لم يراود أبدا أحد منا يوما سؤال: ماذا يعنى اسم الجياف؟ وإن دار في خلدنا، كنا نقف أمامه حيارى عاجزين عن الإجابة. فكل حمامات المدينة القديمة بمدينة فاس من حولنا تناط بأسماء الأحياء المتواجدة بها، كحمام القطانين، الصفارين، العشابين، النواعريين والخراشفيين وغيرها كثير، أو تحمل أسماء أولياء وعلماء مثل ابن عباد، مولاي ادريس، سيدي موسى، احمد الشاوي أو سيدي امحمد بن الفقي. لكلمة الجياف في اللغة العامية معنى الخنق، يقال جيف (بتشديد الياء المنصوبة) بمعنى خنق، معنى يطلق مجازا من فعل جيفت الجثة انتنت وفاحت رائحتها الكريهة كما ورد في العجم. اسم هذا الحمام ارتبط بذلك الممر الكئيب، العتم في جل مراحله، المنار جزء من ظلمته ليل نهار بمصباح كهربائي، ممر ضيق في معظم التواءاته وتعرجاته حتى إنه لا يسمح في مواضع منه بمرور إنسانين إلى جانب بعضهما البعض. ممر الجياف يشبه سرداب غسق يصل حي سيدي احمد التيجاني بأزقة ومنافذ تفضي إلى الأحياء الشرقية والشمالية من عدوة القرويين. لقد أضفى اسم الجياف على هذا الممر، الذي له صفة كوة سحيقة أو نفق طالع من بين طيات رواية رعب لاتينية، نوعا من الرهبة والريبة والخوف والحذر، أزكته طبيعته الداكنة والخالية في غالب ساعات النهار من الحركة البشرية وشكوك تلف ماويه، كفندق الوهراني، الذي له صيت الموبقات والغوايات ووكر العزارى والسكارى وشبهات القذارة. على الرغم من توفر ممر الجياف على دور ومساكن وورشات للصناعات اليدوية ومدرسة أطفال ما قبل مرحلة الابتدائي وفران في مدخل جهته الغربية وبفرناتشيه (فرن تزويد الحمام بالماء الساخن)، يعطي الدخول إليه الاحساس مثل ولوج قمقم محروس بالجن والعفاريت. لاسم حمام الجياف وقع رهبة في نفوس مرتاديه والمارين من أمامه، فالحمام كالممر تلفهما أساطير وحكايات ومرويات تتدفق بين الواقع والأسطورة. فككل الحمامات العتيقة يعرف تعاقب ليله ونهاره زوارا من النساء والرجال ولكل وقته وموعده المعلوم ولكل جنس طقوسه ومراسيمه. ففي الوقت الذي لا يمثل الحمام بالنسة للرجال إلا فضاء للتخلص من هم كآبة أو اغتسال من جنابة، يمثل بالنسبة للنساء فسحة استجمام وارتخاء وفرح وانشراح وعقد صداقات، بل حتى صفقات ومصاهرات. فدخول النساء إلى الحمام يشبه رحلة أسطورية تضرب في عمق الثقافات وتشبه ليلة اجتثت من ليالي ألف ليلة وليلة؛ حيث يتم الاستعداد له والتهيؤ لدخوله قبل أيام. من خلال فك الضفائر وتخضيب الشعور بالحناء والتزود بزاد الغاسول (الطين المدعوك بطبيخ ماء زهور البابونج) ذي الرائحة الزكية والصابون البلدي وروائح من ماء الورد والزهر وعدة من الأدوات من مشط وكيس وخرق وفوطات وملابس استبدال نقية مغسولة طرية. كانت أمي تصحبنا معها ونحن صغارا إلى الحمام ككل الأمهات اللائي يعملن جادات في دعك وحك ودلك أطفالهن من الرأس حتى أخمص القدمين، كأنهن ينفثن عنهم تعب الحياة الذي يتربص بهم مع مر الأيام. كنا نصرخ ملء حناجرنا من أثر رغوة الصابون الجارحة، الحارقة، المؤلمة والمتسربة إلى عيوننا، غير أن صراخنا لم يكن يشفع لنا من مرور مرحلة التطهير من الدرن رأسا وقدم. بعد أن تصير جلودنا حمراء وردية من أثر الكيس الخشن والحجرة الحرشاء، نجلس إما داخل أحد "الاقباب" المملوء بالماء الدافئ أو فوق البسيطة، نمرح بالماء ونلعب مبتهجين باجتيازنا هذا الامتحان الصعب. وبعد التجفيف والتدثير في الفوطات الكبيرة فنأخذ شكل موميات صغيرة، نثاب على صبرنا، الذي لا حيلة لنا منه، بطعم البرتقال اللذيذ، إذا