إن سيرورة تطور المجتمعات غالبا ما تخضع لقانون الشد والجذب ، أو ما يسمى بالتدافع بين التيارات الفكرية و السياسية و الإيديولوجية المكونة لها ، بسبب اختلاف مواقع أعضاء الجسد المجتمعي واختلاف وظائفها و أهدافها. وبالتالي فمن دون شك ستختلف وسائلها كما تختلف أفكارها و منطلقاتها و تصوراتها ... رغم هذا التباين فان المشترك أو المتوافق عليه بين هذه التيارات ليس بالقليل . فلا احد من هذه المكونات -على سبيل الافتراض- مثلا سيجادل في أهمية الديمقراطية و الحرية لأنهما شرطان أساسيان لتحقيق كرامة الإنسان وإرادته و لتمتعيه بحقوقه ... لتحقيق البناء الديمقراطي و النهوض بالقيم المرتبطة به كالمساواة و العدل والحرية والكرامة والتسامح ...يعتمد كل طرف وسائله الخاصة -المتعارف عليها - لتحقيق المصلحة العامة المتمثلة في القيم السابقة ، عن طريق التداول على السلطة، عبر تنافس سياسي قد يتبلور في تنافس قوي تستعمل فيه الأسلحة المتاحة لإضعاف الخصوم - وفق قواعد لا ينبغي الزيغ عنها ، تماما كما يقع في لعبة كرة القدم - لكن بمبادئ و روح أخلاقية وقيمية عالية ، تقف عند حدود الخطوط الحمراء التي تمس المصلحة العامة ، و التي توضع فوق كل اعتبار. وبتعبير أخر إذا كانت التيارات السياسية تختلف في الوسائل فإنها تتفق في الأهداف والغايات. إذا صدقنا بهذه المعادلة، فسنكون على ارتياح أن مستقبل الأوطان العربية بخير مهما كانت الجهة الحاكمة، مادامت عناصر الوحدة والمشترك بين التيارات موجودة وبكثرة.. ومن بين التيارات التي نادت بالديمقراطية وكانت محور نقاشتها السياسية التيارات اليسارية العلمانية والليبرالية وحتى السلفية الوهابية و الإسلامية المعتدلة .. فهل الواقع العربي يصدق أم يكذب ذلك ؟؟ تشاء الأيام و الأقدار ، مع حركية التاريخ و تجاوز المجتمعات العربية للسكون والجمود، أن تكشف عن عكس ما اشرنا إليه في الفقرة السابقة. فما كان يبدو متفق عليه لم يكن سوى أغطية أو أقنعة تضعها بعض الوجوه الصدئة عليها لتغطي على دمامتها وخبث مسعاها في نفاق يتجاوز نفاق ابن أبي سلول . منذ انطلاق الربيع العربي ، بدأت الأقنعة تتساقط كما تتساقط أوراق الخريف عن عورات الاستئصالين ، لتوضح لنا من يؤمن بالديمقراطية قولا فعلا ، و من يركب عليها لمصلحة إيديولوجيته البائدة البائرة . و مع سقوط كل نظام سياسي ، في البلدان العربية ، نلاحظ محاولات اللف والدوران والمناورة تلعب من قبل أطراف متعددة ، تكشف عن نفسها أحيانا ، و تتخفى بجبن في أحايين أخرى وسط موجة الإعصار الأهوج ، الذي يمكن أن يأتي عليها بما لا تقوى عليه سفنها المهترئة ، فتمارس النفاق السياسي الذي تتقنه، وتلعب دور التقية ... واستمرت الأقنعة في التساقط ، وبدأت الخيوط تنكشف شيئا فشيئا ، حتى جاء الدرس المصري في الثاني من يوليوز الذي عرى الجميع ، وبين المواقف المناقضة من القضايا المصيرية للأمة ، ومنها الاعتقاد الحقيقي بالديمقراطية : من يؤمن ومن يكفر بها ، و القضية الفلسطينية : من يدافع عنها ومن يتاجر بها ... إن هذه " الردة الديمقراطية " ، يحق لنا إن نسميها " بالخريف العربي" الذي اسقط أوراق التوت عن التيارات الراديكالية ، ومنها التيارات العلمانية اليسارية و الليبرالية المهرولة والقومية الاقصائية ، المدعومة من قبل الجيش والإعلام ، وحتى بعض التيارات السلفية الانتهازية... وتبين أنها أول من يلتف على الديمقراطية - تحت مبررات أهون من بيت العنكبوت - التي طالما صمت أذاننا بنداءاتها واتهامها للتيارات الإسلامية الوسطية بالظلامية والرجعية .. فكانت أول من يخون القيم والمبادئ التي تبنى عليها الديمقراطية ، وبرهنت بما لا يدع مجالا للشك أنها ضد إرادة الشعب ، بل وان الكثير من هذه التيارات بينت أنها موالية لإسرائيل وعميلة لأمريكا تتلقى تمويلات عن أنشطتها المعادية للإسلاميين والإسلام كما فضحتهم وثائق ويكيليكس الصادرة في بحر هذا الأسبوع. فسقط القناع عن القناع عن القناع ... 