سوق ليس ككل الأسواق المنتشرة في المدينة العتيقة. إن له نكهة وتنوعا وفضاءات متناقضة. يعانق فيه الموت الحياة بسر كأسطورة مطلسمة ترويها مصورات المكان المرسومة بمداد الزمان. هنا مجمع الأضداد ختمها وأولها الميلاد والوفاة، الحركة والسكون، الظهور والغياب، الماضي والحاضر، تتلاقى على أرضية تنتج لحظة زغاريد الأفراح وصمت المقابر. فزيارته إلزامية لزوار مزارات المدينة المحليين والوافدين من داخل المغرب وخارجه. فضاء تسيجه أسواق وتحفه ساحات تتقاطع معه عموديا وأفقيا، وتتداخل من حوله مثل خريطة الدماغ أو رسومات نسيج بساط ملون يروي حكايات اجتثت من بين طيات أسفار تاريخ متحف مشرع مترامي الأطراف اسمه "فاس العتيقة". سوق يعزف أنشودة الموت بأوتار الحياة، يهديها الضوء والبهجة من باب، وترنيمة العتمة والمأتم من باب آخر. مدخلان متناقضان لأحدهما هوية الانشراح والآخر مرثيات النعي. في قلب هذا التشابك من المنعرجات وطيات أزقة ومسالك مدينة متاهة متوالدة ممتدة الثنايا، يوحي ظاهرها بالفوضى وتراكم الأضداد ويفشي باطنها نظاما عرفيا محكم التصفيف ينساب وتقاسيم قديمة قدم العمران، تخالط هنا اللحظة الزمانية المكانية، يؤازر بعضهما البعض، لا تفصل بينهما المسافات ولا يلغي وجود أحدهما الآخر. ينفرج المنفذ الشمالي لهذا السوق كسر انفلت من وهاد قمقم محفوف بالألغاز، مدثر بخفايا لها صبغة رحلة موغلة في غياهب سجلات أحداث سنوات مرت من هنا وتوارت خلف ستائر سرمدية تركت ندوبا وآثارا على أعتاب هذا الفضاء. منسلخ عن "القشاشين" أو "الفخارين" اسمان لزقاق واحد، وكذراع ملتحم بتفريعات ساحة النجارين، ينسج من "صابة الصحافة"، كوة موغلة في ردهة شبه عتمة ترزح تحت سقف صبب (واطئ) وعلى جنباته تستريح آليات النقل من دار الفناء إلى دار البقاء. نعوش وألواح محدبة تفوح منها رائحة المنية، تنتظر في صمت وعزلة أخبار الراحلين إلى رموسهم (قبورهم)، رحلة ذهاب بلا إياب. مدخل له وقار وهيبة ورهبة وغور سكون، يمتطي مسطبتيه اليمنى واليسرى "الصحافة" عمال مؤسسة عتيقة لتجهيز الموتى وإعدادهم لمثواهم الأخير. مؤسسة عرفية ألحقت بهذا الحيز مع نشأة المكان. حمالة النعوش وغسالو الموتى، يسندون ظهورهم إلى آلات الحمل والصحاف، كأنما صففت لحمل سواهم ولا معاد لهم إليها في يوم من الأيام. أناس يستمدون من الموت قوة الحياة واستمراريتها. ينتظرون في ترقب متطلعين إلى أنباء القاضين نحبهم، الراحلين عن دنياهم. مهنتهم الوساطة بين البقاء والفناء، بين الوجود والعدم، كأنهم شخصيات تراجيدية طالعة من مسرحية العالم السفلي. يعيشون بالموت ومن الموت ومع الموت، يبتهلون إلى الله كل صباح ومساء بأكف الضراعة: "يا من رزقي فيه أفنيه". لقد امتزجوا بالموت، فأضحى مصدر عيشهم. يجلسون في تأن يقرؤون صحف الموت وجوه المارين من أمامهم. يتناسق في خلدهم عقد الحياة ونهايته وفي طبيعة وظيفتهم تجري سنة التدافع، خطب قوم عند قوم مكاسب. لكن لوجودهم معنى في نظام مدينة لا تشبهها المدن، لها استقلال ذاتي تام في كل مناحي الحياة، توفر كل الضروريات التي يحتاجها سكانها داخل هذه المدينة من المهد إلى اللحد. في الجهة المقابلة، يشرع المنفذ الغربي المقابل طريقه على فضاء يرشح بمواد متع الحياة وضوء السماء والماء وساحة بدوحتين تتوسطان الفسحة كعمودين انشق عنهما باطن الأرض أو هبطتا من أديم الفضاء. ترعيان ظلال الماضي وتحدثان بترنيمة صعود