(1) واجه الجمهور في كثير من بلدان الحراك الشعبي خصما عنيدا يتجسد في سلطة الدولة مزودة بقدرات اقتصادية وسياسية وأمنية وعسكرية. وكان الشارع يمثل "الجماعة المظلومة" المطالبة بالتعبئة لتدمير نمط توزيع القوة داخل الدولة (المجموعة الحاكمة) من خلال وسائل الضغط وأدوات ذات بعد نفسي واجتماعي واقتصادي وسياسي وعقابي وضغط سلمي. وقد حدد (جين شارب)1 ما يقرب من مأتي أداة للاحتجاج الرمزي وعدم التعاون الاجتماعي والمقاطعة الاقتصادية والإضرابات العمالية وعدم التعاون السياسي مرورا بالاعتصامات وإقامة حكومة الظل2 . وتنطلق نظرية القوة غير العنيفة من أن القوة التي تمتلكها المجموعة الحاكمة ليست نابعة من ذاتها، وإنما آتية من خارجها؛ فقوة الحكومة تستمدها من المجتمع الذي تحكمه والقائمة عن تفاعل السلطة من حيث الشرعية والموارد البشرية الطائعة للحكومة والمهارات لتوفير احتياجات الحكم والحكومة. أما العوامل غير الظاهرة، فتتمثل في العوامل الأيديولوجية والنفسية؛ كعادات الطاعة والخضوع، ووجود عقيدة أيديولوجية عامة موالية للحاكم. أما الموارد المالية، فتتجسد في العوامل الطبيعية والاقتصادية ووسائل الاتصالات والنقل التي تحتكرها الحكومة، وكذا نمط العقوبات كأداة للضغط، التي تمارسها الحكومة على رعاياها. وقد لا تتوفر هذه الأدوات مجتمعة لدى المجموعة الحاكمة؛ لذا فهي تختلف وجودا ونقصانا وعدما. وقد انطلق (جين شارب)في أطروحته الفكرية،عن المقاومة المدنية أوالسلمية أوغير العنيفة، من أن الحكومة تعتمد في أساسها على طاعة المحكومين وتعاونهم، وأي خلل في هذه الطاعة يترتب عنه تحلل في قوة الحاكم إلى درجة فقدان السلطة والسيطرة على زمام الأمور. وعليه يعتبر رفض التعاون مع الحاكم أمرا خطيرا وأداة سلمية ناجعة لقيادة الثورة والعصيان. في هذه الحالة قليلا ما تسعى الحكومة إلى تقديم تنازلات، وتسعى كثيرا إلى أساليب الإكراه والعنف لمحاصرة عدم تعاون الشعب؛ إذ يتم استخدام أساليب الردع والعقاب عبر الأمن والشرطة والجيش. رغم ذلك تظل المجموعة الحاكمة قابلة للتفكك وتلقي الضغط المؤثر؛ فحتى استعمال أساليب العنف من طرف المجموعة الحاكمة يكون فعالا بقدر تعاون المحكومين وخضوعهم لهذه الأساليب الإكراهية، ولكن تبقى سلطة المجموعة الحاكمة مقيدة ومحدودة؛ إذ رفضت مجموعات مظلومة كثيرة، في مثل هذه الحالات، التراجع أمام كل المخاطر، بدافع من سلاح سلمي فعال هو "الإرادة" التي تغذي أسلوب عدم التعاون مع المجموعة الحاكمة. وعندما يكون عدم التعاون شاملا تتقلص قوة المجموعة الحاكمة، بقدر عدد السكان المشاركين في العصيان. لذلك تستطيع القوة السلمية الهادئة والمقدامة، بنظر جين شارب، حل مشكلة قوة الحاكم التي تبدو مطلقة، وذلك من خلال عدم التعاون والاستمرار فيه. إن مصدر القوة إذن ليس هو العنف، كما أن الذي يحسم الصراع ليس الذي يملك أكثر أدوات العنف (المجموعة الحاكمة في حالتنا) بل الإرادة والقدرة والوعي هي التي تحسم الصراع. على هذا الأساس سعى (جين شارب) إلى التنظير للكيفية التي يمكن أن تحدث بها الشعوب التغيير ونزع السلطة من المجموعة الحاكمة، ورفع الظلم والطغيان اعتمادا على قوتها الذاتية؛ ويحدد مستوى العمل في آليتين: رفض التعاون مع المجموعة الحاكمة (النظام)، وأن يكون العمل جماعيا وجماهيريا هادرا وسلميا؛ إذ عندما تكون كتلة المجموعة الحاكمة متراصة وموحدة ومتضامنة، والمجموعة المظلومة/الجمهور مشتتة ومفتقدة للتنظيم المستقل، تعجز المعارضة عن العمل الجماعي المؤثر، ويسهل على المجموعة الحاكمة النيل منها والتعامل معها فرادى؛ فنظرية القوة الذاتية كما نظر لها (جين شارب)، تتطلب مقاومة موحدة ومتضامنة. وعمل شارب على دراسة ورصد عناصر القوة المجتمعية ضمن ما يسميه: "الأوضاع البنيوية للمجتمع"؛ أي مواضع القوة التي تتركز فيها أو تعبر عنها، والتي يمكن حصرها، على تباين المجتمعات والسياقات والمواقف، في الأسر، والطبقات الاجتماعية، والجماعات الدينية، والأجهزة الحكومية الصغيرة، والمنظمات الطوعية، والأحزاب السياسية، والتنظيمات الشبابية. وقد تكون تنظيمات تقليدية قديمة أو حديثة تشكلت في خضم عمليات معارضة المجموعة الحاكمة. وتتحدد قوة كل وحدة بناء على قدرتها على التحرك المستقل، وعلى امتلاك القوة الذاتية وكيفية استخدامها، وعلى درجة تماسكها الداخلي. وتتحدد مراكز القوة هذه من خلال انتشارها في المجتمع، القوة العميقة للمجموعة الحاكمة، وكذا بنسبة الحريات السياسية في مجتمع ما. وعندما تكون هذه المراكز ضعيفة ومحدودة الحركة، تتمدد سلطة المجموعة الحاكمة، ويصعب تقييدها أو السيطرة عليها، بل تضعف قوة الجماعة المظلومة وتتفكك، ويسود الطغيان والاستبداد. فالسيطرة السلمية على قوة الحاكم لا تتم إلا بوجود جماعات ومؤسسات تمتلك القوة الاجتماعية، وقادرة على تعبئة الناس على عدم التعاون مع المجموعة الحاكمة؛ أي قطع مصادر القوة الخارجية للحاكم. وهذه الحركة الاجتماعية المستقلة تكون فعالة من خلال التطبيق الأمثل لأساليب الكفاح بعدم التعاون مع توفرها على مؤشرات واضحة للعمل؛ كالرغبة النسبية للمواطنين في تنظيم قوتهم، وعدد المنظمات والمؤسسات المستقلة، والقوة النسبية لهذه المنظمات والمؤسسات، ودرجة استقلاليتها في الحركة، ومصادر القوة التي تمتلكها وتسيطر عليها، وحجم القوة الاجتماعية التي تمتلكها والتي يمكن أن تستخدمها، والقدرة النسبية للمواطنين على طاعة الحاكم ودعمه والتعاون معه وتنفيذ رغباته. إن أسلوب عدم التعاون وعدم الطاعة للحاكم، بنظر (جين شارب)، تسلبه قوته، بل تسلبه أهم ما تتأسس عليه حكومة أو نظام وهو الولاء؛ فلما تفتقد الطاعة تعصى القوانين، ويتوقف العمال عن العمل، وترفض الإدارة تنفيذ التعليمات، فينهار الاقتصاد، عندها يتراخى الجنود وأفراد الشرطة وكل عناصر الأمن في تنفيذ الإجراءات العقابية على السكان، وقد يعلنوا تمردهم فرادى ثم جماعات. وإذ ا ما استمر هذا العصيان وعدم الطاعة في الزمن يفقد النظام قوته الداعمة والمغذية، لتصبح المجموعة الحاكمة مجرد أفراد عاديين، فقدوا الدعم البشري للشعب والمواطنين، فتتلاشى قوة النظام بشكل طبيعي. إن التغيير السلمي، عبر العصيان وعدم الطاعة، الذي شكل الأسلوب الواسع والأكثر تأثيرا في الربيع الديمقراطي، ليس فقط اندفاعا شعبيا هادرا غير منظم وغير مخطط له، بل ما كان لينجح لولا توفر عناصر فعالة في التخطيط