتصوف والدين، بالنظر إلى المشروعية التاريخية التي قامت عليها دولة المرابطين حين توكأت على مذهب إمام دار الهجرة الذي شكل إطارا مرجعيا لدولتها بالمغرب والأندلس فيما بعد. ويعد عصر المرابطين عصر ازدهار التصنيفات الدينية وسموق الاجتهادات الفقهية، حيث عرف هذا العهد طائفة من كبار الفقهاء والأئمة والمحدثين في مقدمتهم القاضي أبوبكر بن العربي المعافري الذي وصفه ابن بشكوال بختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفاظها, والقاضي عياض إمام زمانه في الحديث وعلوم التفسير وصاحب كتاب "الشفا في التعريف بحقوق المصطفى" الذي خلق له شهرة غير اعتيادية في المشرق والمغرب، وابن رشد الجد الذي برع في الفقه المالكي وخلف فيه مصنفات كثيرة، وأبو جعفر البطروجي الذي نبغ في الفقه والحديث وعلوم القرآن، والحافظ أبو محمد بن عطية المحاربي الذي تفوق في علوم القرآن وحبر كتابا ضخما في التفسير، وأبو بكر بن سعدون القرطبي أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن والحديث. كما عرف حقل التصوف سموقا كبيرا حيث ساهم في إثراء هذا المناخ الروحي الذي اصطبغ بنفحات دينية والتماعات زهدية خالصة، حيث برز في هذا الشأن طائفة من المتصوفة والزهاد والمتبتلين الذين حفظت أخبارهم ومروياتهم كتب السير مثل أبي العباس الإقليشي الزاهد الذي عرف بين أهل زمانه بالزهد والتصوف والورع والتهمم بحلقات العلم والتدريس، باعتبارها كانت على انتشار عظيم وانعقاد مستمر. كما نجد أيضا أبا بكر المخزومي الذي كان ملجأ المحتاجين إلى زهده وكرمه ورحابة صدره، وعليا بن خلف الأنصاري الذي لم يتردد هو الآخر في تقفي سلوك وموعظة السلف الصالح، كما نجد أيضا خاتمة رجالات الأندلس إبراهيم بن عبديس النفزي الذي وصفه العلامة ابن الخطيب بشيخ المجاهدات وأرباب المعاملات وصادق الأحوال، شريف المقامات المشهور بالكرامات والجلد على المجاهدات. على أن الحديث عن أعلام الزهد والورع والتصوف بالأندلس من شأنها ألا تجعلنا نغض الطرف على شخصية الصوفي الشهير أبي العباس بن العريف الأب الروحي لجماعات المريدين التي قامت بالطرف الغربي للأندلس أواخر العهد المرابطي، حيث كانت لمدرسة ابن العريف امتدادات كبرى وتقعرات خفية، ولعل كتابه "محاسن المجالس" يختزل جهده الجهيد في إقامة مدرسة صوفية لها دعاماتها وثوابتها، والتي ما فتئت أن خلفت أتباعا ومريدين بين العدوتين. كما بزغ في هذا الشأن نجم عبد السلام بن أبي الرجال المؤثر لطريقة التصوف وعلم الباطن تحديدا. ولعل هذا الزخم الفكري الذي انبرى ليشحذ اجتهادات وسلوكات ورباطات الزهاد والمتصوفة وأهل الورع اتسم في مجمله بالثراء والتنوع؛ وهو ما جعله ينشطر إلى اتجاهين مختلفين الأول يمتح من الطابع السني الخالص والذي تم نعته بالمتصوفة السنية، باعتباره اتجاها يمثل السواد الأعظم من المتصوفة والزهاد الذين ساروا على هدى ونهج أثر السلف الصالح، نذكر منهم عليا بن خلف الأنصاري والمخزومي والإقليشي وغيرهم كثيرون ممن رفضوا رفضا قاطعا مبدأ المجاهدة النفسية التي ظهرت عند أتباع الغزالي، حيث ما لبثوا أن تبنوا المجاهدة العملية الفعلية والواقعية التي تظهر بشكل جلي في المرابطة على الثغور والمجاهدة ضد هجمات النصارى التي كانت