من كان منكم بلا خطيئة فليرمها اولاً بحجر نبي الله عيسى بعث الله عيسى عليه السلام والناس قد أثقلت كواهلهم شرائع التوراة بشروح التلموذ وشروح الشروح، والتعاليق على تلك الشروح من جهة، وقوانين الدولة الرومانية الكثفية من جهة أخرى. ومن طبيعة القوانين في غياب العدالة أن تطال الطبقة السفلى من الشعب أما العليا فمحصنة. وأنى للقوانين في غياب الوازع الأخلاقي أن تضبط المجتمع. لم يرض الكهنة والأحبار الذين جمعوا بين السلطتين سلطة النص ونص السلطة أن يوجَد أحد غيرهم يملك ورقة الدين لينفذ من خلالها إلى مآربه الغائية. وما ينبغي للسيد المسيح مآرب سلطة أو استعادة ملك كما وصموه. لكنه أتى ليعيد الدعوة إلى مسارها الإنساني المؤسس على الرحمة والمحبة والسلام من أول يوم أن تقوم فيه دعوته ودعوة كل نبي أو رسول. تجلى اصطدامه مع قومه من بني إسرائيل في تركيزه على غفران خطايا المذنبين والحالة هذه أن الأحبار كانوا تجار الخطايا وسماسرتها. قائلا عن نفسه محدداً رسالته: " إن ابن الانسان قد جاء ليبحث عن الهالكين ويخلصهم. " لوقا 19- 10". فالبشارة بالغفران والرحمة من جانب هذا "المتمرد" في نظرهم كساد لتجارتهم. فلم يكن بد من اصطدام النبي مع السلطتين سلطة بني جلدته الأحبار والكهنة، وكتاب الشريعة وسلطة الرومان التي تحالفت مع السلطة الدينية المتمثلة فيهم عندما التقت مصالح الإثنين. فكانت رسالة نبي الله عيسى أن يشق الطريق بين السلطتين العتيدتين، يشقه نحو تلكم المرأة المكلومة، والأرملة، سبب الخطيئة، ومنبع الشر حسب تفسيرهم، وإلى ذلك اليتيم المُعدِم ممن لم تنصفهم أي من تلك السلط، لا الدينية ولا الدنيوية منها بل طفقت تتصيد خطاياهم وتترقب مزالقهم. وتلك هي الشريحة التي يراد لها الشريعة. نصب الكمين لنبي الله لم يكن بود أولئك الأحبار والكهنة تطبيق حد الزنا لذاته تنفيذاً لأمر الله بقدر ما كانوا يريدون توريط السيد المسيح في تطبيق قانون داخل دولة الرومان المكدسة بالقوانين أكواماً متراكمة وقد عرفت روما من بين الأمم بالقوانين والنظم. إنها تضرب بيد من حديد على من يخرق ذلك القانون، أبرز صور الخرق أن توجِد جماعة لنفسها مَحكمة تنفذ فيها العقوبات دون اللجوء إلى السلطة الرسمية للبلاد. والإشاعة التي كان الأحبار يعملون على ترسيخها عند الحاكم المحلي الروماني هيرودوس في فلسطين أن هذا النبي المزعوم يعمل على استعادة مملكة اليهود. الأمر الذي يهدد كيان الرومان ما يقتضي التصرف الحازم مع هذا الداعي ليشرد به من خلفه. ولم تعرف تلك الدولة الرحمة في قاونونها وحروبها. طفقوا يبحثون عن الألغاز في أعماق الشريعة من أحكامها ودقائق فروعها لاستخلاص أسئلة يطرحونها عليه في حضرة أتباعه باحثين عن جواب يتلقونه منه لا يسلم فيه من إحدى الورطتين إما مع الأتباع، اتهاما له بالتساهل ونقض شريعة موسى، أو اصطداماً بقانون الرومان الرسمي. ليجدوا تهمة يحاكمونه بها. أضحوا يطاردونه بتلك الأسئلة في مجامعه ومجالس وعظه. لكنه عرف بسرعة جواب تثلج صدر الصادقين وتدمغ المتربصين. لكن هذه المرة بيتوا له كميناً عملياً محكم الإعداد. لامنجاة له منه حسب تخطيطهم. فبينما هو يعظ القوم إذ اقتحموا عليه المعبد وهم يدفعون امرأة أماههم بعنف صارخ تصحبه جلبة وضجيج لا يكاد يسمع السامع ما يقولون أو يهمسون. فقالوا له: يا معلم، هذه المرأة ضُبطت وهى تزنى. وقد أوصانا موسى فى شريعته بإعدام أمثالها رجماً بالحجارة، فما قولك أنت؟ انحنى وبدأ يكتب بإصبعه على الأرض. ولكنهم ألحوا عليه بالسؤال، فاعتدل وقال لهم: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر! ثم انحنى وعاد يكتب على الأرض. فلما سمعوا هذا الكلام انسحبوا جميعاً واحداً تلو الآخر، ابتداءً من الشيوخ. وبقى وحده، والمرأة واجمة فى مكانها. فاعتدل وقال لها: أين هم أيتها المرأة؟ ألم يحكم عليك أحد منهم؟ أجابت: لا أحد يا سيد. فقال لها: وأنا لا أحكم عليك. اذهبى ولا تعودى تخطئين. موقف عيسى من تطبيق الشريعة اليهودية لم يعمد إلى تطبيق الشريعة وتنفيذ الحدود مع كونه ناشىء في أحضانها وأول المؤمنين بها. لكنه تناول الدين من زاوية التضامن مع الثكلى والأرامل واليتامى، والمسرفين على أنفسهم بالذنوب في مجتمع اختل فيه التوازن وطغت فيه المادة على الروح، أنكر الصدوقيون البعث وغرق الناس في الملذات، وبلغ البذخ والترف والرياء مبلغاً لا مجال للمزيد منه، إلا أن يتفجر الوضع أو يحدث شيء ما. وقد بلغ السيل الزبى واتسع الخرق على المرتق. بحيث لا يشكل تطبيق الشريعة غير الإستزادة من تفاقم الشر والتحايل على الشرع بطرق تطورها المجتمعات التي تربت تحت الإستبداد وغلبة القهر. تفقد ضميرها بفقدانها للحرية. فرأى الطريق في تقريب الخلق من الله عبر المحبة والرحمة، ترغيباً ليس ترهيباً، فقد سئموا الخطاب الفظ الغليظ من الأحبار والرهبان ومعلمي الشريعة. وكان عيسى قد بُعث إبان بعثة نبي آخر عظيم الشأن في زمن واحد، وهو يحيى بن زكريا (يوحنا المعمدان) ذرية بعضها من بعض (آل عمران 33-34) فكان خطاب يوحنا قاسياً مع بني إسرائيل، مثل قوله لهم: يأ أولاد الأفاعي اصنعوا ثماراً تليق بالتوبة، ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أباً. لأني أقول لكم ان الله قارد أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتلقى في النار. "متى 3-10". لم يكن يجالسهم أو يخالطهم، إنما زهد فيهم كما زهد في دنياهم. لبس الخشن من الثياب واقتات من النبات وسكن البراري والقفار. وهو الشهيد الذي قُدم رأسُه هدية لراقصة على طبق من فضة من طرف هيرودوس الحاكم الروماني في عيد ميلاده، وهو سجين عنده، كان ذلك طلباً حددته راقصة لهيرودوس كالطلب الوحيد الذي سيرضيها. فتم لها ما تشتهي. اختلف أسلوب السيد المسيح عن أسلوب النبي يحيا، كان يخالط الناس من جميع الطبقات الصالحين منهم والمخطئين والمتسكعين اليائسين البائسين المنبوذين المنكسرين. يحضر الأعراس والمواسم. همه إحياء للضمير الإنساني والبعد الأخلاقي. كما نقرؤ موعظته المسماة موعظة الجبل: طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السموات. طوبى للحزانى... طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض. طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون. طوبى للرحماء لأنهم يرحمون. طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله. طوبى لصانعي السلام.. طوبى للمطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السموت.. الخ. لكن خطابه تجاه معلمي الشريعة من نوع آخر: الويل لكم يامعلمي الشريعة والفريسيون على كرسي موسى جالسون، تغلقون ملكوت السموات في وجوه الناس. الويل لكم يامعلمي الشريعة والفريسيون المراءون تأكلون بيوت الأرامل وأنتم تظهرون أنكم تطيلون الصلاة، سينالكم أشد العقاب. الويل لكم أيها القادة العميان .."