كان موسمه، بعد أن يوضع من وهلة دخول الحمام الأولى في أحد "الاقباب" الخشبية المملوءة بالماء الفاتر ليبرد. وكما يقال "دخول الحمام ليس كالخروج منه". ففي الوقت الذي يشكل غياب النساء عن الدور ودخولهن الحمام نقمة للرجال، حيث يكون عليهم أن يتدبروا أمر إعداد الشاي أو القهوة بأنفسهم، أما الغذاء فقد وفرته النساء قبل مفارقة الدور، كان الحمام نعمة للنساء حيث ينفقن الساعات الطوال في أحاديثهن وتنظيف أجسادهن في طقوس ارتخاء تشبه تمارين اليوغا الهندية أو الزن اليباني. بعد رحلة متأنية تنطلق من "الدخلاني"، الفضاء الحار العتم بالبخار حيث صهريج الماء الساخن وحيث تنشط الطيابات، نساء يخدمن المسنات أو الميسورات من المستحمات، يقربن لهن الماء ويساعدنهن في حك ظهورهن مقابل أجر قد يتفاضل وفق السخاء وقدر الرزق. مهمة يقابلها عند استحمام الرجال الكسال، الذي يزيد على الطيابات، بدعك زبائنه وتمديد وجبذ عضلاتهم من خلال حركات تشبه قبضات المصارعة الحرة، ما يجعل أحيانا هذا الاخير يصرخ ليس طربا بل من شدة الألم، ثم يطليه بالصابون ويصب عليه الماء من فوق الرأس إلى القدمين. في المرحلة التالية تمر النساء بالفضاء "الوسطاني"، بهو أقل حرارة من الدخلاني حيث يواصلن المرحلة الثانية من اغتسالهن في تأن وروية. مع وصولهن إلى "البراني" بعد المرحلة النهائية من الغسل، حيث الكلاسة، امرأة تسهر على نظام مستودع الملابس المعلقة على المسامير أو المشاجب وفي الوقت نفسه أمينة الصندوق، تنتظرهن في الغالب أطباق شهية من الحلويات والسكريات والمشروبات والنشويات، التي يجود بها كرم إحدى المستحمات، بينما الرجال في الدور يسخطون ويلعنون شغب الأطفال وشقاوة غياب أمهاتهم. كان حمام الجياف لنا عيدا لصغيرنا وكبيرنا ومفخرة وميزة من ميزات حينا. ففي بعض مناسبات الأعراس والاحتفالات، تؤجره عائلات الحفل الليلة بكاملها، فيدخل أفراد العائلة وذويهم. النساء والبنات أولا، حيث تصدح جنباته بزغاريدهن ومواويلهن وإنشاداتهن للعروبيات والأغاني النسائية وهن ينقرن على "الاقباب" والسطول ويُعشِّقن (الصلاة على النبي). بعد خروجهن يدخل الرجال والأطفال. الذين يغنون هم الآخرون ويصدحون بالصلاة على النبي وقبط الكباحي (العزف بالأكف) لفترات طويلة. أما نحن الأطفال، فقد كان يملأنا شعور بالفرح والطلاقة ونحن نرتع ونلعب في كل جنبات الحمام بحرية وقد صار الحمام هذه الليلة ملكا لنا نمرح فيه حيث نشاء وصدى حيطانه تردد معنا في رهبة وهيبة أغاني الغيوان وجيل جيلالة. كان الاغتسال في حمام الجياف متعة باذخة، كخاصية لحينا البليدة والأحياء القريبة منها، كطقس أسبوعي نمارسه كل يوم خميس في وفاء دائم أو في الصبيحة التالية، استعدادا لاستقبال "عيد المؤمنين" يوم الجمعة. لكنه كان أحيانا يتحول إلى لعنة بائخة في الأعياد الدينية، عيد الفطر وعيد الأضحى. لأن في ليلة العيد هذه تكون كل الحمامات ترزح عن آخرها تحت اكتضاض الساعين من كل حدب وصوب إلى النقاء والتهيؤ إلى صباح العيد والمسير إلى المصلى. يكثر طلب الماء الساخن وينفذ موفوره، فلا تسمع عند "البرمة" (صهريج الما) إلا الدق بالاقباب على الحائط الموالي (للفرناتشي) والصياح "اطلق الخيط" أو "السخون الله يرحم الوالدين". فكم من مرة انقطع فيها جريان الماء الساخن، فنخرج من الحمام اضطرارا بوسخنا وملابسنا تنضح عرقا، نبحث عن حمام بديل، قد يحالفنا فيه الحظ، فنتم ما بدأناه من الغسل في حمام حينا. الجياف ممر مطلسم، فضاء يحيطه اللبس وتسيجه الريبة، تتجاور