تخبو وتتوهج من حين إلى آخر طلبا للشهادة ودفاعا عن شرف العقيدة، حيث توجت هذه المرابطة على الثغور باستشهاد بعض من الزهاد والمتصوفة الذين اختاروا هذا النهج نذكر منهم على الخصوص الإمام الصدفي وابن الفراء. وكان من الطبيعي أن تحتضن الدولة هذا النوع من التصوف خدمة لمشروعيتها السياسية واستكمالا لاستمراريتها الروحية في شحذ همم الجميع، وإذكاء روح المجاهدة ضد كل فكر أو سلوك من شأنه زعزعة المذهب الذي ارتضاه الجميع بما يشكل وحدة العقيدة وثوابت الأمة. لذلك، فإن هذا الاتجاه سيشكل مع توالي الأيام مشتلا روحيا لظهور عدة فرق صوفية خاصة خلال عهد الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس. أما الاتجاه الثاني من التصوف فقد اتخذ أفكار الغزالي مشروعا فكريا، وصار له أتباع ومريدون بالأندلس، خاصة لدى جماعة ابن العريف في شرق الأندلس، حيث كان لها بالغ الأثر في بروز الطريقة الشاذلية وبصورة أوضح في مذهب ابن عباد الرندي، كما اشتهروا بالمتصوفة الغزالية من خلال تبنيهم الواضح للطريقة التي أسسها الإمام الغزالي. لذلك، فإن هذه الجماعة وجدت معارضة من لدن السواد الأعظم للفقهاء ووجهاء الدولة، حيث تم نفي وتهجير غالبية أعلامهم إلى حاضرة مراكش بالعدوة المغربية على عهد علي بن يوسف المرابطي. وتتلخص طريقة المتصوفة الغزالية في الزهد في كل شيء ما عدا الله، بما في ذلك الزهد في "منازل" الصوفية والعطايا والمواهب الإلهية والكرامات وما إليها، على حد قول أنخيل بالنثيا غونزاليس صاحب كتاب "تاريخ الفكر الأندلسي" نقلا عن آسين بلاسيوس المستعرب الإسباني المتخصص في علم التصوف. ومن نافلة القول الإقرار بأن القاضي ابن العربي المعافري كان من أوائل الأندلسيين الذين انبروا للتصدي لهذا النوع من التصوف كما يظهر ذلك جليا من خلال كتابه "العواصم من القواصم"، مدافعا بذلك عن التصوف السني البسيط والمقبول سلفا من العامة والخاصة، والذي يتمظهر من خلال سلوكات الزهد والتعبد والصلاح، بخلاف التصوف الغزالي أو العرفاني الذي كان موغلا في الفلسفة باعتماده على المجاهدة النفسية والكشف والإشراق والتجلي والانقطاع وغيرها من المفاهيم والمصطلحات لدى أتباع ومريدي هذه الطائفة سواء في المشرق أو في الأندلس مع محيي الدين بن عربي الحاتمي دفين جبل قاسيون وتلميذه عبد الحق بن سبعين الملقب بقطب الدين. القاضي أبو بكر ابن العربي وكتابه "العواصم من القواصم" وموقفه من تصوف الإمام الغزالي عاش القاضي أبو بكر ابن العربي المعافري في ظل دولة الملثمين باعتباره من كبار فقهاء المالكية، الذين شجعوا على ازدهار العلوم الدينية؛ وهو ما خول للفقهاء احتلال سلطة سامقة داخل مجتمع لم ير بديلا عن التشبث بمذهب إمام دار الهجرة الذي ارتضاه المغاربة والأندلسيون سنة ومنهاجا. وكان من الطبيعي أن ينبري فقهاء المالكية لمحاربة كل شيء من شأنه زعزعة الثوابت الروحية للدولة المرابطية، ومحاربة المشتغلين على علوم الفلسفة والمنطق الذي يؤدي حسب البعض إلى الكفر ولسان حالهم يردد كلام الإمام مالك: "إن الجدل في الدين يذهب بنور الإيمان من قلب العبد". وكان من الطبيعي أن تطفو إلى السطح ظاهرة إحراق الكتب مثل كتاب "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي