1 ) محاولات خنق دور الدارالبيضاء في قيادة النضال الشعبي (1965 1990) منذ بداية المطالبة باستقلال المغرب من قبل الوطنيين تحملت مدينة الدارالبيضاء بفضل التمركز القوي للطبقة العاملة وحركة المقاومة ضد الاستعمار فيها العبء الأكبر في الكفاح ضد الاستعمار، ثم بعد ذلك في الكفاح من أجل العدالة الاجتماعية والديمقراطية. وكانت المظاهرات الكبرى في الدارالبيضاء يومي 22 و23 مارس 1965 أهم حركة احتجاجية شعبية قوية شهدها المغرب في مواجهة الاستبداد بعد نهاية عهد الحماية. غير أنه تم إخمادها بسرعة وبعنف دموي بواسطة قوات الجيش، فلم تتح لها الفرصة لتمتد في المكان أو في الزمان. وكانت أخطر العواقب التي تلت إخماد انتفاضة الدارالبيضاء هي انكباب الحاكمين بجميع مستوياتهم على مدى عقود على تفكيك أوصال المدينة وتمزيق هيكلتها وإعادة بناء هندسة جديدة لها خاصة في المجالات الإدارية والأمنية والتعميرية والاجتماعية، كل ذلك بهاجس أمني من أجل خنق كل إمكانية لعودة حركة الاحتجاج الشعبي إليها. وكانت الأولوية ضمن هذه السياسة هي الضغط على الطاقة البشرية الأساسية للاحتجاجات الشعبية ومحاصرتها، والمتمثلة آنذاك بالدرجة الأولى في الطلبة والتلاميذ والعمال وتنظيماتهم. وقد استغرق العمل بهذه الخطة كل فترة حكم الحسن الثاني ومعاونيه وفي مقدمتهم الجنرال أوفقير ثم وزير الداخلية إدريس البصري. وفي الإضراب العام لسنة 1981 الذي قادته الكونفدرالية الديمقراطية للشغل نهضت الدارالبيضاء من جديد بما لديها من روح المقاومة والاحتجاج لتُسمع صوت الكادحين والمحرومين؛ لكنها قُمعت من جديد بشراسة وأُخمدت بأشد أنواع التنكيل، وسقط فيها شهداء نعتهم إدريس البصري "بشهداء كوميرة". وفي هذه المرحلة بدأ استعمال منهجي لعملاء مأجورين من "بلطجية" إدارة الداخلية لاصطناع أعمال العنف من وسط المتظاهرين لتبرير تدخل القوات المسلحة ضدهم بعنف منفلت. وفي احتجاجات 1984 العفوية بدأت تظهر نتائج خطة تمزيق وخنق الدارالبيضاء، متمثلة في تراجع نسبي ومؤقت لدور هذه المدينة العظيمة في مجال الاحتجاجات الشعبية من ناحية؛ ومن ناحية ثانية في ظهور بوادر انتقال المبادرة الاحتجاجية إلى بعض مدن شمال المغرب وجنوبه (مثل الناضور والحسسيمة وتطوان والقصر الكبير ومراكش.. وغيرها). وقد استمر هذا المنحى في نهاية عام 1990 خلال القمع الدموي العسكري الذي عرفته مدينة فاس بالخصوص على إثر الإضراب العام الذي دعت إليه نقابتا الكونفدرالية والاتحاد العام. وكان ذلك علامة على أن حصار الدارالبيضاء وعسكرتها ومحاولات خنقها وإن كان أضعف حضورها مؤقتا فإنه لم يوقف الاحتجاجات الشعبية في المغرب كما كان الحاكمون يخططون، في ظل استمرار سياسة النهب الطبقي والامبريالي الذي أُطلق عليه سياسة "إعادة التقويم الهيكلي"، وتعميم التقشف في كل ماله علاقة بالمجالات الاجتماعية؛ بل تفجرت طاقة الاحتجاجات الشعبية الحية عبر منافذ جديدة خاصة في الشمال المهمش منذ استرجاعه من المستعمر الإسباني إلى الوطن. وقد تلت وفاة الملك الحسن الثاني (1999) والسنوات الأولى من حكم خلفه محمد 6، فترة من الهدوء النسبي فيما يتعلق بالاحتجاجات الوطنية ذات الطابع السياسي والنقابي العام، مع استمرار الاحتجاجات الاجتماعية المحلية، بل واتساع نطاقها خاصة في فترة حكومة اليوسفي الائتلافية. وكانت هذه الفترة في حقيقة الأمر فترة اختبار ومخاض اجتماعي وسياسي وثقافي مهد لتحولات نوعية جديدة في مجال الاحتجاج الشعبي. 