تخيَّلوا طفلةً عمرها اليوم عشر سنوات.. طفلة مثل أطفالكم.. صغيرة.. و بريئة.. قد لا تعرفونها.. ربما تقطن في مدينَتِكم.. أو في مدينة تشبهها.. قد تكون في حي مجاورٍ لحيّكم.. أو في حيّ يشبهه في مدينة أخرى.. قد تذهب إلى المدرسة التي يذهب إليها أطفالكم.. أو إلى مدرسة تشبه المدارس التي يذهبون إليها.. تخيَّلوها جيداً... سأحكي لكم حكايتها.. نُدوب جُرحها لا يمكن لكل أطباء العالم أن تشفيها.. مرَّت أربعُ سنوات الآن، و مازال الجحيم مفتوحاً يحرقها بفصول المأساة.. أنا أراها.. أسمعها.. وسأحكي حكايتها.. البارحة كانت تبكي.. و تبكي.. بصمت.. لم تكن ترغب أن تسمعها أمها.. أمها هي الأخرى كانت تبكي.. و تبكي.. خلسة بمفردها.. كلُّهم يبكون.. و يُخفُون دموعَهم لكي لا يرَوا الحُرقة و "الحُكْرة" و الموت في عيون من يُحيطُ بهم.. كلُّهم يبكون: أبوها.. إخوتها.. عماتها.. أعمامها.. خالاتها.. أخوالها.. حتى جدّتها التي لم ترها يوماً تبكي قبل الواقعة، أصبح الدَّمعُ لا يفارق مقلَتَيْها طيلة السنوات الأربع التي تلتْها، و هي تردَّد بسذاجتها الجملةَ ذاتها " من سيتزوَّجُ الصبيَّة، بعد ما وقع؟". الجدة المسكينة تظنُّ أنّ تلك الطفلة قد ترغب الزواجَ حين تكبر، أو يمكن أن تفكِّر فيه، أو أنْ تتحمَّلَ أعباء الاختلاء برجل كائناً من كان في غرفة واحدة.. أنا أراها.. و أسمعها كلَّ يوم و ليلة.. و أعرف الكثير.. يومُها ليس كأيام الأطفال الآخرين.. ليس كأيام أطفالِكم، الذين يشبهونَها كثيراً.. ما زالت تفرُّ داخل جلدها، لكي لا يلحَقَها أحدٌ إلى داخِل جسدها. روحُها تضيق بالاختباء في عمق ذلك الجسد الذي أُهينَ و لم تتمكَّن لضُعفِها من الدفاع عنه.. ما زالت تتكوَّمُ مثل الجنين في كلِّ ليلةٍ حين يرخي الليلُ ظلامَه، دون أن يتجرّأ أحد من أُسْرَتها على إطفاء الأضواء في الغرفة حيث تنام، و في المنزل بأكمله.. ما زالت لا تستطيع التطلُّعَ في أعيُنِ مخاطَبيها، و إن كانوا من أقرب أقربائها.. لا تستطيعُ مغادرة البيت بمفردها، و لا تتخطِّى عتبته إلا إنْ كانت قبضةُ أمها ممسِكةً بيدها، تُحْكِمُ الِوثاقَ على ارتجافِها الواضح للعيّان.. تلك الطفلة ذات العشر سنوات تخطو خطواتها بتعثُّر و ارتباك و فقدان للثقة في الجميع، و تحتاج في كلِّ خطوة إلى أمها كي تواصِل المشي من جديد.. الخوف.. و الخوف.. و الخوف.. و لا شيء غيره.. لم تعد تلعب أو تدرس أو تغنّي أو تتحدّث.. لم تعد تهتَمُّ بشيءٍ أو لشيء.. صامتة.. منغلقة.. مرعوبة.. لم تعُد طفلةً مثل أطفالكم جميعاً، رغم أن سنوات عمرها العشر تقول بأنّها مجرَّد طفلة صغيرة و بريئة ... لا يمكنها النوم، إن لم تمنحها أمها حبة المنوّم التي أوصى بها الطبيب.. تخيَّلوا طفلة في العاشرة من عمرها تخشى أن تنام.. تخشى الاستسلام حتّى أمام النوم، لأنّ الكوابيس حينها لا تشفق على براءتها.. و الصور الموبوءة تطاردها من جديد.. أنا أراها هزيلةً خائفةً محبطة.. تموت