خلال عصر سيادة دولة الملثمين على نحو ما فعل الحاجب المنصور بن أبي عامر على عهد هشام المؤيد، توددا للعامة حسب ما ذكر صاحب كتاب "طبقات الأمم". وعلى الرغم من أن هذا العهد عرف بروز عدد وارف من الزهاد والمتصوفة، من بينهم أبو العباس الإقليشي وعلي بن خلف الأنصاري وابن عبديس النفزي؛ فإن الزهد والتصوف اصطبغا خلال هذه الحقبة بالطابع السني الخالص مما جعله يبقى حبيس الجماعة. وكان من البدهي أن يجد هذا التوجه الزهدي قبولا عارما من طرف الدولة وعامة الفقهاء، عكس التوجه الصوفي الإشراقي الذي تزعمه الإمام الغزالي وبرز بشكل لافت بشرق الأندلس على يد أبي العباس ابن العريف، حيث شاركه جمهرة من المتصوفة ال'خرين نذكر منهم أبا بكر الميورقي وأبا الحكم بن برجان وأحمد بن قسي، حيث تم نفي معظمهم إلى مراكش حاضرة المرابطين زمن علي بن يوسف بن تاشفين تحديدا. ولعل هذا ما أوعز القاضي أبا بكر بن العربي المعافري لشن هجوم فكري على الإمام الغزالي والانتصار بالمقابل للمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية الذي شكل صمام أمان للدولة والمجتمع معا؛ ذلك أن كتاب "قانون التأويل " شكل إطارا مرجعيا لرحلة للقاضي ابن العربي المعافري العلمية نحو المشرق محتفظا في الوقت لمناظراته العقدية ومجابهاته الفكرية عبر حله وترحاله بكل من بغداد وعكا والقدس. لذلك، انبرى القاضي ابن العربي للتصدي لأفكار الإمام الغزالي ورفضه المطلق للتصوف الإشراقي القائم على أساس علم الباطن، ناهيك على حملته الشرسة ضد الفرق الباطنية والمتفلسفة وحتى المعتدلة منها كالمعتزلة والقدرية. ويتمظهر ذلك بشكل جلي من خلال بعض مصنفاته مثل "الرد على من خالف السنة من ذوي البدع والإلحاد"؛ بيد أن أقوى مصنفاته التي تظهر فيها براعته الفكرية في الجدل وقوته الجامحة في الحجاج كتابه "العواصم من القواصم" الذي جاء ردا على تصوف الغزالي، ذلك أن ابن العربي المعافري يذكر أنه التقى الإمام الغزالي ببغداد عام 490 ه، حيث لم يتوان في الاعتراف بأستاذية الغزالي وتضلعه في شتى صنوف العلم والمعارف وتهممه بحلقات التدريس والتنويه به في مواطن عديدة من مؤلفاته التي كان صداها قد وصل أطراف المغرب والأندلس، مادحا إياه في مناسبات عديدة من كتابه المذكور: "وقد كان أبو حامد تاجا في هامات الليالي، وعقدا في لبة المعالي..." وعلى الرغم من المكانة السامقة التي تبوأها الغزالي في فكر وذهنية ابن العربي فإن صاحب "العواصم من القواصم" اتخذ موقفا أكثر جرأة في التصدي لأفكار الغزالي، والتي وصلت حد النقد العنيف المشوب بالطابع الهجومي الحاد بسبب ما رآه القاضي ابن العربي المعافري من جنوح تام لأفكار الغزالي التي اتخذت طابعا فلسفيا إشراقيا ينأى عن أهل السنة والجماعة واصفا ذلك بقوله: "فخرج على الحقيقة وحاد في أكثر أحواله على الطريقة، وجاء بألفاظ لا تطاق ومعان ليس لها مع الشريعة اتساق، وقطع العلائق بينه وبين البدن وحسم أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس والإقبال على الله بالكلية علما دائما وعملا مستمرا حتى تنكشف له الغيوب". لذلك، كان القاضي ابن العربي المعافري أكثر وضوحا في تصديه لأفكار الإمام الغزالي التي كانت في نظره موغلة أكثر في التجريد، وذلك