2 ) انطلاق مرحلة جديدة ونوعية من النضال الشعبي السلمي (20 فبراير 2011) وقد أفضى هذا المخاض سنة 2011 إلى انطلاق «حركة 20 فبراير» التي ساهمت في إنضاجها الثورات الشعبية التي انطلقت في تونس وليبيا ومصر قبل أن تتحول تلك الثورات إلى فرص انتهزتها القوى الظلامية لتحرفها عن طريقها حيث عرفت أغلب مدن المغرب مظاهرات شعبية سلمية استمرت دون انقطاع لمدة ناهزت ستة أشهر، صرخ فيها الشباب في وجه الحاكمين بشعارات نادت بمحاربة الفساد والاستبداد وبتحقيق الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وقد أصيب الحكم بالارتباك، فلم يتمكن هذه المرة من اللجوء إلى العنف السافر، واختار المراهنة على عنصر الزمن وتنظيم مناوشات استفزازية مفضوحة "لبلطجيته"، وانتظار تعثر الحركة بفعل تناقضاتها الداخلية، في ظل تطور سلبي لثورات بلدان الشرق في اتجاه الفوضى والحروب الأهلية؛ ليقدم عددا من التنازلات المحسوبة، والتي يمكن التراجع عنها بعد هدوء العاصفة، خاصة في الميدان الدستوري. وهكذا أخذ شباب المدن المختلفة خلال سنة 2011 المبادرة في إطلاق وقيادة حركة من التظاهرات الجماهيرية الواسعة في كل أرجاء البلاد، حاملة شعارات واضحة تمثل برنامجا مركزا ومتكاملا للإصلاح الجذري لمختلف الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية المتردية. لقد ارتقت «حركة 20 فبراير» بالمبادرة العفوية للشبان والشابات إلى مستوى المبادرة السلمية المنظمة والقوية والمسموعة، والتي سرعان ما وجدت استجابة واسعة من جمهور عريض شمل كل الشرائح الاجتماعية التواقة إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، جمهور امتلك استعدادا ووعيا نضاليا وعمليا جديدا وفعالا، تميز بنهج طويل النفس لا يلتفت للاستفزازات من كل نوع وخاصة من جماعات المرتزقة المسخرة من قبل الأجهزة والتي عُرفت "بالبلطجية" أو "الشباب الملكي". وبذلك تم إفشال هذه الخطة التي استخدمتها زبانية النظام خلال انتفاضات 1981 و1984 و1990 بالخصوص، لتبرير استعمال القوة المسلحة ضد المتظاهرين السلميين. لقد غرست «حركة 20 فبراير» بطبيعتها الجديدة في مجال التظاهرات الشعبية في التربة الاجتماعية المغربية بذورا قوية سرعان ما أنتجت وأزهرت في مجتمع الريف بعد 28 أكتوبر 2016 حِراكا شعبيا جديدا بعثر أوراق الاستبداد. وقد استوعب شبان وشابات الريف دروس الحركات الاجتماعية والسياسية في المغرب، ودروس مختلف المعارك التي خاضها أبناء الشعب في كل الجهات ضد الاستعمار والاستبداد والفساد، وخاصة دروس «حركة 20 فبراير»، وطوروها وأضافوا إليها وطبعوها بطابعهم المحلي المتسم بالانسجام والتآزر والانضباط والجرأة والشجاعة الفائقة، وابتكروا لغة أمازيغية ريفية ودارجة عربية تحريضية قوية ومؤثرة استوعبتها جماهير الريف وخاصة من الشباب والنساء بسرعة، وتجاوبت معها بشكل أذهل الحاكمين وأربكهم وجعلهم يتخبطون في كل اتجاه. ثم بدأ نموذج حِراك الريف بدوره يطرق بقوة أبواب جميع الأقاليم المهمشة، والتي جعلت منه قدوة لها ومثالا تسير على نهجه. 3) فشل