وانهيار جنان المرستان. إنهما شاهدتان على بقايا حديقة فائحة وارفة غناء كانت في زمن ما منتزها وحيز استراحة لمستشفى الأمراض النفسية وعلاج الحيوان والطير على السواء من القرن ال13. "المارستان" كلمة فارسية تعني "دار المرضى". لقد حملت هذه الساحة أيضا اسم "سوق الحناء". تستهله سقاية ماء كعنصر ضروري لا غنى عنه من عناصر تأثيث مشهد الأسواق والأحياء القديمة. عن يمينها تجويف، كوة سامقة تضم ميزانا بضاعة كبير. كانت كجنسه الموازين تشكل في فترة غير بعيدة مستلزمات كل الأسواق التي لها طابع بضائع الأوزان. إنها منة من الأحباس للبائع ولدحض شك المشتري، إذا ما خالجه ريب في نقصان وزن بضاعته، فيزنها بنفسه حتى يطمئن قلبه أو يثبت عنده صدق أو غش بائعه. يوحي مشهد ساحة سوق الحنة بأقبيته على الجهتين المكتنزة بمصنوعات الفخار اليدوية ملونة بالأزرق اللازوردي، لون رمز فاس وأخرى غير ملونة في طبيعتها الطينية وغير هذه بمستلزمات الاستحمام والتجميل النسائي، حيث تختلط البضائع والروائح المغرية للحناء الخامة والمسحوقة، قوارير ماء الزهر وماء الورد وأوراقه. ومواد التطهير والاغتسال، الغاسول، الصابون البلدي والمصنع وأكياس يدوية ومحكات النظافة. الكحل و"مراويده"، "العكار البلدي" والعطور والبخور، عود الصندل والند و"سرغينة" لزينة الأحياء ودفع العين عنهم وعطر الغالية للأموات. في زمن غير بعيد، كان يباع هنا الصمغ والأقلام القصبية لتلاميذ الكتاتيب القرآنية ولطلبة القرويين وملحقاتها. إنه يشبه مشهد كواليس سينمائية خيالية لسوق فيلم من أفلام ألف ليلة وليلة. تتداخل البضائع المعروضة أمام المارة في صفين يمنة ويسرة، فلا يمكن التفريق بين، أيها تنتمي إلى هذا الدكان أو الآخر. بضاعة تبدو للعين من غير مالك، معروضة للزوار الأجانب وغير الأجانب. قدور، وشبابيك حديدية وألواح خشبية وطاولات من الزليج، أواني زينة، أكياس ملقاة هنا وهناك عند جذع الشجرتين أو على حائط المسجد الصغير، الذي يربط الساحة بالفندق التجاري، الذي منه انحدر اسم المكان، "سيدي فرج". تسمية عادة لولي لكن لا ضريح. فاللغة العامة تعرف تضمينات الاستعارات والتفاؤل بالأسماء، فقد حول المكان من اسم باب الفرج، كما أورد العلامة محمد بن جعفر الكتاني في كتابه "سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من الأولياء والصلحاء بفاس"، إلى "سيدي فرج"، لأنه كان مستشفى يجد فيه الأشخاص انفراجا لأزماتهم النفسية وأيضا لمعاناة أسرهم. رواية أخرى تقول إن السلطان المريني أبا عنان أوكل إلى الطبيب الأندلسي فرج الخزرجي مهمة إعادة هيكلة وتطوير المستشفى. فكانت العامة، كما يقضي أدب المجاملات حتى اليوم، تطلق لقب السيادة كاحترام لخدمات شخص ما أو لمكانته العلمية أو الاجتماعية أو الدينية. تمثلا بمقولة: "أقول مولاي وسيدي، لمن فك قيودي". لبناية هذا المستشفى القديم طراز هندسة ليست بدعا من بقية الفنادق العريقة المنتشرة في المدينة القديمة. بطابقين و"درابيز" خشبية تطل على بهو به بنافورة ماء معطلة تغطيها أكداس من الطواجين السلاوية وتحفها سوار كان يزين الجزء السفلي منها زليج الفسيفساء واليوم مكسوة بالخشب. في الحاضر، يعمر الطابق الأرضي تجار الخزف والملابس الجاهزة والعلوي بعض المهن اليدوية. في ما مضى وعلى امتداد سبعة قرون من الزمن، كانت بيوته السفلية مأوى للحالات النفسية الذكورية والفوقية للنسائية. فقد