بدعوتها الصريحة للانعزال والانقطاع عن عالم الناس والتماهي مع المجاهدة النفسية؛ لكن هذا لا يعني ضمنيا أن القاضي ابن العربي المعافري يرفض التصوف كمنهاج في النسك والتعبد، بل نجده يميل إلى التصوف المعتدل الذي دشنه المتصوفة الأوائل وقرعوا أبوابه بميزان الوسطية والاعتدال على نحو ما نجد عند أبي القاسم القشيري والحارث المحاسبي، حيث جاء ذكرهما معا في كتاب "العواصم من القواصم" بالقول: "وهذان العالمان سلكا طريقا متوسطة بين الغلو والتقصير، ونجمت في آثارهما أمم انتسبت إلى الصوفية، وكان منها من غلا وطفف، وكاد الشريعة وحرف، وقالوا لا ينال العلم إلا بطهارة النفس وتزكية القلب وقطع العلائق". إن ابن العربي يرى أن التصوف الذي نادى به الغزالي يحيد في جوهره عن طريق التوسط والاعتدال ويدخل في باب الغلو والتطرف، وذلك حين يدعو لقطع الصلة بين النفس والبدن.. مما يجعله خروجا حقيقيا عن الشريعة وانحرافا تاما عن أساسيات المنهج المعتدل الذي ارتضته العامة. وقد جرت محاورة بين القاضي ابن العربي المعافري والإمام الغزالي حسب ما جاء في "العواصم من القواصم" حين التقاه بمدينة بغداد وسأله عن مجموعة من الرموز والمصطلحات الصوفية الواردة في كتاب "إحياء علوم الدين" الذي نال به الغزالي شهرة غير اعتيادية في المشرق والمغرب على حد سواء: "لقد فاوضت فيه أبا حامد الغزالي حين لقائي له بمدينة السلام في جمادى الآخرة سنة تسعين وأربعمائة، وقد كان قد راض نفسه بالطريقة الصوفية، وتجرد لها، واصطحب مع العزلة، ونبذ كل فرقة، فتفرغ لي لسبب بيناه في كتاب (ترتيب الرحلة) فقرأت عليه جملة من كتبه، وسمعت كتابه الذي سماه بإحياء علوم الدين، فسألته سؤال المسترشد عن عقيدته، المستكشف عن طريقته، لأقف من سر تلك الرموز التي أومأ إليها في كتبه... وطفق يجاوبني مجاوبة الناهج لطريق التسديد للمريد، لعظيم مرتبته وسمو منزلته...فقال لي من لفظه وكتب لي بخطه: إن القلب إذا تطهر عن علاقة البدن المحسوس وتجرد للمعقول، انكشفت له الحقائق، وهذه أمور لا تدرك إلا بالتجربة لها عند أربابها، بالكون معهم والصحبة لهم، ويرشد إليه طريق من النظر وهو أن القلب جوهر صقيل مستعد لتجلي المعلومات فيه عند مقابلتها عريا عن الحجب كالمرآة في ترائي المحسوسات عند زوال الحجب من صدأ لائط أو ستر من ثوب أو حائط، لكنه بتراكم الآفات عليه يصدأ حتى لا يتجلى فيه شيء أو يتجلى معلوم دون معلوم بحسب مواراة الحجاب له من ازورار أو كثافة أو شف فيتخيل في مخيلة غير متجلية كأنه ينظر من وراء شف، ألا ترى إلى النائم إذا أفلت قلبه من يد الحواس، وانفك من أسرها كيف تتجلى له الحقائق تارة بعينها وأخرى بمثالها". ولعل الحديث عن هذه المواقف التي اتخذها ابن العربي من تصوف الغزالي وانبرى لها في كتابه "العواصم من القواصم" كما ظهر ذلك من خلال هذا النص المستل من كتابه السالف من شأنها أن تجعلنا نستحضر زمرة من القضايا الخلافية التي بنى عليها القاضي ابن العربي ردوده، والتي يمكن إجمالها في المجاهدة النفسية والانعزال والانقطاع، حيث ذهب ابن العربي عكس ما تبناه الغزالي الذي يرى أن النفس التي تروم الوصول إلى درجة قصوى من الشفافية والصفاء ومستعدة تماما لتلقي المعارف اللدنية، فهي مجبرة