مزدوج لخطة عزل الحراك الشعبي في الريف، ولخطة القضاء عليه بالعنف كانت الجريمة البشعة المتمثلة في طحن (بالمعنى المادي والمعنوي) بائع السمك في الحسيمة محسن فكري داخل ناقلة للأزبال يوم 28 أكتوبر 2016 مأساة مفجعة انكشف فيها زيف المحاولات المتأخرة والمتعثرة للملك لتحقيق المصالحة مع الريف عن طريق الإشهار لبرنامج "تنموي" أطلق عليه اسم "الحسيمة منارة المتوسط". وذلك بعد عقود طويلة من الإهمال والظلم والتجاهل و"الحكرة" المتعمدة طوال عهد الحسن الثاني، الذي نعت أبناء مدن الشمال المنتفضة سنة 1984 "بالأوباش". ومع أن الإهمال والتهميش لم يكن مقتصرا على الريف وحده بل كان يشمل بقية جهات المغرب خاصة منها الأطراف البعيدة عن المركز في شرق المغرب وجنوبه وعموم باديته؛ إلا أن إهمال الريف يظل بارزا لأنه كان سياسة مقررة للدولة ويحمل معه نية مبيتة في الإقصاء والتهميش والإذلال، وذلك ما أدركه أبناء الريف وأضمروه حتى تفجر في خريف 2016. وقد ظهر جليا خواء الادعاءات الرسمية بتنمية أقاليم الشمال التي كانت تجند لها وسائل الإعلام الرسمية والصحافة المأجورة صباح مساء؛ حيث تأكد أنه لم تكن هناك لا تجهيزات صحية موعودة، ولا نواة جامعية، ولا مجالات لتشغيل الشباب الريفي غير الهجرة، ولا رفع للعسكرة؛ وهو واقع أجبر رئيس الدولة نفسه على الاعتراف علنيا بعدم تنفيذ الالتزامات الرسمية التي خصصت لها ميزانيات وأعلن عنها في احتفالات دعائية ضخمة. ومباشرة بعد جريمة طحن محسن فكري في الحسيمة، انطلق في كل أرجاء الريف حِراك شعبي قوي اتخذ أشكالا نضالية سلمية متنوعة ومبتكرة من وقفات ومظاهرات ومسيرات بالنهار وبالليل وطرْق على الأواني ليلا، كل ذلك بشكل رائع التنظيم؛ حيث برهن مؤطرو الحراك على مستوى عال من المسؤولية والقدرة التنظيمية، كما برهن أبناء الريف على قدر عال من الانضباط خاصة في حماية أمن الممتلكات والأشخاص بمن فيهم رجال الأمن وآلياتهم مما أثار الإعجاب والتقدير لدى كل النزهاء. وقد شارك شبان وشابات الريف بعشرات الآلاف في مسيرات ضخمة رُفعت فيها شعارات مدققة وموحدة مطابقة للبرنامج الحقوقي المعلن للحراك في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وبذلك توفرت لحراك الريف عوامل القوة والنجاح الأساسية اللازمة: من قيادة ناضجة ومتزنة خرجت من صميم مجتمع الريف؛ وبرنامج واضح ومعلن التف حوله أغلبية السكان وساندوه بفعالية وبأعداد متزايدة مع مرور الأيام والأسابيع، حتي بات الحراك يستقطب في بعض المسيرات الكبرى أزيد من مئة ألف من المشاركين والمشاركات. وإلى حدود شهر مايو 2017 كانت السلطة مركزيا ومحليا تتعامل بوجه عام مع الحراك بأسلوب المراقبة وتجريب مختلف الاستفزازات والمناوشات والعراقيل ومحاولات إفشال الحراك إعلاميا ونفسيا، أو بتحريك بعض المناورات التي كان بعض الانتهازيين من كل نوع يتطوعون للقيام بها، مع المراقبة الشديدة لاتجاه تطور الحراك وانتظار أن ينتهي من تلقاء ذاته. ولما لاحظت السلطة أن الحراك ما فتئ يتقوى ويتوسع مع مرور الوقت في صمود وثبات، وهو ما شكل مفاجأة كبيرة في هذا الحِراك للجميع؛ عندئذ غير الحاكمون خطتهم واختاروا التدخل العنيف بشكل سافر بجميع أنواع القوات المسلحة الأمنية والعسكرية لإيقاف الحراك