1- سقط القناع عن الكثير من العلمانيين دعاة الديمقراطية والليبراليين دعاة التحرر والحداثيين دعاة العقلانية والقومجيين الداعمين للانقلاب العسكري في مصر، فحَوَّلوا - بزيْفٍ - شرعية الصناديق إلى شرعية الشارع ، لكن الشارع انتفض ولفظت المدن المصرية أمواجا بشرية عاتية ، وحاولوا جاهدين ترجيح الكفة لهم بمبالغة وبهتان وتضخيم وسائل الإعلام لكن هيهات . ولما فضحهم ميدان التحرير ، رفعوا شعار المصلحة الوطنية والضرورة الإستراتيجية والحفاظ على الأمن القومي في غباء لم يسبق له نظير . فأي فصام سياسي وفكري يعيش فيه هؤلاء بل في أي مستنقع من النفاق يسبحون ؟ و لا غرو أن إبليس سيصفق باندهاش لهذه الوجوه ذات الأقنعة البالغة المرونة ، كما سيعلن نهاية دوره ما دام هناك من يمكنه أن يتقنه على حد تعبير احمد مطر . 2- سقط القناع عن دويلة الإمارات العربية المتحدة الداعمة للانقلاب العسكري ولنظام مبارك بدعم الفلول و الطراطير ، وضخها لثلاثة مليار دولار في الخزينة المصرية، لإيهام الشعب المصري أنها مساعدات مادية تقدم له لتبارك له ثورته ، بينما هي في حقيقة الأمر رشوة لشراء الصمت ، وإقبار مشروع اقتصادي ضخم ، جاء به الرئيس الشرعي محمد مرسي على قناة السويس ، والذي كان من المنتظر أن يضخ 100 مليار دولار في السنة على مصر، ويخرجها من التبعية الاقتصادية التي تعيشها على وقع الصدقات التي تتلقاها من الويلات المتحدة والاتحاد الأوربي، وأصبحت بسببها رهينة لأجنداتهم ومخططاتهم الموالية لإسرائيل تحت مبرر الأمن الاستراتيجي، في الوقت الذي يذبح فيه الفلسطينيون الشرفاء من تيار المقاومة دون أن تتحرك عواطفهم تجاههم ... 3- سقط القناع عن المملكة العربية السعودية ذات المرجعية " الوهابية المحافظة " ، والتي أفرغتها من محتواها ، كما حرفت مقاصد الدين الإسلامي عن أهدافه السامية والنبيلة المبنية على الإخوة والأمن و التعاون عوض الغدر والنفاق ، بوضعها يدها في يد التحالف الصهيوأمريكي ، وتنفيذها للمقررات الصهيونية منذ تيودور هزتزل و بلفور وبتواطؤ مع الشريف حسين وصولا إلى مخططات ارييل شارون و شمعون بيريز .. سقط القناع عن أل سعود باعتقالهم العلماء الشرفاء - ومنهم الراشد و العريفي - لإبدائهم الرأي السديد بخصوص الأوضاع في مصر بعدما ألجموا الآلاف عن التحدث عن النظام السعودي المبني على القمع و الاستبداد .. 4 - سقط القناع عن المملكة الأردنية الهاشمية ، أحفاد الخائن الشريف حسين الذي باع فلسطين مقابل إقامة دويلة لا تقدر حتى على حماية حدودها. سقط القناع عنها بخيانتها للقضية المركزية للعالم الإسلامي ، وبدعمها لتيار المساومة مع الصهيونية ، و الذي اتهم علانية من قبل إسرائيل بالعمالة دون أن يستطيع حتى المدافعة عن نفسه ومن ممثليهم عريقات وعباس وعبد ربه و آخرون . سقط القناع عنها بعدائها للإسلاميين في مصر مخافة انتقال عدوى الإصلاحات إليها عن طريق حركة الإخوان الإسلامية والأحزاب التي لها مرجعية مماثلة ، للإبقاء على الأمر القائم الذي يخدم أساسا المشروع الصهيوني في منطقة المشرق العربي . 