يتبين لنا مع مرور الزمن أن الشعوب العربية مزاجية جدا . بل إنها تعاني أحيانا من تناقض عجيب ، فمن " متلازمة ستوكهولم " ، التي يتعاطف من خلالها الضحية مع الجلاد تماما مثلما يقع هذه الأيام في مصر الشقيقة ، إلى السكيزوفرينيا أو الفصام المؤدي الخلط بين الأحداث والوقائع وفصلها عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية - الممهدة لها أو الناتجة عنها - فتبعدها عن رؤية الواقع بوضوح .. مما يتسبب في اضطرابات نفسية وفكرية و وسلوكية تنعكس على المجتمع الذي يعج بالتناقضات ... إن العاطفة وحدها لا تكفي لبناء مواقف أو اتخاذ قرارات . بل أن العاطفة قد تقودنا إلى إصدار أحكام خاطئة تحت حماسة الاندفاع وهستيريا الهيجان ، فثمة فرق بين ما نريده أن يكون وما ينبغي - بحكم الزمان و المكان - أن يكون ... ****** ترى أي عقل هذا الذي يصف المرأة المنقبة بالمنغلقة و المتزمتة و المتخلفة في الوقت الذي يصف فيه السافرة المتبرجة بالحداثية والمتحررة ؟ أليست تلك المتحجبة أو المنقبة امرأة كغيرها من النساء تمتلك حقوقا كونية غير قابلة للتجزيء كما يعبرون عن ذلك في بياناتهم و مواثيقهم ؟ الم يكن حريا بالجمعيات النسائية اللواتي يدافعن عن حرية النساء أن يدافعن عن حرية المتحجبة في الإرادة و الاختيار ؟ ثم من يحدد المعايير لاتهام هذه بالتخلف وتلك "بالعلمانية" والتنور ؟ الم يبدأ الإنسان حياته عاريا يواري سوأته بأوراق الشجر ثم تقدم إلى صنع لباس يقيه شر البرد و جحيم الحرارة ؟ ألا يعتبر العراة بهذا المنطق أكثر سلفية من السلفيين وأكثر رجعية من الشعوب البدائية ؟ بأي منطق ندين هذا نبرئ ذاك ؟ أي عقل هذا الذي ينكر فتاوى الأزهر جملة وتفصيلا على اعتبار أن هذه المؤسسة الدينية رمز من رموز التخلف و البلطجة والمخزنية ، غارقة في الجمود والتخلف ، ظلامية أكثر من سواد الليل ، مؤسسة رسمية تابعة الدولة ، تهتف باسم توجه أربابها فتحلل و تحرم حسب هواهم .. وبالتالي لا تمثل إلا البلاط الذي تنطق باسمه .. وتمارس ما يسميه محمود إسماعيل صاحب "المنهج التاريخي المادي" المبني على العقيدة الماركسية "بالديكتاتورية الدينية" .. وفي المقابل يعود - نفس العقل - فيأخذ من المؤسسة ، التي كال لها أصناف النعوت القدحية ، رأي ما هو بفتوى ولا موقف عن عدم فرضية الحجاب ، كما انه يقبل منها خرجتها الأخيرة الداعمة للانقلاب العسكري على الشرعية في مصر والصادر عن اكليروس هذه المؤسسة الدينية كما يسمونه ( شيخ الأزهر ) .. ؟؟؟ إذا كان الرفض مطلقا فمن الذي نسخه لما صدر من الأزهر ؟ الم يكن حريا به أن يرفض كل ما يأتي من هذه المؤسسة ؟ أي عقل هذا الذي يحرم هذا ثم يعود ليستحله في نفس الوقت ؟ وعلى أي منطق ينبني ؟ ... أي عقل هذا الذي يستنكر نهاية القدافي الدراماتيكية و يتعاطف معه مشفقا عليه مما لاقاه من الثوار الهائجين الذين تلاعبوا به كما يتلاعب القط بالفأر ، بعد أن أخرجوه ذليلا من غار ، قبل أن يمثلوا بجثته انتقاما مما لاقوه منه من ظلم وتعذيب وتقتيل ؟ الم يتقزز هؤلاء من هذا الفعل واعتبروه مخالفا للإنسانية وحقوق الإنسان وتحدثوا عن تقديمه للمحاكمة محليا أو دوليا على اعتبار أن للطاغية في سجله من الجرائم ما يكفي لإدانته ؟ الم يطالبوا بمتابعة الثوار الذين قتلوه بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية ومخالفة قوانين الحرب والأسرى ؟ ثم الم ينكر نفس الأشخاص - في ذات الوقت - الحكم على مبارك بالمؤبد على اعتبار انه حكم مخفف وكان من الجدير بهم أن يحكموا عليه بالإعدام ..؟ ما الفرق بين هذا وذاك ؟ الم تكن البراءة تنتظر الأول لو تم تقديمه للمحاكمة مثلا ؟ الم يكن مصير الثاني بأسوأ من مصير الأول لو سقط في قبضة الشعب ؟؟ ثم ما الفرق بين القذافي ومبارك ؟ الم يكونا طاغيتان قاتلان سافكان للدماء ؟ لماذا أشفقوا على الأول ولم يشفقوا على الثاني ؟ هل هناك عقوبة أخرى بين السجن المؤبد والإعدام ؟ و أي عقل هذا الذي يستنكر على رئيس حكومة ( عبد الإله بن كيران ) جهله بالبرتوكولات ويتهمه بالتسبب في أزمة دبلوماسية مع بلجيكا لأنه لم يحسن استقبال امرأة في الحكومة البلجيكية .. فاعتبر البعض أن في الأمر اهانة ، وقال آخرون انه إساءة إلى بلد بأكمله ، بينما تحدث آخرون عن كون هذا السلوك لم يكن عفويا وإنما كان مقصودا ، لان الوزير الملتحي له مواقف معادية للمرأة لأنه ينتمي إلى حزب إسلامي "متشدد" ، وصب البعض جام غضبهم عليه طالبين منه الاعتذار لبلجيكا عن هذه الإساءة قبل أن تقدم بلجيكا على سحب سفيرها وطرد المهاجرين المغاربة من بلدها ..؟ الم يسخر الكثيرون من الرئيس و أشفق عليه البعض لأنه - "عروبي" - قادم من وسط لم يعتد على الأضواء الكاميرات ؟ ... و في مقابل ذلك انبرى نفس المنتقدين - لجهل رئيس الحكومة المغربية - بالتصفيق لفرنسوا هولاند لأنه بدا كالبدوي - الذي نزل من رأس الجبل - في حفل بسبب جهله لبعض البرتوكولات في دولة تعلم أفرادها في المدارس فنون " الاتيكيت " و ضوابط البروتوكولات حتى في ابسط الأشياء ومنها تناول الطعام و طريقة اخذ الفرشاة ..و عبروا عن سرورهم بوصول واحد من " أبناء الشعب" إلى السلطة - رغم أن أبناء الشعب هم الذين حكموا فرنسا منذ نهاية عصر الإمبراطوريات واندحار الملكية - على اعتبا ر انه لم يتعود بعد على البرتوكول ... أي عقل هذا الذي يستنكر جهل بن كيران بالرسميات و يعتبرها فضيحة فيضع لثاما على وجهه خجلا ، ثم يصف جهل هولاند بالتواضع وعفوية البداية ومع الوقت سيصبح متمرسا في هذه الأساليب ؟؟ أي عقل هذا الذي يستنكر هذا ويصفق على ذاك ؟ أي عقل هذا الذي ينبهر بوصول وزير فرنسي إلى مقر عمله على متن دراجة هوائية بينما يعتبر بفعلا مماثلا في المغرب شعبوية .. ؟؟ ****** إن مزاجية العقل العربي لا تقف عند حدود المواقف السياسية أو الإيديولوجية بل تتعداها إلى الممارسات اليومية من سلوكات تعكس غياب الموضوعية والحكمة والتعقل أو الاتزان و التريث : * ففي مجال الرياضة مثلا نفتخر بمنتخباتنا لأنها تحقق نتائج ايجابية وبمجرد سقوطها في هفوة أو كبوة تتعرض لسيل من الانتقادات و الشتم ... كم أذهلني جمهور المنتخب الايرلندي الذي كان فريقه منهزما بأربعة أهداف للاشيء ومع ذلك لازال يواصل تشجيعه من خلال أغاني حماسية وكأني بمنتخبه هو الفائز في المباراة . وفي أوطاننا يتعرض اللاعبون للسباب و المنشات للتخريب إذا