بإغراقه في بحر من القمع والتنكيل والإهانات الحاطة بالكرامة، مستغلة حادثة المسجد المصنوعة لغرض تبرير شن حملة واسعة من الاعتقالات المصحوبة بالعنف واقتحام البيوت وتكسير الأبواب والعظام، مما أدى إلى سقوط عدد من الشهداء من المتظاهرين. وقد شملت الاعتقالات مئات من الشباب في أنحاء الريف وزج بهم في مختلف السجون بعيدا عن أسرهم، ومنهم من أختطف ولم يظهر له أثر إلا بعد مدة من الزمن. لقد كانت الحملة القمعية الواسعة دليلا كافيا على فشل الخطة الأولى للجهاز المخزني، والمتمثلة في المراقبة والاستنزاف ومحاولة عزل الحراك عن عمقه وإضعاف شعبيته عن طريق فبركة الاتهامات، مثل تهمتي الانفصال والتعامل مع الخارج وغيرها من الأكاذيب، وترويجها بواسطة "الأغلبية الحكومية" ووسائل الإعلام الرسمية والحزبية التابعة لها. وقد واكب حملة الاعتقالات استعمال أساليب التعذيب الجسدي والنفسي في مراكز الاستنطاق في الحسيمةوالدارالبيضاء. ولوحظ التركيز على محاولات جرح كبرياء وكرامة شباب الريف وإهانتهم، وخاصة من مؤطري الحراك لكسر أنفتهم وصلابتهم وصمودهم ووحدتهم، ولكن دون جدوى. وقد جرى تجميع مؤطري الحراك وقادته الأساسيين من المعتقلين في سجن عكاشة بالدارالبيضاء حيث تعرضوا مع عائلاتهم لكل أنواع التضييق، وخاصة عزل المعتقلين الأساسيين في زنازن انفرادية رهيبة لشهور عديدة، زيادة على إساءة معاملتهم ومعاملة عائلاتهم أثناء الزيارات الأسبوعية. وبدأ التمهيد أثناء ذلك للمحاكمات الماراطونية التي لم تتوفر فيها الشروط الأساسية والمعايير الكونية للمحاكمة العادلة. ورغم تلك الظروف أبلت هيئة المحامين أحسن البلاء في القيام بواجبها النبيل بكل استماتة وشجاعة استحقت عليه كل تنويه وثناء. إلا أن كل ذلك لم يمنع من إصدار الأحكام الثقيلة التي كانت جاهزة. وقد شهدت باقي محاكمات معتقلي الحراك المسجونين في عدد من المدن الأخرى نفس السيناريو الذي شهدته محاكمة الدارالبيضاء. إن تاريخ المحاكمات السياسية الكبرى عريق في المغرب قبل نهاية الحماية وبعدها. وكانت محاكمة معتقلي الحِراك الشعبي في الريف حلقة جديدة في هذه السلسلة التي تختزل تاريخ المغرب منذ منتصف القرن العشرين في شعب رافض للخنوع لنظام الفساد والاستبداد، ونظام مستميت في محاولات إركاع أحرار هذا الشعب وإهانتهم. وتحمِل محاكمة معتقلي الريف كل مواصفات المحاكمات السياسية الكبرى المتحكم فيها والتي استعملت كأداة قمع لردع هذا النوع الجديد من الحراك وإيقافه ومنعه من الاستمرار والامتداد على خريطة الوطن، بعد أن وُضع الريف نفسه في حالة حصار خانق ودائم، وبعد تحويل الحسيمة وإيمزورن وغيرهما إلى معسكرات مثقلة بجميع أنواع القوات المسلحة الأمنية والعسكرية. ورغم السماح لهيئة الدفاع بالمرافعات وتقديم الملاحظات والمطالب المختلفة، والسماح للمعتقلين بالكلام في حدود ضيقة، فإن كل ذلك لم يكن من شأنه تغيير المسار الذي رُسم مسبقا لهذه المحاكمة لبلوغ الهدف المقصود منها وهو إصدار أحكام ثقيلة خاصة على القادة الأساسيين للحراك، لإجبارهم بعد ذلك على استعطاف الحاكمين وطلب الرحمة منهم، بما يعني إدانة ذاتية لأنفسهم، لتحطيم إرادة المقاومة لدى الريفيين وعموم المغاربة للاستبداد والفساد. غير أن صلابة المعتقلين وصمودهم ودعم