الحديث عن المقهى حديث ذو شجون حقا، يثير في عواطف قديمة مدفونة في الذاكرة، وسأقتصر هنا فقط على تلك المرتبطة بالثقافة والقراءة. لا أتذكر كم كان سني وقتها حينما كنت رفقة والدي نتسوق في السوق الداخل بطنجة، فجأة أوقفني وأشار إلى رجل يجلس بمقهى( أخمن الآن انه كان مقهى سينطرال) ثم قال لي : انظر انه "محمد شكري" يقولون عنه انه أديب عصامي، كون نفسه بنفسه، تنشر كتبه بالفرنسية والانجليزية والاسبانية قبل العربية، فرأيت رجلا منهمكا في استهلاك سيجارة، وغارقا في التأمل العميق! كان يستعصي علي وقتها مفهوم " أديب" أو "كاتب" ومنذئذ ارتبط اسم الكاتب لدي بالسيجارة والمقهى. لم اجبر يوما نفسي على الجلوس في مقهى ثقافي محدد، فقط كنت في فترة ما زبونا وفيا لأحد المقاهي الشعبية، استوحيت من فضائه نصا كتبته في مقهى آخر، وأسميته قصة قصيرة، وحاولت نشره في إحدى المجلات المتخصصة لكنهم اعتذروا عن نشره، وخيرا فعلوا لان نصي لم يكن ناضجا كفاية حتى يقرأه العرب من المحيط إلى الخليج! مرت سنوات عديدة على أول مرة رأيت فيها محمد شكري، ثم قدر لي أن أحضر حفلة توقيع مجموعة 'بائعة الورد' لمحمد زفزاف، ووقتها عرضت عليه أن يطلع على احد نصوصي المبكرة، فضرب لي موعدا بمقهى "نيكريسكو" لكنني تهيبت من لقائه هناك، لأنني كنت أتصور ذلك المقهى على "قد" مقهى سينطرال الذي رأيته فيه مبكرا، لكن الفرق بين المقهيين كان شاسعا لحد الصدمة، فمقهى "نيكريسكو" كان من طراز آخر، يقدم فيه الطعام والشراب وكل شيء.. أما المقاهي التي نرتادها نحن فلا تقدم إلا الشاي المنعنع والقهوة والمشروبات الغازية..وأنا حقيقة لحد الآن لا أتقن الجلوس إلا في المقاهي الشعبية، تلك التي يجبرك فيها "القهواجي" على شرب الشاي على انه قهوة! وإياك أن تحتج، فلكل مقهى قانونه الداخلي الخاص!. في طنجة مقاه لها تاريخ مع الكتاب والمثقفين، الذين شكلت لهم في يوم ما فضاء للقاء والنقاش وتبادل الآراء وحتى الإبداع الرصين.. فإذا كانت المقاهي تظهر في كتابة محمد شكري بشكل كثيف، فان الكاتب الأمريكي "بول بولز" الذي اختار طنجة كمستقر له وعزلة امتدت لعقود، كان يحرص على الجلوس في مقهى باريس، حينما كان يستطيع أن يشنف سمعه بهذيل اليمام الواصل إليه من الجبل الكبير، أما بعدما اكتسح العمران طنجة فقد هاله الأمر واعتزل في غرفته شبه المظلمة بعمارة" سوق البقر".. مقهى الحافة، الذي يمكن الجالس فيه من مراقبة البوغاز ومد عينيه إلى أراضي أوربا شكل في وقت ما فضاء محبوبا للمثقفين المقيمين والعابرين لطنجة، هو مقهى غارق في شعبيته، يلبي حاجيات البوهيميين خصوصا. لم يعد في طنجة اليوم مقهى يعكف على زيارته المثقفون، وإنما فقط أصبحت تلكم المقاهي مزارات يأتي الكتاب لتفقدها كفضاءات لكتابات قرؤوها، ولا اعرف إن كان صحيحا ما قاله لي صديق بأن الكاتب الفرنسي الشهير" ألبير كامو" كتب أجزاء من رواية "الغريب" في مقهى "مدام بورط"، الآن لم تعد تلك المقاهي إلا محطات للنميمة وتتبع مباريات كرة القدم، كرة القدم التي طغت على كل حديث وحدث! كنت في فترة من عمري ارتاد مقهى شعبيا جدا، بحي شعبي جدا، وكنت احرص على اقتناء جريدة على الأقل كل يوم لقراءتها بذات المقهى، وبمجرد ما كنت ادخل حاملا الجريدة في يدي حتى يهرع مجموعة من الزبائن يطلبون مني صفحة من الجريدة لقراءتها، فتوزع الجريدة على الحاضرين بعدد الصفحات، وكانوا يفضلون على الخصوص الصفحة الرياضية والكلمات المتقاطعة، وأصبحت عادة القوم أن "يشندلوا" جريدتي كل صباح، كنت في أول الأمر استمتع بهذا المشهد: عدد من الناس بعدد صفحات الجريدة منهمكون في القراءة في وقت واحد، من قال إن العرب لا يقرؤون؟! ولما ضقت بهذا السلوك الذي أصبح يستفزني، اقتنيت ذات صباح جريدة باللغة الفرنسية نكاية فيهم، وما إن دخلت المقهى حتى اقبلوا كعادتهم يطلبون الصفحات لمطالعتها، لكنهم سرعان ما أعادوا لي الصفحات، والخيبة تملآ عيونهم، ولما سألت أحدهم- الذي كان شرها في قراءة الجريدة- أجابني انه ليس أحمق حتى ينفق ثمن خبزتين على جرائد لا تنشر إلا الأكاذيب! إذن ربما كنت أنا الأحمق الوحيد بذلك المقهى!