لا يخفى عن أي دارس للترجمة بالمغرب البزوغ الجديد والاهتمام بهذا الحقل المعرفي. فبعدما كانت نشاطا فكريا هامشيا، إلا أن اليوم أصبح الأمر مختلف، والسبب راجع لما أتت إليه الترجمة في بداياتها من قبيل الانفتاح الحضاري الذي لم يجد المغرب طريقه نحوه أو تعثر في الوصول إليه، والآن، أصبح يستدرك ما فاته من آفاق كان من الممكن جدا أن يستفيد منها. إن إحداث الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة في مناسبة الاحتفاء باليوم العالمي للترجمة يومي 28 و29 شتنبر 2021 كجهاز علمي لأكاديمية المملكة المغربية إشارة صريحة عن العودة جديا للاشتغال على هذا الحقل المعرفي، ولا يمكن اعتبارها سحابة صيف عابرة وتنقشع، لهذا يمكن القول أن المغرب قد بدأ بتأسيس درس الترجمة في سياق صحيح تطغى عليه سمة المؤسساتية التي بدورها تتيح لها شروطا ناضجة للاشتغال وتوسيع الآفاق المنتظرة. مما يمكن رصده من اختصاصات الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة مايلي: القيام بأعمال ترجمة المؤلفات والدراسات والأبحاث العلمية المرجعية الأصيلة في مختلف مجالات العلوم والفكر والثقافة والتراث والحضارة، سواء من قبل الهيئة مباشرة أو تحت إشرافها. تشجيع البحث العلمي في قضايا علم الترجمة وتطبيقاته، والعمل على تطويره وتتميمه، بتنسيق مع الهيئات والمؤسسات العلمية المختصة، سواء الدولية منها أو الأجنبية أو الوطنية، ولاسيما من خلال: إحداث مختبرات متخصصة للبحث في مجال تطبيقات علم الترجمة والتواصل بين اللغات. دعم تشكيل مجموعات للبحث والتفكير في قضايا الترجمة وسبل تطوير أساليبها حسب الحقول العلمية المختلفة. تنظيم ملتقيات علمية وطنية ودولية تجمع بين الممارسين للترجمة من جهة والباحثين المهتمين بقضايا الترجمة من جهة أخرى، وتأسيس وتفعيل نظام للتوثيق من شأنه أن يشجع التواصل بينهم من أجل تطوير أعمال الترجمة وتوسيع نطاقها. العمل – تحت إشراف الأكاديمية – على نشر الأعمال العلمية المترجمة التي قرر المجمع الأكاديمي نشرها. تنظيم جائزة وطنية باسم الأكاديمية لمكافأة أحسن الأعمال في ميدان الترجمة. إقامة شراكات علمية مع الهيئات والمؤسسات التي تسعى لتحقيق نفس الأهداف من أجل تبادل الخبرات معها. تشكل هذه الاختصاصات منفذا أوليا لضخ دماء جديدة في شرايين هذا الحقل المعرفي الذي ولد يتيما بالمغرب، إلا أنه هناك بعض الاختصاصات يمكن تلخيصها في فكرة واحدة تجعل من التفكير أن يذهب إلى أبعد الأفق منطلقا بهوية وطنية مغربية محضة، تجعل من درس الترجمة بالمغرب نموذجا متميزا في التصور النظري والتطبيقي عن باقي النماذج العالمية، متفاديا/مستفيدا بالتبعية الفكرية للشرق أو للغرب. في السياق نفسه، يعتبر التفكير في التصورات النظرية للترجمة ضرورة ملحة وأساسية، ولعل الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة لها من الصلاحيات العلمية والمؤسساتية الكافية من أجل رسم ملامح مدرسة مغربية للترجمة. إن التصور المغربي للترجمة يمكن أن يفرز عن طريق طرح سؤلين جوهريين يمكن اعتبارهما مفتاحين تأسيسيين: ما الهدف من الترجمة؟ وعلى ماذا يجب أن تستند؟ إن التفكير بالمنطق الذي يهدف يهدف إلى بناء الذات كفكر ذو خصوصية تاريخية، اقتصادية، وثقافية... يجعل من استوراد الفكر المغاير خاضعا لمبادئ عدة: كالتصحيح، التكييف، والإضافة وفق شروط ثقافية، فكرية، ولغوية محددة. فالتصحيح كمبدأ/مدخل له القدرة، -في مجال التاريخ على سبيل المثال-، أن يقوم بإعادة كتابة تاريخ صحيح ووطني لا تطغى عليه النزعة الإيديولوجية الكولونيالية كنموذج. من هذا المنطلق، فإن الترجمة وسيلة للدفاع عن الذات في سياق تاريخي وحضاري مختلف ما دام التاريخ الفكري الإنساني في سيرورة دائمة عير منقطعة. أما التكييف فهو مبدأ يمهد الطريق لانصهار كتلتين حضاريتين في سياق واحد، وكنتيجة له، يجعل ملامح وجهين متباينين تشكل وجها واحدا، مما يؤدي للتلاقح الثقافي الذي تنشده الترجمة. أما مبدأ الإضافة فيعتبر العنصر الذي يميز المدرسة الترجمية عن طريق وضع لمسة الخصوصية المختلفة عن الآخر. إن الخوض في التفكير في تصور أولي لترجمة مغربية أصيلة تستدعي منا الوعي بأن الترجمة يجب أن تكون لها فوائد -بالمعنى الاقتصادي- على كل ما يشكل تاريخنا، حاضرنا، ومستقبلنا، ولكي لا نقع في فخ الترجمة من أجل الترجمة وفقط، يجب التعمق في هذه الإشكالية بشكل جدي من أجل بناء مدرسة مغربية للترجمة ذات أسس نظرية وتطبيقية خاصة. (*) أستاذ باحث في سلك الدكتوراه تخصص ترجمة