عائلاتهم وضراوة دفاع هيئة المحامين وقوة التضامن الشعبي في كل أرجاء المغرب وخارجه أفشل الخطة المرسومة؛ فلم تزد المحاكمة والأحكام الثقيلة الصادرة عنها المعتقلين إلا صمودا وإصرارا على التمسك بالحقوق التي خرجوا من أجلها إلى الشارع. والحقيقة أن اعتقال قادة حراك الريف والتنكيل بهم جاء بعكس النتائج التي سعى لها الحاكمون؛ فبسجنهم وتعذيبهم والتنكيل بهم زادت شرعيتهم في أعين الشعب كقادة طبيعيين للحِراك الشعبي في الريف، وفوق ذلك جعل حِراك الريف نبراسا ساطعا لكل الحِراكات التي تتمخض في أحشاء المجتمع المغربي وتتهيأ في كل ناحية للانفجار الهادئ. كما أن هذه المحاكمة وأحكامها لم تُخرج النظام من حالة الارتباك والتخبط التي انزلق إليها منذ البداية، والذي تمثل بجلاء في اعتراف الملك في خطبه صراحة وضمنا بصحة كل ما أعلنه المعتقلون في الشارع وفي المحاكم حول تهميش الريف وإهماله وعدم تنفيذ مختلف الوعود المعلنة منذ سنوات؛ ومع ذلك يقوم النظام في الوقت نفسه باتباع النهج الأمني لمعاقبة معتقلي حراك الريف أشد العقاب على احتجاجهم السلمي ضد ذلك التهميش. ويُنتظر أن يستمر هذا التخبط في الأشواط القادمة بعد استئناف الأحكام. يتضح مما سبق أن خطة الاجتثاث والقضاء على الحراك الشعبي في الريف بقوة القهر والجبروت والطغيان قد فشلت أيضا مثل الخطة الأولى فشلا ذريعا على مستويين: الأول، أنه بالإضافة إلى تعبئة أهل الريف خلف قادة الحِراك وتلبيتهم الحماسية لنداآتهم وتوجيهاتهم، امتد التضامن مع الحراك بالتدريج إلى عموم أنحاء المغرب؛ يدل على ذلك تتابع المسيرات الوطنية الكبيرة التي شارك فيها أبناء وبنات كل جهات المغرب، والمنظمة من قبل لجان التضامن الوطنية مع الحِراك بحضور قوي لعائلات المعتقلين في الرباط يومي 11 يونيو 2017 و15 يوليوز 2018، وفي الحسيمة يوم 20 يوليوز 2017، وفي الدارالبيضاء يوم 8 يوليوز 2018. فضلا عن مسيرات التضامن الجهوية والمحلية المستمرة في عدد كبير من المدن الصغرى والمتوسطة الكبرى وخاصة بالدارالبيضاء. وقد ركزت كل المسيرات التضامنية مع حراك الريف على مطلبين رئيسيين: إطلاق سراح المعتقلين والاستجابة للمطالب الحقوقية التي من أجلها اعتقلوا. هذا التضامن الوطني الساطع أخرس ألسنة السوء التي كانت تحاول الطعن في وطنية الريفيين وتشويه حراكهم وعزلهم عن أبناء وطنهم المغرب لتبرير قمعهم المبيت. والمستوى الثاني، كان هو امتداد الحِراك نفسه من الريف إلى خارجه؛ حيث ظهرت إرهاصات ذلك في كل من زاكورة وأزمور والقصر الكبير وأوطاط الحاج وميسور ووجدة وزايو وبني ملال وبركان .. وغيرها من المدن المهمشة، ثم امتد الحِراك بقوة إلى جرادة التي شهدت ملحمة بطولية شارك فيها الآلاف من شبان وشابات المدينة المنكوبة وعموم سكانها باستماتة وشجاعة تفرضان الإعجاب. حيث استمرت المسيرات والتجمعات اليومية الضخمة أسابيع متعددة معلنة مطالبها المركزة على البديل الاقتصادي ورفع التهميش عن المدينة والتضامن مع حراك الريف ومعتقليه. وبعد عدة مناورات لجأت السلطة إلى أسلوبها المفضل وهو القمع العنيف والاعتقالات الواسعة ثم عسكرة المدينة وتقديم عدد من شباب جرادة إلى المحاكمات المعتادة كتكملة لدور قوات القمع. وهكذا كان تأثير حراك الريف واضحا في كل المعارك