في كلِّ يومٍ أكثَرَ فأكثر.. البارحة سمِعَتْهم يتحدَّثون، بعد أن اعتَقَدوا أنها قد نامت.. كان يكفيها أن تلتقط كلمة "الوحش" في حديثهم، لتعود بها السنوات الأربع نحو الخلف.. جُرْحها لا يمكن أن يَبْرَأَ مهما حاول الطبيب المعالِج.. جُرْحُها ليس براءتها المغتصَبة أو طفولَتَها المنتَهَكة أو ماضيها الحارِق فحسب، بل كذلك يومَها المَسْلوب، و غدَها المصادَر.. جُرْحُها هو حياتها التي أصبحت عنواناً للخوف و اليأس و الموت و القلق.. جرحها جرحُ أمِّها و أبيها و إخوتها.. جُرحُها جُرحُ حياتهم التي اغتُصِبَتْ دفعةً واحدةً.. لا يستطيعون التفكير في المستقبل.. و هل سيكون لتلك الطفلة مستقبلٌ مثل باقي الأطفال؟ إنها لم تعد ترى في يقظتها أو في نومها سوى الكوابيس.. إنها مجرَّد طفلةٍ مثل أطفالكم جميعاً.. لكنها لم تعُد طفلةً منذ أربع سنوات.. إنها مثْقَلَة بامتهان العِرْض و انتهاك حُرمَة الجسد و انكسار الروح.. البارحة حين سمِعَتْهم يتحدّثون.. عن العفو الذي نالَه "الوحش"، أرادت أنْ تموتَ خوفاً، كي لا تموتَ في انتظار قدُومِه نحوها مرَّةً ثانية.. هو سيأتي إليها.. تعرِفُ ذلك سيصِل إليها رغم الأقفال الكثيرة التي وضعها أبوها على باب المنزل، منذ أربع سنوات كي تطمئن إلى أنّ بيتَهم لا يستطيع أحدٌ اقتِحامَه.. سيصِلُ إليها.. و سيصِلُ إلى أختها الصغيرة التي قد بلغت هي الأخرى سن السادسة، مثلما كانت هي قبل أربع سنوات.. أرادت أنْ تحذِّرها منه.. أرادت أن تخبرها أنّ "الوحش" اسمُه دانييل، أرادتْ أن تخبِر خالَتها الحامل لأول مرّة، بأنّ طفلَها الذي لم يولد بعد، هو الآخر في خطر من ذلك الوحش، فالوحش لا يبحث عن الجميلة الصغيرة فحسب، بل يلتَهِم حتى الجميل الصّغير. البارحة حين سمعَتْهم بعد حديث طويل، يتداولون خبر سفره إلى إسبانيا، أيْقَنَتْ أنهم قد تنبَّهوا إلى أنّها مستيقظة. لكنها تعلَمُ أن الوحش قد غادر السجن، و لن يذهب إلى أي مكان آخر، و أنّه سيعود ليلاحقها.. سيصِل إليها و إلى كلِّ الفتيات في مدينتِها.. في حيِّها.. في مدرستها.. في منزلها.. تخيّلوا الآن طفلاً آخر.. عمره اليوم عشر سنوات كذلك.. طفلٌ لا يشبِه تلك الطفلة.. و لا يشبه أطفالكم.. تعرفونه عن بعد.. لكنّكم قد تعرِفونه عن قرب في يوم من الأيام.. ربما يقطن مدينَتِكم.. أو قد يزورها في موكِب باذخ.. قد يكون في ذلك القصر هناك.. أو في قصر يشبِهه في مدينة أخرى.. يذهب إلى المدرسة هو الآخر.. لكنها مدرسة لا يمكن لأطفالكم أن يذهبوا إليها.. إنها مدرسة لا تشبه المدارس التي يذهبون إليها.. إنها مدرسةٌ ملكيّة ..