متى 23". عبَر نص شريعة موسى إلى مقصده وروحه. فانطلق من منطلق الرحمة والمحبة. وهو محاذٍ للشريحة الإجتماعية المتربة، واندمج فيهم. بينما الأحبار يتحدثون من الطبقة العليا للمجتع اليهودي. ففي ظرف ثلاث سنوات استقطب الجموع الغفيرة من أبناء الجليل وما حولها. كان يتناول مواضيع بعيدة كل البعد عن القوانين والشرائع التي أثقلت كواهل العامة، فقد يزني أحدهم لأنه بلغ به السن مبلغه وليس له ما يعيل به زوجه أو يسرق أحدهم ليسد رمقه. فما كان لنبي الله أن يشجع على الفاحشة أوالسرقة. فكأنه كان يدرؤ الحدود بالشبهات كما تقول القاعدة الأصولية والتشريعية. السياق الفكري والعقدي بعث السيد المسيح في مرحلة راجت فيها العقائد المختلفة والمتنوعة والمذاهب الفكرية والفلسفية اليونانية والإسكندرية والأسيوية بسبب التواصل الذي حصل بفضل فتوحات روما العالمية. ولم يكن لدولة روما دين سماوي يمكن أن تؤثر به في مستعمراتها. استأثرت روما بالأرض فلم تجد بأساً أن تترك لشعوبها السماء على حد قول العقاد. هذا قبل أن تجعل المسيحية ديناً رسمياً للدولة إنقاذا لتضعضعها. كانت الوثنية موجودة دون أن يكون لها أثر أو سلطة على النفوس مثل ما كان للديانة السماوية المتمثلة في اليهودية رغم ما شابها من ضعف وركون أصحابها للمادة وحرصهم على الحياة والخلود إلى الأرض. فحدث من خلال تلك الفتوحات تفاعل بين الفلسفات وتعارف وتلاقح. وقد ترجمت التوراة إلى اللغة اليونانية في القرن الثاني ق.م. كانت الآرامية لغة الوحي عند عيسى وتلامذته، واليونانية لغة الأناجيل، والسريانية لغة التوراة والإنجيل معاً. بالرغم من سلطة روما العسكرية التي كان شعبها يتوق إلى سحر الشرق مهبط الوحي ومهد النبوات. حتى شاع عند حكام روما أن حكام الشرق تحل فيهم روح الإله وربما تمنى أحدهم أن يحصل له ذلك الحلول. حصل بالفعل تأثير القوي من جانب الضعيف. على عكس القاعدة المطردة من تأثير القوي في الضعيف. تأثرت اليهودية كدين سماوي بالمذاهب الفلسفية المتواجدة يومئذ على أرض فلسطين. كان فيلون وهو فليسوف كبير يهودي من الإسكندرية يعمل على تأويل التوراة بما يوافق العقل على ضوء الفلسفة. اعتُمد التفسير الإشاري والرمزي لفهم العهد القديم وإلا يستحيل ذلك على حد قوله. تحالف السلطة والمعرفة ما كان لأحد أن يتصور أن يأتى يوم على روما تجعل من المسيحية دين الدولة الرسمي بعد أن طاردت هذه الديانة ثلاث مائة عام أو يزيد. هذه المحطة تشكل نقطة مركزية بل حساسة للباحث في الديانات كأكبر تحول حدث في هذه الديانة قد نعود إليه إن سنح الوقت. استمر ذلك المزج إلى غاية مجيء الثورة الفرنسية التي فصلت بين الدين والدولة. لكن هذا ليس موضوعنا الآن إلا بقدر ما نراه أبرز مثال على تحالف السلطة والمعرفة عند الضرورة. والمضطر إلى التحالف دائماً هي السلطة. إبان بعثة عيسى كانت الديانة اليهودية المتمثلة في الأحبار هي المتحالفة. هل كانت روما مضطرة وهي القوة العظمى العالمية؟ إذا ما رصدنا هذا التحالف على ضوء نظرية فوكو نقول: إن السلطة تهدف إلى التحكم في العلم والمعرفة واحتوائهما من أجل توظيفهما لأغراضها. هذه المعرفة تتمثل هنا في الديانة اليهودية التي حملت لواء رسالة التوحيد السماوية منذ موسى، كأقدم إشعاع روحي لها كلمتها في شعوب الشرق. لكن تحالف روما مع المسيحية بعد اليهودية جاء بعد ثلاثة قرون بقيادة قسطنطين. ليس حباً للمسيحية حسب النقاد بل عندما أحست روما باهتزاز أركانها فاضطر إلى جعل الدين دين الدولة الرسمي ليلملم شعثها، الأمر الذي اقتضى ملاحقة الوثنيين والغير المسيحيين بإحراق معابدهم وتحويلها إلى كنائس. يتأسف كثير من اللاهوتيين الغربيين على وقوع ذلك المزج الذي اقتضى إسحاق المخالف لدين الدولة الرسمي. قد يركز