حسب الراحل محمد عابد الجابري، أنتج العقل العربي الإسلامي، ثلاث بناءات إبستيمية كبرى يمكن أن تنسب إليها جميع التيارات الفكرية التي يزخر بها تراثنا المعرفي. هذه البناءات الثلاث هي: البيان والعرفان والبرهان. أما الخلاصة التي انتهى إليها، فترجع سبب الانهيار الحضاري الذي عرفه العالم العربي خلال القرون الماضية إلى الزواج الكاثوليكي بين البيان والعرفان. ويقترح، لتجاوز حالة الانحطاط هذه، كسر هذا التحالف، وإعادة ربط الاتصال من جديد بين البيان والبرهان، كما شهدته العصور المشرقة من التاريخ العربي الإسلامي. هذه الاستنتاجات تنم على أن هذه القراءة، لم تكن موجهة بحس معرفي يثغيا البحث في إشكالية عويصة واجهت وتواجه العقل العربي الإسلامي، ومن تم استكشاف مسارات للإصلاح المجتمعي المنشود، بل وجهت بنزوع إيديولوجي منذ البداية، لأنها تشيطن العرفان جملة وتفصيلا، وتنسب إليه كل المشاكل التي يعرفها الواقع العربي، مثلها في ذلك مثل دعاوى رموز التيارات النهضوية سواء "التقدمية" منها أو السلفية، وتناصر على حسابها تيارا آخر معين. أما على المستوى المنهجي، فإن الدراسة لم تنتبه إلى أن البناءات الفكرية الثلاث، رغم الاختلافات التي توجد بينها إن على مستوى المقدمات أو المآلات، إلا أنها تمتح من نفس البراديغم، متمثلا في المثالية، القائلة بتعالي الحقيقة أو بأسبقية الفكر عن الواقع، وبالتالي لا مجال للمفاضلة بينها، بما أنها تؤسس لنفس النظرة "القاصرة" للذات والوجود. كما أن هذه القراءات لا تجيب عن سؤال ملح، نتج عن القراءات الحديثة غير المتحيزة للتراث العرفاني وخاصة أهم تياراته متمثلا في الصوفية، وعلى الخصوص بعض النماذج منها، تنم عن حس "ما بعد حداثي" (مع حصر المعنى إلى حدود ضيقة) لدى هؤلاء المتصوفة، نابع من إعلائهم لقيمة الحب، نبذهم لجميع أشكال التعصب، والتبشير بما يمكن أن يكون دينا كونيا، يقبل تحت مظلته بالجميع دون استثناء. فنتساءل هنا عن خصوصية هذا الخطاب؟ أو ما الذي يميزه عن باقي الخطابات التراثية، رغم اندراجه في المجرى العام للمثالية؟ بدأت علاقتي بالصوفية منذ نعومة أظافري، فالإسلام الشعبي الذي مارسه الآباء، إسلام متشبع بالصوفية. يظهر ذلك في القيم التي تؤطر تعاملاتهم اليومية، ومن بين هذه القيم قيمة التسامح، التي نجدها حاضرة بشكل قوي في سلوكهم. يظهر ذلك واضحا في العلاقات التي أقاموا مع الأقليات الدينية سواء المسيحية أو اليهودية، فرغم الاختلاف العقدي فقد نسجوا مع هذه الفئات علاقات اجتماعية واقتصادية متينة. أو في نظرتهم لبعض الفئات الهشة أو المهمشة اجتماعيا (بائعات الهوى، المدمنون على المخدرات، الشحاذون...) المتسمة على العموم بالتسامح والتقبل والتعاطف. هذه هي الإرهاصات الأولى لعلاقتي بالصوفية، لكن، علاقتي بها ستتجدد من خلال إعادة اكتشافها، وبذلك ستخرج من دائرة اللاوعي وتلج منطقة الوعي، وتصبح قضية مركزية في تفكيري. حدث ذلك في أعقاب اطلاعي على بعض الكتابات الروائية التي اتخذت من الصوفية أو بعض من رموزها: ابن عربي أو جلال الدين الرومي نموذجا موضوعا لها. لقد تفاجأت بوجود حكاية بين ثناياها، كانت جدتي قد قصت علينا خلال الأمسيات التي نقضي عندها في منزلها المتواضع غير المرتبط بالشبكة الكهربائية وغير المجهز بتلفاز. كنا، كل ليلة نبيت عندها، نتحلق حولها، خلال المساء، ونطلب منها أن تقص علينا الحكايات التراثية. كان في جعبتها الكثير منها كجميع الجدات الطيبات، ومن بينها حكاية "السائح والناسكة". لقد وجدت نفس الحكاية بتفاصيل مختلفة، لكن بالحبكة نفسها، والخلاصة ذاتها، وهي الفكرة الأساسية التي تدور في فلكها الصوفية: "الله واحد، أما الطرق إليه فمتعددة". غير أنني، وبفعل