تخيَّلوه.. جيداً سأحكي لكم ما ستَؤُول إليه الحكاية.. لن يلتقي الطفلان هذا ما يقولُه واقِعُ الألقاب و المراتب و التشريفات.. .. أو قد يلتقيان.. سيكُون حينها على تلك الطفلة التي قد لا تعرفونها.. تلك التي ما زال ندب جرحها ينزف و يلوِّنُ كلَّ أيامها بالغبن و القهر و الإذلال... بعد سنوات و سنوات.. سيكون عليها أنْ تقبِّل يدَ ذلك الطفل الذي كنتم تعرفونَه عن بعد.. و أصبحتم تعرفونه عن قرب بعد أن اعتلى الكرسي المَوْروث.. أو أنْ تقبِّل كتِفَه.. لا يهم.. سيُطلَبُ منها بشكل رسمي، أن تمعِن في الانحناء من جديد، و أن تركعَ لِمَنْ كان طفلاً في القصر يلعب و يدرس و يتحدَّث بخطابات الأمراء و الملوك و ألسِنتهم.. سيُطلَبُ منها أن تنحني حينها عندما يلتقيان، و أن تركَع قليلاً، ليس أمام قهرِها و جُرجِها و يومها المصادَر منذ سنوات عديدة.. بل أمام من كان في قصره محْمِيّا ًمتوّجاً، بينما كان جُرحُها مستباحاً و منتَهكاً بيد الملك و صوته و توقيعه.. تخيَّلوا الآن تلك الطفلة الصغيرة.. البريئة، التي تشبه أطفالكم كثيراً، لأنها طفلة مثلهم.. لكنها لم تعُد طفلة مثلهم منذ أربع سنوات بفعل انتهاك المعتدي دانيال.. و تخيّلوا أنها منذ أيام قليلة.. تصْطَلي رفقة أسرَتها و أقربائها و مُحبِّيها بنيران جحيمٍ آخر ظالِمٍ هو الآخر، يغرقُهم جميعاً في الانتهاك المضاعَف، و القهر المتوالي، و الاغتصاب المتكرِّر نتيجةً للعفو الملكي الموقَّع باسم الملك.. تذكَّروا في الختام الطفلة التي كانت تشبه أطفالَكم كثيراً.. تذكّروا أنها في العاشرة من عمرها اليوم، تعيد فصول مأساتها باغتصاب ثانٍ لكرامتها و اعتزازها بحقوقها و ثقتها في نفسها و تصوُّرها عن ذاتها.. و قوموا بعملية حساب بسيطة.. ضاعفوا المأساة مرةً، ثمَّ مرّةً، ثم مرَّةً أخرى .لا يكفي هذا العدد... حجم المأساة مازال أكبر و أضخم و أقوى و أشد.. هم أحد عشرَ كوكباً كانوا ينيرون سماء أهاليهم، مثلما تنير سماواتِكم تلك الكواكب التي تحتضنونها في كل وقت، لأنّها أكبادُكم التي تمشي على الأرض.. لم تعد الكواكب الأحد عشر مضيئة.. أفلَتْ منذ أربع سنوات أو أكثر قليلاً.. تخيّلوا أخيراً ذلك الطفل الذي لا يشبِه أطفالكم في شيء.. تخيّلوه جيداً.. وسط القصر يلهو و يدرس و يغني و يتحدّث بخطابات الأمراء و الملوك و ألسِنَتِهم.. و لنعد لعملية حساب أخرى بسيطة.. سيعتلي هو الكرسي لاحِقاً.. و سيكبر الأطفالُ الأحد عشر.. لم يعُد من حقِّهم أنْ يحلُموا.. عليهم أنْ يعيشوا و حسب.. أن يقاوموا الموتَ الذي يسكُنُهم، لكي يظلوا بعيداً عن إثبات الوفاة.. سيكبرون بعاهات نفسية مستديمة.. ليس بمفردهم، بل سيعاني من الأعطاب نفسِها كلُّ من شاركهم الحياة في الأمس أو في اليوم أو في الغد... من يحرُسُ أحلامَ أطفالِكمُ حينَ يستَفيقون من حُلْمِ طفولةٍ زائفةٍ، في وطَنٍ تتجرَّأ مؤسَّساته على الغدر ببراءة الأطفال بمبرِّر "الملك لم يكُن يعلَم"، و لا تجرأ على الاعتراف بالخطأ أو إعلان الاعتذار للضحايا و للشعب، أو الإقرار بعدم تكرار الخطأ ذاته أو ما يشابهه..؟ من سيضمنُ مستقبلاً بأن "يعلَمَ الملكُ" ما يفعَلُه في حق البلاد و العباد قبل أن يفعل، و هو الذي يقرِّر و يعيِّنُ و يقيلُ و يعفو و يعاقِب و يكافئ و يحكُم و يحاكِم و يُحَكَّم....؟ *كاتبة وناقدة