والتنظيم من داخل الحراك الشعبي السلمي. بل إن (جين شارب) يعتبر الحراك الشعبي خطرا إذا لم يتسلح بمهارات الكفاح السلمي طويل الأمد والاستمرار والممانعة رغم آلة القمع التي تزداد شراسة وفتكا بالمعارضين والمنتفضين السلميين. إن الكفاح اللاعنيف الذي نظر له (جين شارب) معركة حقيقية تتطلب حشد القوات والتوفر على إستراتيجيا وأساليب واضحة، كما تتطلب شجاعة المناضلين والتنظيم المتماسك والاستعداد للتضحية في أية لحظة، وتقديم الثمن الباهظ للتغيير والانتفاض. والكفاح اللاعنيف، رغم أنه قد يطول فإنه قد حسم معارك التغيير في أيام (تونس و مصر،جزئيا) أو في شهور (اليمن)، وقد يستمر سنوات (سوريا)، فقد تمثلت هذه المستويات الزمنية في الربيع الديمقراطي. إن معركة الحراك الشعبي السلمي تتحرك، بنظر (جين شارب)، على ثلاثة مستويات من الأسلحة هي: الاحتجاج اللاعنيف والإقناع، وعدم التعاون، والتدخل اللاعنيف؛ بهذه الأساليب يمكن إحداث تغيير جذري في ميزان القوى لصالح القوة الداخلية للجماعة المظلومة ضد القوى الخارجية للمجموعة الحاكمة؛ اعتمادا على المسيرات والمواكب الاجتماعية، وإقامة الصلوات، وتعليق الملصقات ذات الدلالات التأثيرية الكبيرة على العقل والخيال، والحداد، والاجتماعات الاجتماعية، والإضراب عن الطعام ، والاعتصام، وإقامة أنماط اجتماعية جديدة، والإضراب في مواقع العمل، وإنشاء المؤسسات الاقتصادية البديلة، والبحث عن السجناء، وإحداث الحكومات البديلة. ويقدم (جين شارب) نظرية العمل بلا عنف كقوة قادرة على التأثير أكثر من أساليب العنف السياسي؛ ذلك أن الكفاح اللاعنيف يسلب المجموعة الحاكمة قوتها السياسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية عبر عملية استنزاف طويلة الأمد،كما يواجه الآلة الأمنية الشرسة للمجموعة الحاكمة بشكل غير مباشر عبر تعبئة القوة الجماهيرية للصمود والتحمل دفاعا عن قضية عادلة ومصيرية مما يغلق قلوب المكافحين السلميين دون إلقاء الرعب عبر الالة الإعلامية و الدعائية للحاكم وحكومته، وبالتالي حرمان الخصم من مصادر قوته الأساسية وهي تعاون المواطنين وخوفهم برغم شراسة الخصم وعنفه بفرض الرقابة ومصادرة الأموال والممتلكات وقطع وسائل الاتصال والضغوط الاقتصادية والاعتقالات والتهديد بالعقوبات في المستقبل والضرب وإطلاق الرصاص والتعذيب وقانون الطوارئ والإعدام سرا وعلانية. ولكن يبقى هذا العنف أقل أثرا على الحركة الجماهيرية السلمية منه على حركة مقاومة عنيفة كحرب عصابات أو حرب نظامية أو حرب أهلية أو مجموعات مسلحة؛ (تجربة الحراك الشعبي السوري). ويؤكد (جين شارب) على أن القمع لا يؤدي بالضرورة إلى إخضاع المنتفضين السلميين لأنه لا يطال عقول المواطنين ولا يؤدي إلى الخوف والاستعداد للطاعة؛ ولكن الجماعة المظلومة مطالبة بالحفاظ على تماسكها التنظيمي وتعزيز مواقعها والتقليل من عنف الخصم المستخدم ضدها، وفتح آفاق سلمية جديدة لحراكها الشعبي وفرصها في النجاح، مع العمل على تفجير مشاكل الخصم الداخلية وتشكيكه في قوته وعنفه وإفقاده التوازن السياسي، وتقليص حجم التأييد الذي قد يحظى به في الداخل أوفي الخارج؛ فالانجرار إلى استعمال السلاح والعنف