فيه الطهارة والقذارة، الورع والخُلاعُ. فالمرور عبره يشبه المرور عبر نفق أجرد من الحياة أو الحركة التي تدب على طرفي نهاياته. لقد غلفت هذا المعبر المظلم أساطير وحكايات منها ما يرجع الاسم إلى رجل خنق زوجته لأنها تأخرت كثيرا في الحمام، ومنها ما يرجعه إلى أن جنيا كان يعشق زوجة فقيه صاحب حكمة ومتمرس في علم الأسماء، فمن شدة حبه لها واندحاره أمام تمائم وعزائم أرصاد زوجها، قام بخنقها. غير أني أميل إلى التفسير الثالث، الذي يعيد اسم الجياف إلى مرحلة ما قبل بناء الحي اليهودي، الملاح، ضمن منشآت المدينة المخزنية فاس الجديد على يد الدولة المرينية في بداية القرن 13 الميلادي، حيث كان اليهود من بين غالبية سكان هذه الأحياء، البليدة والرحيبة اللتين يربط بينهما ممر الجياف. فقد كانت هذه المناطق حتى نهاية الستينات من القرن الماضي توجد على أطراف المدينة من جهة الجنوب، تنفتح على واد الزحول وعلى حزام من حدائق الخضر والفواكه المعروفة بالجنانات أو العراصي. فحتى اليوم لا زالت بعض الدروب والأزقة في هذا الجزء من عدوة القرويين تحتفظ بأسمائها اليهودية، مثل فندق اليهودي، درب جنيارة، درب سلما، درب السفر، واد الزحول، عقيبة ميمونة، درب النوالة، وغيرها. وحيث إن نهاية الطرف الشرقي لممر الجياف كان مواليا للخلوات، فقد كانت تلقى فيه جثة الحيوانات النافقة، من هنا جاء اسم الجياف، أي الجيفة. فقد كان من عادة السكان أن تلقى الجياف من الحيوانات قريبا من الملاح. فاليهود العرب أنفسهم يشمئزون من اسمهم بالفرنسي (Juifs). فحتى اليوم، لا زال هناك باب قرب ملاح اليهود في فاس الجديد يعرف بباب الجياف، وكانت له الوظيفة نفسها، رمي الحيوانات الميتة هناك، إلى أن تم إنشاء مستشفى معالجة الحيوانات المسمى "الفندق الأمريكي" قريبا من باب الجياف، نتيجة زيارة المغامرة الشابة الأمريكية بيسي دين كوبر المدافعة عن حقوق الحيوانات إلى فاس ضمن زيارتها إلى عدد من مدن شمال إفريقيا سنة 1926. حيث أطلقت من خلال رسائل بعثتها إلى أصدقائها حملة إشعارهم بالوضعية المزرية للحيوانات في فاس. وفي سنة 1929، تم تأسيس هذا المستشفى عبر تبرعات أفراد أمريكيين، واشتغلت بيسي دين كوبر في المستشفى أمينة الصندوق والتبرعات. التصقت الحمامات العتيقة عامة وحمام الجياف من ضمنها في الذاكرة الشعبية بعالم الجن والعفاريت، فحيثما وجد الماء، سواء كان بحرا أو برا، يكون هناك مربض الأشباح والحوريات الجنيات، مثل عيشة مولاة الواد والبحراوي، وتحاك الحكايات التراجيدية والكوميدية في علاقة بين الحمام وهذه الأرواح الغامضة والمخلوقات الخفية. فمرة في السنة تقام في حمام الجياف ليلة (روحانية)، وأحيانا أكثر من مرة في السنة، كلما كثر في الحمام النمل أو تزايد عدد الصراصير أو الناموس. في ذلك اليوم وقبل الليلة، تعطل كل نشاطات الحمام التجارية، تطفأ نار مرجل تسخين الماء وعند حلول الديجور، تتراقص أضواء الشموع في فضاءات الحمام وتفوح جنباته بروائح الند والبخور، سرغينة والجاوي والحناء والعود القماري. ترش جدرانه بماء الورد والزهر وتفرش إحدى قاعاته الداخلية باللحافات والوسادات وتصدح جنباته الأمسية كلها بأجواء وطقوس رهيبة بإيقاعات الطبل والقراقب وأوتار الهجهوج والأصوات الكناوية، ترددها زوايا الحمام وتتجاوب معها ذبذبات المكان، تجذب النساء وتملأ الزغاريد الفضاء حتى الفجر بالمديح والتسليم "لسيادنا مالين المكان". ثم يتم غسل الحمام برمته، وبذلك يتطهر المُطهر ويغتسل مكان الغسل.