للنأي بذاتها عن عالم الناس والانقطاع والانعزال التام مما يجبرها على مجاهدة النفس في مقارعة حقيقية لذات الجسد وشهوات النفس. لذلك، نجد القاضي ابن العربي يتصدى لموقف الغزالي في الانقطاع ومجاهدة النفس بقوله: "والمجاهدات بين المتعارضات باب عظيم يفتقر إلى قانون طويل، ليس من بزهم ولا يقوم به إلا العالم بتفصيله وقانونه" باعتبار أن تحقيق طهارة النفس وصفاء القلب تكون بالامتثال للأوامر الإلهية والطاعات ونبذ النواهي والعصيان وليس بالانقطاع والانعزال من وجهة نظر ابن العربي. كما أن صاحب "العواصم من القواصم" استنكر على الغزالي باب المعرفة الباطنية الذي اعتبر أن القلب هو واسطة المعرفة متى وصل إلى درجة عالية من الصفاء والشفافية وتخلص من مشاغل الدنيا وشهوات الجسد. وحاول القاضي ابن العربي أن يقدم تأويلا لكلامه بأنه لا يقصد بمعنى النفس إيراده على الحقيقة، وإنما هو مجرد تمثيل، حيث يعلق ابن العربي على ذلك بقوله: "هذا كله من حجة الإسلام رضي الله عنه تمثيل للأمور المعنوية من أحوال القلب الناشئة عن التصرفات الإلهية فيه بالخير والشر، فكأنه مرآة تعتورها الصداءة بارتكاب المعاصي والمخالفات تارة، ويعتورها الصفاء والصقالة والتقوى والطاعات تارة أخرى، وليس مراده بالصدأ وبالصقالة المحسوسين، وإنما مراده تقريب هذه المعاني للأفهام". كما أن ثنائية المعقول والمحسوس شكلت هي الأخرى قضية خلافية؛ ذلك أن ابن العربي بعد أن قام بعرض آراء ومواقف المتصوفة الغزالية بالنقد حول مسألة الكشف وصقالة القلب والمعرفة الباطنية واعتبارهم المعقول فوق المحسوس، قام بتوجيه خطاب للغزالي بقوله: "وهذه قاصمة أعظم من الأولى، أي اعتبارهم المعقول فوق المحسوس، فإنها صدرت عمن اشتهر في العلم، وهذا يحط من المرتبة العليا إلى السفلى، ويخرج عن جملة العقلاء" حيث ينكر عن أتباعه قولهم: "إنا وإن كنا أبدانا فنحن في عالم العقل قلوب، والقلوب لا تزال تقطع بينها وبين الأبدان العلائق حتى لا تبقى بينها وبين البدن علاقة، ولا تزال الروح كدرة تترقى من درجة إلى درجة حتى تنتهي إلى حيث خرجت، وتعود من حيث جاءت". كما أن "كتاب العواصم من القواصم" تضمن قضايا خلافية أخرى من قبيل الحقيقة والمجاز ومسألة تأثير النفس في العالم وجدلية الدنيا والآخرة وإشكالية مفهوم الخيال والمادة والصور، وغيرها من القضايا والمسائل الخلافية بين الرؤية الفقهية المالكية لابن العربي ورؤية المتصوفة الغزالية، والتي يتردد ذكرها في كتاب "العواصم من القواصم" الذي جاء حازما وجازما ليقدم نقدا واضحا للفكر الصوفي الغزالي والعرفاني ولكل الفرق الكلامية والفلسفية، بالاعتماد على تقنيات الاستدلال العقلي ومقارعة الحجة بالحجة؛ وهو ما جعل كتاب "العواصم من القواصم" يتسم بطابعه النقدي الواقعي للخلاف الذي احتدم لردح من الزمن بين أنصار المالكية الذين اتخذوا أساسيات التصوف المعتدل، وبين الفكر الغزالي الذي جنح لمدرسة صوفية إشراقية كانت أكثر غلوا، مما جعلها تفتح الباب على مصراعيه لتسرب بعض الأفكار الباطنية لأخيلة العامة والخاصة من الناس. المتصوفة والزهاد بمنطقة الريف من خلال كتاب "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف" للبادسي يعد كتاب "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف" من أهم المصنفات العلمية التي أفردت حيزا كبيرا لصلحاء ومتصوفة منطقة الريف، وهو الكتاب الذي جاء ليسد فراغا بخصوص ترجمة مشاهير ومتصوفة وزهاد منطقة شكلت رباطا خلفيا للعدوة الأندلسية، فهو يمثل أحد المصادر العلمية النادرة في التعريف بصلحاء وزهاد الريف والتعريف بسلوكهم الوعظي والإرشادي، الذي كان يمثل منطقة تمتد أطرافها من سبتة حتى تلمسان. وقد جاء الكتاب تلبية لرغبة ملحاحة من لدن المؤلف لما رآه من إهمال المشارقة لإخوانهم المغاربة وإجحافا حقيقيا في تراجمهم للعلماء والمتصوفة والزهاد والاقتصار على علماء المشرق. كما أن البادسي لم يخف موقفه من ابن الزيات التادلي صاحب كتاب "التشوف إلى رجال التصوف" الذي خص علماء ومتصوفة أهل الجنوب من المغرب، مما جعله يغفل زهاد ومتصوفة الشمال، وإن التمس له العذر بسبب الصعوبة التي قد تعتريه في الكشف والنبش عن أعلام منطقة مترامية الأطراف بأصقاع متفرقة. لذلك، انبرى البادسي بتخصيص كتابه الآنف لصلحاء الريف والترجمة لزمرة من علماء وزهاد تلك المنطقة، التي شكلت حبلا موصولا مع العدوة الأندلسية والاعتراف الضمني بفضلهم وعلو كعبهم أسوة بإخوانهم في الجنوب المغربي عبر أطراف مترامية حتى تخوم صحراء الغرب الإفريقي التي كانت من مشمولات الدولة المغربية، بغية تدارك النقائص التي أجبر عليها التادلي في كتابه "التشوف إلى رجال التصوف". وفي هذا السياق، يقول البادسي: "فرأيت تتميم صلته وتنظيم فيصلته بذكر من كان ببلاد الريف من ولي يجب به التعريف حتى يعلم أنه كان بريفنا المهمل من أحسن في الطاعة وأجمل". وقد جاء الكتاب مقسما على أقسام ثلاثة: الأول خصه المؤلف لمسألة المقامات والكرامات والمفهوم الشمولي للتصوف والولي والفقير مضمنا إياه لشذرات من الاستشهادات لزهاد ومتصوفة من المشرق والمغرب معا. والقسم الثاني خصه للحديث عن شخصية الخضر عليه السلام. أما القسم الثالث فيروم التعريف بصلحاء الريف والترجمة لهم وتتبع مساراتهم ورحلاتهم العلمية. ولعل أهم ما يستوقف القارئ في هذا الصدد تفرد المؤلف بزمرة من التراجم ضمت 46 ترجمة لأشهر صلحاء وزهاد الريف من مختلف القبائل والمناطق من سبتة وبادس وقصر كتامة والمزمة وبني ورياغل وغمارة وكبدانة وتارغة وبني جميل وحوز ملوية وبني توزين وبني يطفت وغيرها من الأصقاع التابعة لمنطقة الريف. كما أن البادسي خص الأندلسيين الوافدين على مدينة بادس، والذين ينحدر معظمهم من مدن غرناطة وألمرية ومالقة تحديدا، وفي مقدمة هؤلاء المهاجرين الجد الأعلى للبادسي الذي نزح من غرناطة واستقر به المقام بمدينة بادس. بيد أن أهم ما يستوقف الناظر في كتاب "المنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف" اعتماد المؤلف على منهجية خاصة في تعقب كل الذين ترجم لهم، حيث ما لبث أن استقى لمعا من الأخبار عنهم إما سماعا أو رواية عن فقهاء أو أشخاص موثوق في صحة روايتهم، كما نجده أحيانا يستقي معلوماته بشكل مباشر من الزهاد أنفسهم مع إثراء ترجمتهم بما خلفوه من أدب ونظم، وهي لازمة اعتمدها البادسي عند الانتهاء من ترجمة كل متصوف أو زاهد لمن ترجم لهم، مختلفا بذلك عما أورده ابن الزيات في كتابه "التشوف" الذي أورد أشعارا لغير المترجم