النضالية من أجل انتزاع الحقوق المهضومة، وتحول شيئا فشيئا إلى مدرسة لنشر ثقافة نضالية جديدة في أساليبها وشعاراتها، بسِمات سلمية وشعبية طويلة النفس وواضحة الأهداف بعيدة عن العنف المادي واللفظي. وبذلك توفر للحراك الشعبي في الريف وخارج الريف، القائم منه والقادم، شروط الاستمرار والنجاح المتمثلة في: – البرنامج الواقعي الملموس والمقبول جماهيريا – أسلوب النضال السلمي المبدع والطويل النفس – القيادة الميدانية المنبثقة من أعماق المجتمع والتي أدت ضريبة قيادة الحراك سجنا وتعذيبا وأحكاما فلم تتزعزع ولم تتراجع ولم تنحرف وظلت متماسكة ومنسجمة. فإذا أضفنا إلى ذلك التضامن الواسع الذي لقيه الحراك في أوربا الغربية، خصوصا من قبل أبناء الريف، وعموما من قبل مغاربة المهجر وأحرار أوربا، من برلمانيين وجمعويين وحقوقيين ونقابيين وغيرهم، ووصول صوت حراك الريف إلى قلب البرلمان الأوربي وغيره من الهيئات والمنابر السياسية والإعلامية، والتي لعب فيها السيد أحمد الزفزافي والد قائد الحِراك ناصر الزفزافي وعدد من النشطاء الريفيين المتطوعين في أوربا دورا يستحق كل التقدير والتنويه؛ كل ذلك جعل قضية حراك الريف ومعتقليه تتحول إلى قضية وطنية بارزة مدعومة داخليا وخارجيا، وجعلها كذلك ورطة كبرى لسياسة النظام المخزني الذي مازال يعاند بشكل غير مسؤول في تجاهل الطريق الصحيحة والوحيدة للخروج من ورطته والمتمثلة في إطلاق كل معتقلي الحِراكات والاستجابة لمطالبهم والتخلى عن لغة العنف والقوة البائدة. *** وفي الأخير، يمكن أن نلاحظ من خلال الفقرات السابقة أن الكفاح الشعبي في المغرب مر بثلاث محطات نوعية كبرى في مسيرته لمحاربة الفساد والاستبداد ومن أجل انتزاع حقه في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية: 1 انتفاضة 23 مارس 1965 التي دشنت استئناف عودة الجماهير للشارع بعد نهاية الحماية كساحة للنضال من أجل مستقبل أفضل لشباب المغرب. 2 محطة 20 فبراير 2011 التي طورت أساليب التظاهر السلمي وعممته إلى جميع مدن المغرب، مستفيدة من وسائل التواصل الحديثة، وارتقت بالشعارات إلى مستوى برنامج شامل للإصلاح الجذري والسلمي صار برنامجا لكل حِراك اجتماعي منذ ذلك الوقت. 3 محطة 28 أكتوبر 2016 التي شهدت انطلاق حِراك الريف الذي أبدع أشكالا جديدة من النضال السلمي وأبدع برنامجا حقوقيا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ملموسا وواضحا اعتنقته جماهير الريف، ثم صار نبراسا لكل ديناميات الحِراك الشعبي في مختلف الأنحاء المهمشة والمظلومة من المغرب. وهكذا نهض الريف وحِراكه الشعبي في فترة ظهرت كأنها فترة فراغ وتراجع للاستعداد النضالي لدى الشعب ليرسم طريقا جديدة لنضالات المغاربة من أجل التغيير الاقتصادي والاجتماعي والتخلص من الفساد والاستبداد. فقد أعلى حِراك الريف راية الحرية وقدم التضحيات بسخاء وصمود، وهو يسير بطول نفس وشجاعة نحو انخراط باقي الجهات في حِراك وطني هادئ وحازم لا محالة قادم. * بمناسبة ذكرى مرور سنتين على انطلاق حراك الريف، وبمناسبة بداية جلسات الاستئناف لمحاكمة أبطال حراك الريف، أنشر هنا مقالا حول الحراك ساهمت به في عدد خاص بالريف سيصدر قريبا عن مجلة الربيع الصادرة عن مركز محمد بنسعيد بالدارالبيضاء.