لا أحب شتنبر، رغم أن هذه العطلة الصيفية، قضيتها كبقية أيام عمري المتشابهات، المضرجة في الحزن الفادح.. قبل أيام فقط، تمنيت لو كنت أملك مقصا خفيا، يقص هذا الشهر، الممعن في الضجر والكآبة من دفتر العمر الرتيب، دون أن تسيل قطرة دم واحدة على تراب الحديقة الخلفية لأحزاني القمرية. قبل الظهر، رأيت في طريقي إلى محل البقالة عمال مطحنة الحي، يستمتعون بدفء شمس هذا الشهر، الذي لا أحبه ولن أحبه أبدا، لأنه يذكرني بحزن طارئ يداهم طفولة بعيدة، لكن هذه الطفولة ما زالت تسكن الروح.. تعجبت أن يعملوا في هذا اليوم. ربما هناك شيء ما طرأ، وأنا لا أعلم! كنت أنظر إلى ذلك الكهل المتقاعد في ريبة، وأنا أرنو إلى سرواله القصير وساقيه المتبرجتين، وقلت للبقال هامسا: "لم يرتد الجلباب الأبيض بعد"، أجابني: "بعد الغداء!"، استغربت: "الأسبوع الماضي، كان يرتديه قبل الجمعة...". أخذ ينظر الي في دهشة، كأنما يشك في قدراتي العقلية، وقال لي: "واقيلا مقوين ليك"، لم أضحك.. لم يكن هناك ما يستحق حتى ابتسامة. في البيت، أخبرت زوجتي بما حدث، وقلت لها ببراءة طفل لم يجرب الكذب، أنني كنت أعتقد أن اليوم يوم الجمعة، كنت مهموما فقط، بجلباب الرجل، الذي لم يلبسه بعد.. والظهر أزف. ضحكت زوجتي، كما لم تضحك من قبل، صمتت لحظة، ثم كمن يعترف بذنب، قلت لها إنني كتبت لصديقة هذا الصباح: "جمعة مباركة"، أمعنت زوجتي في الضحك، كأنما أيقنت هذه المرة أنني مسحور فعلا، حتى الإفراط، أو كما نقول بعاميتنا المغربية الساخرة: "قواو ليا ."! تذكرت جارتنا، وتلك النظرة، التي تشبه طعنة في القلب. لا يمكن لنظرة يتيمة أن تقلب كياني!! لكن يحدث في هذا البلد الأمين أن يصير المعتوه نجما، ويعامل أتباعه بتعال مقيت، لا تعوزه الخسة والوضاعة، بيد أن لا أحد يبالي بربع قرن من الاحتراق على الورق، ولن يهمهم إن كنت تكتب بأسلوب ركيك أحيانا، حين تخذلك الدموع، بينما الغوغاء يمجدون تفاهات عاهرات يسرقن الأضواء من الأنبياء، وكما يحدث في الأفلام تماما، يستغل آخرون تلك الانشغالات ليسرقوا حب هذا الوطن من قلوبنا...