5- سقط القناع عن الإعلام المائع المهرول وراء المخططات الليبرالية النابعة من الإيديولوجية الصهيونية ، الهادفة إلى ضرب وحدة العقيدة والدين بضرب الإسلاميين و من والاهم في مشارق الأرض ومغاربها . سقط القناع عن الإعلام المخادع المنافق الكذاب المضلل الذي يلفق التهم المجانية ويفبرك الأحداث . سقط القناع عن الكثير من المواقع الالكترونية والجرائد المكتوبة والقنوات المرئية والصحافة الصفراء في كل البلدان العربية - التي رفعت شعار المسؤولية والموضوعية والحياد - بفبركتها للصور ونشرها على أنها لأنصار العسكر ، بينما تكشف الأدلة الدامغة زيف ادعاءاتها ، وتبين أنها مأخوذة من مظاهرات سابقة أو من مسيرات مناصري الشرعية أو أنها مشاهد بئيسة تم تمثيلها بشكل فاضح أو مأخوذة من أفلام تمت مشاهدتها ألاف المرات ويصعب خداع المشاهد العربي بها . و سقط القناع عن الإعلاميين المرتزقة الذي لا يعرفون ما معنى الحياد والمهنية ، فيخدمون طرفا دون الأخر . وإذا ما تم القبض على احد منهم - كما وقع سابقا في لبيبا - يقبل الأيادي والأرجل ليقول أنا مجرد موظف أنفذ تعليمات الدولة . 6- سقط القناع عن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تكيل بمكيالين وتقف - في حياد سلبي نظريا - على مسافة تحددها حسب مصالحها ، لتتكلم بلغة خشبية ، فلا تساند الانقلاب ولا تدعو إلى عودة الشرعية . فكل ما يهم شرطي الكون هو الحفاظ على مصالحه ولو كان إبليس هو الحاكم . لكن في الخفاء و الكواليس ، تبين أن المخابرات الأمريكية هي من تخطط للكثير من الأحداث ، أو على الأقل تحاول التحكم في سيرها وتطورها ، وتوظف عبيدها من العربان العملاء والعسكر العميان ،وتسخرهم بوعي أو بدون وعي لخدمتها ، ليتم التحكم في قيادات الدول كما كان يتم ذلك من قبل . أما الاستقلالية والديمقراطية والحرية فهي مجرد حلم جميل انتهى في زمن جميل كان يسمى بالربيع العربي . 7- سقط القناع عن الدولة العميقة التي كانت سببا في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها الكثير من الدول بعد الثورات، بتوظيفها لسلطة المال والأعلام و رجال الأعمال الفاسدين الموالين لها، و الخائفين أن تمس الإصلاحات - التي تحارب الفساد - بمصالحهم الذين انتعشوا بفضل مستنقع الفساد و راكموا الثروات على حساب الفئات البائسة الفقيرة . سقط القناع عن هذه التماسيح التي تعرقل التغيير بافتعال الأزمات من نقص للغذاء والبترول إلى نقص في السيولة والتمويل وقطع الكهرباء وضرب قطاع السياحة و ترهيب المواطنين وكل ما يمكن أن يمس مصالح البلد للقول أن الإسلاميين عجزوا عن التسيير ... 8- سقط القناع عن بعض الدعاة المنبطحين الذين يأمرون المتظاهرين بالعودة إلى بيوتهم مخافة الفتنة ، ونادوا بحل الأحزاب الإسلامية و العودة إلى المساجد ، ونسوا أن الفتنة الكبرى هي ما كان يقع في تونس التي يمنع فيها المصلون في الدخول إلى المساجد و يعصى الله جهارا ويفطر في رمضان علنا ، ونسوا أن العلمانيين و الليبراليين لا يهمهم أن تشيع الفاحشة في المؤمنين ، بل أن من أهدافهم الكبرى هي تقنين هذا الانتشار حتى يكون لكل واحد الحق في الزنا والعري . ونسوا أن الفتنة الحقيقية هي الكذب على الشعوب وخيانتها والتواطؤ مع الصهيونية و استغلال خيرات البلدان ضد المصالح العامة و نسوا الاستبداد والظلم الذي كانت و لازالت تحكم به الشعوب الإسلامية... سقطت الكثير من الأقنعة، وسقطت أقنعة عن أقنعة فمنهم من يلف وجهه بعدد لا يحصى منها، رغم انه لا يهمنا الشكل الثاني الذي نكتشفه منها بقدر ما يهمنا زيف الأول . ولازلنا ننتظر أن تسقط أخرى، ومنها أقنعة التماسيح والعفاريت عندنا في المغرب حتى نكتشف ماهيتها وحقيقتها. عموما هذه واحدة من فضائل الثورات العربية التي أسقطت الكثير من الأقنعة على حد تعبير الإعلامي فيصل القاسم كما جاء في شعر محمود درويش. و بشكل عام كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله. https://www.facebook.com/abderrahim.hachi