استمر التطبيب فيه بشكل أو بآخر إلى قرابة منتصف القرن الماضي. وكذلك استعمل سجنا للنساء الجانحات. كما أنه عرف فترة تألق وصعود، حيث تم فيه تدريس الطب وعمل فيه أعلام مثل الحسن الوزاني واتخذ نموذجا لبناء مستشفيات على شاكلته في مواطن من البحر الأبيض المتوسط مثل بلنسية. وحيث إن للأسطورة دورا في تشكيل الذاكرة الشعبية وتمديد غرائبيتها، فقد ساهمت هذه الأسطورة بدورها في خلق صلة قرابة بين تأسيس المستشفى ومؤسس المدينة. من خلال طائر اللقلاق، الذي جاء يحمل في منقاره حلية حط بها على قبة ضريح مولاي إدريس، فقد بيعت بثمن باهض وبهذا المال شيد المستشفى. لم يكن المستشفى في مرحلة ازدهاره مقتصرا على علاج الإنسان فقط بل حتى كسور وإصابات الحيوانات وخاصة طائر اللقلاق. الطائر المقدس في الأسطورة المغربية، التي تقول: كان اللقلاق فقيها فتوضأ باللبن، فمسخه الله إلى طائر بقي يحمل لون سلهامه الأبيض. ففي مراكش مثلا، هناك "دار بلارج" كانت مستشفى بيطريا لمداواة الطيور وفيها أيضا "زنقة بلارج" التي ما زالت بها أعشاش عديدة لهذا الطير. وإلى حدود السبعينيات من القرن الماضي، كان ل"بلارج" عش عظيم فوق صومعة مسجد سيدي اللزاز بالطالعة الكبيرة. الذي كان يمنح منظرا رائعا إلى جانب صومعة المدرسة البوعنانية ويجسد انسجام الإنسان والبيئة. إلى أن مر أحد البلداء الذين تقلدوا وزارة السياحة وأمر بنزع "هذا الوسخ" على حد قوله ويقصد به عش "بلارج". لقد كان لهذا "البلارج" أحباسه الخاصة، ومن ذلك التاريخ حتى اليوم لم يعد "بلارج" إلى صومعته أبدا. من المعروف أن من ابتكارات هذا المستشفى أنه كانت تقام فيه كل يوم جمعة حفلة موسيقية للمرضى، كأحد أساليب العلاج. وكانت تقاس حالتهم الصحية وفقا لانفعالاتهم مع الموسيقى. يذكر الدكتور عبد الهادي التازي، في كتابه القيم "القرويين"، أن مدفوعات المستشفى مثل مدفوعات الفرقة الموسيقية كانت من أموال الأحباس؛ فقد كانت حصة سيدي فرج من الأحباس في المرتبة الثانية بعد القرويين في ما يخص الأراضي وفي الرتبة الثالثة في ما يتعلق بالعمارات. وقد استمر هذا التقليد الموسيقي أمام بوابة هذا المستشفى الفندق، حتى بعد نقله سنة 1949 إلى باب الخوخة، في مناسبة عيد المولد النبوي، كرمز لذكرى هذا المستشفى، وقبل تحويل هذا التقليد حاليا إلى ساحة النجارين. كان شيوخ طرب الملحون ينشدون صبيحة العيد قصائد بحضور جمهور كبير، ويسمى هذا الحفل "المعراج"، وكان آخر عمالقة هذا الإنشاد عبد المالك اليوبي وعبد الكريم كنون، الذي كان ينشد قصيدة المعراج من نظم شيخه الغالي الدمناتي والتي تشتمل على ألف بيت، كذلك قصائد السيرة النبوية من الميلاد حتى الوفاة. إن تعايش الحياة والموت في هذا الفضاء، المركب من مستشفى وحديقته القديمة وصابة الصحافة، لم يأت عبثا؛ بل هو تدبير ومخطط عريق يدخل في مجالات الأحباس، التي كانت تهتم بالموتى الغرباء الذين لا أهل لهم ولا مال لتجهيز مآتمهم. فكانت هي من يتولى نفقات تجهيزهم ودفنهم في جنازة لائقة. فقد اختارت على علم هذا الحيز المحفوف بالحركة التجارية كلقاء بين الحياة والمرض الوفاة وكتذكير لمن حوله بالموت. فإذا كان الناس لكثرة مشاغلهم لا يزورون القبور كما جاء في الحديث النبي: "ألا فزوروها فإنها تذكر بالآخرة"، فإن مهنة القبور هي من تزور الناس وتساكنهم في وسط دوامتهم الحياتية، متمثلة في رموزها الحاضرة في مدخل السوق الشمالي.