ما اخطأ الفريق رغم معرفتنا المسبقة بعجزه ومحدودية قدراته .. * ومن مظاهر المزاجية كذلك حديثنا عن النظافة واتهامنا للمجالس الجماعية بعدم أداء واجبها ثم احتقارنا لعامل النظافة - الذي يسمى بالمهندس في الدول التي تحترم نفسها - تحت مبرر انه لا يتقن مهامه ، و في أثناء حديثنا لا نتورع عن إلقاء مخلفاتنا ونفاياتنا من نافذة السيارة في الشارع أو في زاوية من الشارع أو بقعة غير مبنية و أمام أبواب الجيران حتى وان كنا على بعد خطوتين من حاوية الأزبال .. * كما أننا نتذمر إلى درجة الانفعال العصبي من تأخر آخرين علينا في مواعيدهم ، فنصب غضبنا عليهم لأننا لا نملك صبرا أو طاقة للانتظار ، وهذا حق لا عيب فيه من دون شك .. لكننا لا نخجل ونحن نمارس نفس السلوك في التأخر عن الآخرين في مواعيد مشابهة وتحت أعذار أو مبررات واهية نغطي عليها بتسميتها " بالمواعيد المغربية " ..فهل هذا السلوك حلال علينا حرام على الآخرين ؟ و هل نمتلك مبررات أقوى من أعذارهم ؟ ****** العقل العربي (*) مزاجي متقلب إلى درجة اللخبطة ، يستعجل الأمور بشكل غريب ابعد ما يكون عن الواقعية ، ينقلب في رأيه وانطباعاته بين عشية وضحاها فبين موقف وأخر شعرة رقيقة ما تلبث أن تتمزق بمجرد تحويل النظر لتغير الموقف بشكل جذري .. وقد صدق القول أن استطلاعات الرأي في أوطاننا لا تعبر - أحيانا - بشكل دقيق عن الرأي العام للشارع العربي .. فنتيجة استطلاع تجريه اليوم يمكن أن يعطي عكس ما تتوقعه غذا .. فعلى الرغم من أن هامش الخطأ الناتج عن استطلاع رأي مأخوذ من عينة تتكون من ألف آو ألفي فرد يمثلون المجتمع لا يجب أن تتعدى 3 % إيجابا أو سلبا كقاعدة في علم الإحصاء ، إلا انه ثبت أن هامش الخطأ في الدول العربية في بعض الأحيان يصل ضعف هذه النسبة في تناقض غريب ... ترتبط مزاجية العقل العربي بالتخلف الاجتماعي الذي نعيشه ومن بين مظاهره الانبهار بالغرب " المتحضر" . فكل ما يصدر منا مثار نقد وتشكيك ، أما سلوك الآخرين فهو الصحيح وهذه إحدى حالات الغثائية التي تحدث عنها ديننا الحنيف والتبعية للأخر حتى إذا دخل جحر ضب دخلناه معه .. وإذا كانت الأمية عاملا يزكي مزاجية العقل العربي وانطباعيته، فليست وحدها العامل المسؤول عن التناقضات الاجتماعية التي نعيشها فحتى الفئة المثقفة و الصحافة تتخبط في مزاجية اكبر من هذه تمارس بوعي أو بدون وعي تنطلق من خلفيات إيديولوجية مشحونة بعاطفة مبالغ فيها أو أمراض نفسية ناتجة عن القهر الممارس علينا من قبل الغرب منذ عصر الغزو الامبريالي مرورا بالتدجين الذي تعرضنا له إبان الفترة الاستعمارية وصولا إلى الانبهار الذي طبع نفوس عامتنا تجاه تقدم الغرب التكنولوجي و تقليده في كل ما يأتي منه على اعتبار أن التقدم كل لا يتجزأ لا فرق فيه بين التكنولوجيا والأخلاق ناهيك عن ما تمارسه عليه وسائل الإعلام من تزكية هذه التبعية المقيتة التي تخلق تناقضات سيكوسوسيولوجية تزيد من شرذمة الجسد العربي ..إنها تماما عقدة النقص التي تربت فينا وتوارثناها جيلا عن جيل فمتى يمكن أن نتخلص منها ؟ أين عقولنا من الذل الذي تجره علينا العاطفة ؟ https://www.facebook.com/abderrahim.hachi?ref=tn_tnmn