لهم. يقول البادسي معلقا على ذلك: "وقد رسم ابن الزيات في كتابه الذي سقى الحسن يانعه وناضره أبياتا من الشعر على وجه المثل والمحاضرة. فاقتضبت أبياتا عقب كل شيخ تناسب أحواله كل المناسبة وتطابق حالته المرضية ومكاسبه، وجعلتها لزومية الروي جارية على الصراط موافقة للخبر المحكي". واستطاع البادسي بجهده المتفرد أن يلم بصلحاء الريف وبسلوكياتهم الزهدية وأنماطهم التصوفية؛ فمنهم من كان يرابط بالمزمة ورابطة بادس ورابطة أم اليمن التي كانت مرتعا روحيا للاحتفاء بالمولديات النبوية. وهذه الرباطات التي عرفتها هذه المنطقة كانت على انتشار عظيم وانعقاد مستمر خلال العهد الموحدي، حيث كانت تزاوج بين الدور التعليمي المخول لها والجهاد البحري، مشكلة بذلك قناة للتواصل الثقافي والفكري والروحي مع الضفة الجنوبية للعدوة الأندلسية. ومنهم فئة الزهاد الذين اتخذوا الرحلة والسفر مطية للنسك والعبادة سواء داخل أصقاع بلاد المغرب أو خارجها لتشمل بلدان الشرق العربي والأماكن المقدسة التي تشحذ الناس لزيارتها والارتواء من قدسية أمكنتها، لا سيما أن الرحلة صوب تلك الأماكن السامقة بلغت ذروتها في تلك الحقبة الزمنية، والتي عرفت علماء وزهادا ومتصوفة لا يزال التاريخ يحتفظ بلمع من أخبارهم وتنقلاتهم ومروياتهم وحلقاتهم العلمية. على أن الحديث عن كتاب "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف" لن يجعلنا نغض الطرف على ما دبجه البادسي من أخبار وتراجم لمتصوفة الوقت خاصة حين أفرد حيزا وارفا للصالحات الناسكات المتعبدات من نساء الريف، ووصف بعضهن بالصدق والصلاح والتحري في رواية الأخبار والأحداث من قبيل عمته التي كانت راوية زمانها، يقول البادسي في هذا الشأن: "حدثتني عمتي زينب بنت جدي الفقيه أحمد وكانت عجوز صدق، راوية للأخبار..." كما أورد سيرة صالحة أخرى والتي شهد لها الرجال بالكرامات. كما أورد البادسي نقلا عن ابن الغماز الذي كان ضمن قافلة الحجاج التي قصدت الديار المقدسة ما قوله: "كنا ببرقة في جمع الحجاج، فأتينا إلى بئر بها، ولم نجد عليها دلوا، وكان معنا عجوز صالحة، فحاولت أن وصلت في ركوتها خيوطا كانت عندها وأدلت الركوة في البئر، فلما همت بنزع الركوة من البئر، انقطع الخيط وبقيت الركوة في قاع الماجل.... فرفعت العجوز طرفها إلى السماء وقالت : اللهم رد علي ركوتي، فأرسل الله بماء وابل كثير فجزت منه التلاع إلى الماجل فامتلأ في حينه... وأخذنا حاجتنا من الماء، وانصرفنا معترفين بفضل العجوز، شاهدين على كراماتها ما قضينا به العجب". أما النموذج الثالث الذي يقدمه البادسي حول الصالحات من نساء الريف كما هو مدبج في كتابه "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف" فيتعلق بالزاهدة المتفقهة الصالحة أم اليمن صاحبة الرابطة التي أمرت ببنائها بقبيلة "بقوية" على جبل مصاقب للبحر، لتجعلها مكانا للنسك والعبادة ومرتعا لإطعام وإيواء المحتاجين وهي المعروفة اليوم بمنطقة لالة ميمونة، حيث كانت تعقد فيها المواسم الدينية والاحتفالات النبوية، فيقصدها الفقهاء والمتصوفة والزهاد وعامة الناس من كل حدب وصوب للمرابطة فيها حيث كانت تقدم فيها كل صنوف الكرم والوفادة والارتواء من الأجواء الروحية التي كانت تحيط بها.