البعض على استنتاج عدم صحة هذه القصة التي أوردناها هنا، لكون الإنجيل محرفاً لقول الله تعالى: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا. فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (البقرة 79). فالآية ليست على عمومها. فهي عام مخصوص بغيرها من مواقف أخرى متظافرة، كإقرارالإسلام للديانتين اليهودية والمسيحية والتعهد بحمايتهما وتوفير الحرية لأتباعهما أديرتها وبيعها وكنائسها. كما يعهد بحماية أي ملة أو نحلة في إطار الدفاع عن حرية الأفراد والجماعات. هذا عندما ننطلق من المفهموم الكلي لا الجزئي للإسلام في شقه الحضاري. لأن النص الواحد أو الإثنين لا يشكل الحكم الشرعي. فالتحريف نسبي. وبقطع النظر عن صحتها فإننا نستطيع أن نسوق من القرآن والحديث الصحيح ما يعزز هذا النص ليرفعه إلى درجة الصحيح لغيره. فالديانات الأخرى أمر واقع يعيش الوطن العربي أزمة الوعي به. لتواجد ثغرات دستورية تضبط هذا المجال. ففي شخص هذا النبي رأت الطبقة المسحوقة أسلوباً للدين يحتضنهم ويرحمهم ويعترف بهم ويفتح لهم باب الأمل، غير الزجر والهجر ووصْمِهم بالمخطئين الآثمين المطرودين من ملكوت الله. بل أصبحوا ضحايا لدين انسجم مع فلسفة المادة لأن الصدوقيين تبنوا فلسفة الإبيقورية التي تنكر البعث وخلود الروح، وتختزل السعادة في المتعة المادية الأرضية. بهذا فقدت الديانية اليهودية الدفقة الروحية التي سيركز عليها عيسى عليه السلام ختاماً لم يكن تدوين العلوم الإسلامية إبان عصر التدوين من أجل حفظها من الضياع. كان هذا الهدف حاضراً بنسبة معينة لتبقى النسبة الأكبر حضوراً تكمن في السؤال الخطير: ماذا دُون وماذا غيب عن التدوين؟ ولماذا غيب ما اقتضت السياسة يومئذ تغييبه؟ كان التدوين في حقيقته صياغة للنهج الذي تم اختياره ليشكل العقل العربي. وهو نهج تجلت فيه ثغرات لم تزل شاغرة. نزعم أن أبرز ما غيب عن التدوين هو ما يمثل روح الشريعة التي هي الرحمة والحرية والبعد الأخلاقي الذي يتمحور على مركزية الإنسان من حيث هو إنسان. فترتب عن ذلك التغييب أم الأزمات التي باتت تولد من جديد في كل مرحلة. حتى كادت تمتلكنا القناعة اليوم من جراء الحراك الشعبي أننا لا نصلح للحرية. ألاً ترى اقتتال الإخوة المتدينين أنفسهم؟ فبعد رحيل الديكتاتور نتوقع توسع دائرة الإقتتال حسب توسع اختلاف الفكر لأن الحوار عندنا يتم بالدبابات بدل الكلمات. حيث لا يرحم المنادون بتطبيق الشريعة حتى إخوانهم ممن خالفهم في فروع الدين، كيف سيرحمون غداً من ضفروا به ممن لا يؤمن بالدين أصلا. إن قتل المبتدع أوجب من قتل العدو الخارجي حسب أدبيات الكثير. والبدعة توسعت دائرتها إلى أبعد حدود. أختُزل الإسلام اليوم في تطبيق الشريعة واختزلت الشريعة في إقامة الحدود. وما بعث الرسول رحمة للمسلمين الذين آمنوا به فحسب بل رحمة للعالمين. حيث يلخص الله رسالته في الرحمة. عندما تنقلب تعاليم الدين إلى ضدها تتعين قراءتها من جديد. أو يتحول الدين من عنصر التآلف إلى سبب الهجر واختقار الغير المتدينين بل التصفية الجسدية للمخالف، وأكل الأكباد بالتكبير. أو عندما يتحول الدين قلعة يحتمي بها المستبدون. والجدير بالذكر أن ليس في شريعة الإسلام دليل قطعي الدلالة قطعي الثبوث على الرجم. فما أنيط به حكم الرجم في الإسلام لا أساس له. حيث يُدفن الإنسان حياً في التراث نصفه الأسفل ثم يرجم حتى الموت والناس ينظرون. لست إدري هل يقبل الذوق السليم هذا الحكم؟ وإلا من كان منكم بلا خطئية فليرمها أولا بحجر. [email protected]