يعطي المبادرة للخصم ويتيح له تحديد الموقف، كما تعطى له فرص إضافية لتحقيق التفوق. أما وحشيته ضد الحراك الشعبي السلمي فتقلص تأييده في الخارج وزيادة تأييد المنتفضين السلميين. فالحفاظ على الطابع السلمي للحراك الشعبي هو الكفيل بإحداث تغييرات فارقة في توزيع القوة، وابتعاد المواطنين العاديين عن الحاكم وعن أدوات عنفه، بل تنخرط أعداد جديدة منهم في الحراك. كما سيتعرض عندها الحاكم لضغوط الخارج ومساوماته، مع أن الرأي العام الدولي يتفاوت نظره وحساباته من حالة إلى أخرى، وهو يشكل في الأخير دولا قوية ومهيمنة على القرار الدولي ومؤسساته، وذات مصالح استراتيجية تسعى إلى الحفاظ عليها وقراءة أي حراك في سياقها. وبقدر إمعان الحاكم في عنفه ووحشيته يفقد ثقة حتى المقربين منه الذين يشككون في عدالة قضيته، بل ويتحول ذلك الشك إلى معارضة وعصيان وانشقاق وتمرد وانضمام إلى الحراك، وهذا ما شهدناه في الربيع الديمقراطي (تجربة ليبيا). وكان له الأثر الكبير في الدفع بالحراك تجاه الحسم والانتهاء من الطاغوت وزبانيته. إن قمع المجموعة الحاكمة للجماعة المظلومة يمكن أن يرتد عليها في إطار عملية الجودو السياسي political Jiu-Jitus بتعبير (جين شارب)؛ هذه العملية التي تساهم في نمو قوة المنتفضين السلميين مع أن قوة كل طرف تتغير باستمرار وبسرعة وبحدة وبحسب مراحل التدافع والصراع في الميدان. الهوامش: 1 - جين شارب ( GENE SHARP) ولد سنة 1928. مفكر أكاديمي وباحث اجتماعي أمريكي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس في دارتموت ، ارتبط اسمه بالتنظير لحركات الكفاح السلمي. تعرض للسجن لمدة تسعة أشهر عام 1953 – 1954 على خلفية احتجاجه ضد عملية التجنيد للمشاركة في الحرب الكورية. حاصل على الدكتوراه في النظرية السياسية من جامعة أكسفورد سنة 1968م، اعتبرت أفكاره مرجعية لحركات النضال الشعبي السلمي في العالم،في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين. أنشأ عام 1983 م معهد ألبرت أينشتاين وهي منظمة غير ربحية متخصصة في دراسة العمل السلمي وتعزيزه كوسيلة للحصول على الحقوق والتخلص من الظلم عبر العالم. استمد جين شارب أطروحته في الحراك السلمي من حركة المهاتما غاندي. صدر له سنة 1973 كتاب " سياسة الحراك السلمي" ؛ وهو تطوير لأطروحته الأكاديمية التي كتبها سنة 1968م. وهو يقدم تصورا علميا وسياسيا للحراك السلمي كوسيلة فعالة لنيل الحقوق والتخلص من الديكتاتورية، بناء على قاعدة أساسية هي عدم طاعة الديكتاتور وعدم التعامل معه، ومواجهته بشكل سلمي وعدم استعمال العنف. ويلتقي جين شارب في تنظيراته للحراك السلمي مع المفكر العربي الإسلامي جودت سعيد، ولد 1931، بروافده الفكرية الممتدة إلى المفكرين محمد إقبال ومالك بن نبي، وفروعه الممتدة في المفكر السوري خالص جلبي. وقد اشتهر جودت سعيد بكتبه " مبدأ ابن ادم الأول، وحتى يغيروا ما بأنفسهم، وفقدان التوازن الاجتماعي، والعمل قدرة وإرادة، والإنسان حين يكون كلا وحين يكون عدلا، واقرأ وربك الأكرم، وكن كابن ادم، ورياح التغيير"، وكلها كتابات تنظر للحراك الشعبي السلمي. 2 - دور القوة في الكفاح اللاعنيف، جين شارب ص 9.