يقال دائما الخوف أكبر من القتل ... "" من المشاهد الأكثر إيغالا والأكثر دموية في تاريخ المغرب المعاصر مشهد الشهيد المهدي بن بركة وهو يذوب في حوض من لاسييد دون شفقة وتتبخر معه أحلام التحرر الذي ظل يحلم بها في منفاه الباريسي .
صناعة الخوف في المغرب ، قديمة جدا ، قدم الدول التي تعاقبت على السلطة في المغرب ، فقد قتل المولى إسماعيل ابنه وعلقه على أبواب مدينة مكناس في منظر يوحي عما تمثله السلطة في نفوس الملوك والسلاطين .
كانت الأسوار إلى جانب كونها أداة للدفاع عن المدن المغربية ضد تمردات القبائل وضد الأجنبي ومعرضا خاصا لعرض رؤوس المعارضين والتشويه بأجسادهم في حالة استعراض ونشوة المخزن المنتصر وفي إعطاء دروس التهذيب المجانية وفي صنع هيبة شوكة المخزن التي لا تقهر .
كان الجيلالي الزرهوني الملقب من قبل المخزن " ببوحمارة "، موضوعا في قفص كأرنب صغير ، والناس متجمهرين حوله من مدينة لأخرى محمولا في صور الإذلال يكمل الصورة التي أرادها المخزن تخويف الساكنة كلما وقعت الواقعة ، واقعة الموقوف ضده التمرد عليه .
شيئا فشيئا استغل المخزن إرثه الطويل في فنون تعذيب الأهالي المتمردين ، حيث ظلت جزيرة " الصويرة " معتقلا منسيا يصله الجلاد بباخرة لنقل المساجين المعارضين لآليات الحكم .
غداة الاستقلال وجد الحسن الثاني نفسه في موقع حرج فجرب كل الأساليب المستمدة من التاريخ المغربي الحديث والمعاصر وأضاف عليها نشوة الجنرال أوفقير الدموي في إطلاق العنان لرشاشته في سحق جيش التحرير ، وسحق انتفاضة 1963 في الدارالبيضاء .
كان الجنرال وصديقه دمويا مما يبعث في النفوس نسيان فعل التمرد ونسيان هوية السياسة وويلاتها . كان القياد أكثر بطشا في القرى والمدن وكانت المعارضة حقيقية واتسعت لائحة السجون وأسمائها المخزنية وامتدت في الشمال كما في الجنوب ، وظل أوفقير إلى حدوث سنة إعدامه السفاح الذي لا يهاب الدم ويمقت الجميع .
ظلت صناعة الخوف تتسع وأصبحت النفوس من الجزع والرهبة من التحدث في أي شيء حتى صارت للحيطان أذانا تسمع وترى .
في جانب آخر تطورت ثقافة الخوف في الناشئة وصارت أسماء السجون كوابيس ملعونة تخيف الصغار كما الكبار .
كانت الإعتقالات غير المنقطعة وحالة الرعب السارية في الجميع من السفاحين والقتلة والذين لا يملكون رحمة بهذا الشعب المستضعف ، طغاة تجبروا وعاثوا في أرض المغرب فسادا في دار المقري / الكوربيس / السجن المركزي / بولمهارز / تازمامارت ... وباءا يخيف كل معارض وهتفت الجماهير دون رضاها وكرهت في نفسها صورة ديكتاتوري صغير جاثم على النفوس بقوة وبقهر وكأنه يرسم صورة مكبرة عن جلاد في ثوب ملاك .
خلال سنوات السبعينيات من القرن الماضي كبرت الصورة وأصبحت أكثر قتامة من ذي مضى ، صورة الانقلابيين الأول والثاني وهم يعدمون رميا بالرصاص وفي جانب أخر صورة رفاق محمد أمقران ... وهم يزيلون الأعصبة عن عيونهم وهم يستقبلون الموت بشرف الفاتحين .
ضاقت السجون والمعتقلات واتسعت صناعة الخوف بمجاراة الاعلام الرسمي للطروحات المخزنية بالترهيب والتخويف ورسم صورة الكاسر والباسل والباشق لمخزن يتلذد بتعذيب المغاربة ويرسم مستقبلا غارقا في الدم .