القصف الإيديولوجي الذي تعرضنا له، أنا وأبناء جيلي، سواء في المدرسة أو المسجد أو وسائل الإعلام، أو غيرها من وسائط التنشئة الاجتماعية، عقب مد التيارات السلفية والوهابية والإخوانية التي تجمع كلها على التنديد بالصوفية واعتبارها السبب وراء تخلفنا، جعلني أبتعد عن هذا التيار الفكري الغني، دون الوقوع في دغمائية عمياء، أو الوقوع سجين ما سماه الراحل محمد أركون "السياج الدغمائي". فعملت على الاستمرار في الاطلاع على الكتابات التي اتخذت من معضلة التخلف الحضاري التي تعاني منها المجتمعات العربية الإسلامية موضوعا لها، باعتبارها الإشكالية المركزية التي واجهتها جميع التيارات الفكرية العربية أو المشاريع الفكرية التي حملها المفكرون العرب. ومع المزيد من الانفتاح على قراءات مختلفة ومتنوعة حد التناقض، بدأت أراجع قناعاتي المترسخة حول الصوفية، ومعها بدأت تظهر لي قيمة هذا الفكر، وقد أجازف بالقول إنه الخطاب الإسلامي "الوحيد" الذي يستطيع التعايش مع الحداثة وما بعد الحداثة، إذا نحن أعدنا قراءة متونه الأساسية على ضوء ما ترسخ في المحافل العلمية الدولية من أدوات التحليل الحديثة. هذه ليست دعوة لإقصاء باقي التراث العربي الإسلامي بل على العكس من ذلك، هي دعوة لإعادة قراءة جميع تراثنا، لكن، بحس معرفي يتجاوز المآزق الإيديولوجية التي تورطت فيها العديد من المشاريع الفكرية العربية الإسلامية، التي تلقي باللائمة على هذا الفصيل أو ذاك في الانحدار الذي عرفه العالم العربي. فعلى العكس مما تدعيه التيارات الإيديولوجية، فإن البيان ظل مهيمنا على الساحة الفكرية والسياسية العربية الإسلامية، وبقي البرهان هامشيا إلا في بعض الفترات من تاريخنا الفكري أو انتعش مع الحركات الاصلاحية الحديثة، أما العرفان فظل حضوره محتشما متخفيا بفعل الاضطهاد الذي تعرض له الكثير من رموزه أو وجد له في تعبيرات شعبية (طرقية الزوايا، صوفية التكايا نموذجا) وسيلة للتعبير عن نفسه بعيدا عن المراكز الحضرية الكبرى للتخلص من رقابة السلطة الحاكمة. فإذا ما كان من الضروري أن نقدم كبش فداء على مذبح تخلفنا الحضاري، فمن المنصف أن نقدم البيان دون سواه من التيارات الفكرية. ورغم المجهود الكبير الذي بذله المتصوفة في الالتزام بالخط الديني العام، إلا أنهم لم ينجحوا في تبديد سوء الفهم الكبير، الذي جمعهم بباقي التيارات ويذيب جليد التوجس الذي تراكم بينهم وبين أقطاب باقي الحركات الفكرية قديمها وحديثها. مرد سوء الفهم الكبير هذا، أن التصوف اجترح لنفسه تجربة فريدة ومتفردة، ركبت الكشف اللّدني، ليس باعتباره مذهبا فقهيا يتتبع أثر المنقول خطا كما البيان، أو صرحا فكريا يقتفي تواتر المقبول منطقا كما البرهان، بل باعتباره تجرية جمالية مفتوحة، حررت الذات العارفة من سطوة المؤسسة الكهنوتية (ليست بالضرورة دينية)، التي حاولت حصرها داخل أطر مرجعية جامدة، فأنتج المتصوفة نصوصا منفلتة، عصية على التصنيف، امحت معها الحواجز بين الشعري المفصح عن لاوعينا الفردي والنثري المعبر عن لاوعينا الجمعي، بلغة مبتكرة غير مسبوقة. إنها محاولة لوصل ما انفصل مع البيان المتكئ على الجسد مرشدا، والبرهان المتوسل بالعقل أداة. تجربة اتخذت من الروح معراجا يصل بين الجسد والعقل، باعتبارها جوهر الإنسان. الجوهر هنا ليس بالمعنى المثالي المتعالي عن تجربة الوجود المفارق للزمكان، بل باعتباره ماهية الإنسان، الذي هو كائن مبدع بالأساس، مشروعا مفتوحا على المستقبل، على الإنسان المنشود، المعبر عن وحدة الذات والوجود، كإفلات من النظرة المانوية للعالم، وتجاوز التناقض بين الجسدي والعقلي، الذي جعلت منه الميتافيزيقا حصان طروادة لمحاصرة الإنسان وجعله أسير رؤيتها الفصامية للوجود.