ظل الخطاب التمجيدي للنظام وظل شعب " الأوباش " و " البخوش " متحسرا ينتظر كبوة الزعيم التي طالت ، قدمت قناة دار لبريهي المعتقلين الصحراويين وهو يعترفون بما اقترفوه ولم يقترفوه ، واعترف الطلبة المغاربة اليساريين خلال السبعينيات والثمانينيات تحت ألوان التعذيب " البوغريبية " نسبة إلى أبو غريب العراقي أكثر وقعا على العائلات وهي توصي أبناءها إياكم من الانضمام إلى الإتحاد الوطني لطلبة المغرب والمنظمات المناوئة للحسن الثاني ...
أعدم أوفقير وجاء مكانه الصبي الأكثر طاعة والأكثر دموية في قهر الأحزاب والمنظمات والمعارضين . كانت لائحة المنفيين تزداد وكانت لائحة الإختطاف القسري والسري تزداد كل يوم وانضافت إليها سياسة التجويع وتهميش المعارضين والفتك بالأقلام الحرة وخلق صحافة منصاعة والضرب بحديد على من سولت له نفسه معارضة النظام .
كل هذه الصور ومثيلاتها خلقت رعبا في النفوس ونفورا من الفعل السياسي ومن الانخراط في دينامية الفعل المجتمعي ، وظلت المقولات الشعبية " الهروب رجلة " والهروب رجولة و " دير راسك بين الرؤوس ونادي يا قاطع الرؤوس " ثقافة جديدة مستحكمة في المواطنين .
وبدأ العزوف عن السياسة وعدم الثقة في الساسة الذين خلقهم المخزن بمستودعات المخابرات ومقالبها ووزارة الداخلية وهياكلها التي لم يعرف المغاربة قرارا لها .
كان إدريس البصري في صورة ذاك الذئب الماكر ، وهو يقبل يد الملك الراحل ويكشر عن أنيابه تجاه القياد والعمال ورجال الإستعلامات والمخابرات بالفتك بكل معارض بلا شفقة .
كانت ثنائية أوفقير / الحسن والثنائية المتجددة الحسن / بنهيمة ، والحسن / إدريس ، صفة مثلى لرسم الصورة الكبرى عن أي شعب يريدونه : شعب مطأطأ الرأس كالأنعام ،وهم يقبلون والعرق يتصبب من جباههم اليد " الكريمة " الملك الراحل . أي إذلال أكبر من هذا ؟ وأي مهانة استحقها هذا الشعب أكبر من هاته المهانة ؟
كانت أصوات المعتقلين تصل لماما وإن وصلت تكون مشوشة وبها الكثير من التضليل التي ترسمها وسائل الإعلام الرسمية لرسم صورة مغايرة للأحداث والوقائع .
كان كل معتقل هو عدو للأمة المغربية دون أن نعرف تفاصيل أكثر وكانت دار لبريهي البوق الكبير لكل تكذيب ونفاق .
كان ذاك دون أن أسميه ، الصوت الجمهوري ذا الأنغام المتسلسلة في وصف المحافل المخزنية وهو يعلق على أحداث فاس وأوباش المدينة كأنه يصف بني العباس وقد استلموا السلطة والنيل والتنكيل بكل أموي .
كان التضليل والتجسس الذي تفننت فيه فرق أجادت كل شيء حتى الإنصات على النفوس الحزينة ، المكلومة في أبنائها وهم وراء غياهب لا يعرفها إلا السميع العليم ولا يعرفها إلا السفاحون والقتلة .
كانت أياما عصيبة من الحياة المغربية ولا زالت مستمرة ، لا يمكن نسيانها بالطي والصفح كما يعتقد من كان حملا وديعا بالأمس وتربع اليوم على منصب يداري حقيقة سنين مضت بكل آلامها وأحزانها صمتا مريبا ومخزيا .
صناعة الخوف المتقنة بكل مشاهدها بالأحداث المؤطرة للحفاظ على تراببية نظام ومخزن متعاتق آيل للسقوط .