إذا كان الكندي سعى إلى التوفيق بين الحكمة و الشريعة، أي بين الفلسفة و الدين، بزعمه أنهما يتحدان في المرمى و الغرض المتمثلين عنده في الحقيقة، مع تأكيده على تفوق التنزيل على الفلسفة في حال تعارضهما. ذريعته في ذلك أن التنزيل يتضمن الحكمة الإلهية التي لا قبل للعقل المجرد البشري بها، فإن الفلاسفة اللاحقين في الإسلام و خاصة الأفلاطونيين المحدثين مثل ابن سينا (توفي في 1037م) و الفارابي (توفي في 950 م) حاولوا بدورهم التوفيق بين الحقيقة الدينية و الحقيقة الفلسفية. إلا أنهم اختلفوا مع الكندي في تفوق الدين. و رأوا أن الفلسفة هي المتفوقة على الدين في حال تعارضهما حول القضايا الكبرى. أما ابن رشد ( توفي في 1198م) فقد سلك طريقاً مختلفاً عن كل هؤلاء الفلاسفة واعتقد بالتكافؤ بين الحكمة و الشريعة. غير أن هذا التكافؤ يظل بعيد المنال، لذلك لجأ إلى مسألة الفصل بين الفلسفة و الدين كنتيجة منطقية لبديهية التكافؤ هذه. رغم أن إخوان الصفا وخلان الوفا ( حركة فكرية سرية نبه ذكرها في القرن العاشر الميلادي) كانوا السباقين إلى الترويج لمسألة «وحْدة الحقيقة في شتى مظاهرها» ذات جذور فلسفية تعود إلى الأفلاطونية المحدثة التي راجَتْ خلال القرون الميلادية الأولى في الاسكندرية قبل الإسلام. و عرفت أيضا حظا من الذكر عند كل من أبي بكر الرازي الفيلسوف و ابن الراوندي ( توفي في 910م) و اتخذها كلاهما واجهة لِدرء المنغصات و إسكات الخصوم الذين يتهموهما بالمروق و إحداث البدعة. مكنهما ذلك من إطلاق عنان العقل البشري الصرف في التعاطي مع القضايا الشائكة ذات الصلة بالمسائل العقائدية فأشفيا غليلهما في العقل. فإن ابن رشد ( توفي في 1198م) تفوق كل التفوق في جعلها ركيزة لفكره الديني من خلال مسلمة تكافؤ العقل و الوحي. فرأى هذا المفكر العربي المسلم؛ الذي يقف على تُخُوم التعالق بين علم الكلام و الفلسفة؛ أن وحدة الحقيقة الدينية و الحقيقة الفلسفية مسألة مفروغ منها. فانتهى إلى الفصل بين الدين و الفلسفة الذي ميزه عن سابقيه كما ميزه عن لاحقيه. لذلك كتب في الفقه بأسلوب فقهي صرف، و كتب في الفلسفة بأسلوب فلسفي لا مراء في نكرانه. إذْ أنه ظلّ وفيا كل الوفاء للمذهب الأرسطوطاليسي فلم ينفصل قط عن أرسطو في كل القضايا سِيَّما في قضية أزلية العالم، كما ظل في نفس الوقت مَالِكي المذهب في الفقه. لذلك حقَّ القول أن ابن رشد ظل فيلسوفا أصيلا كما أنه ظل مسلماً أصيلاً حتى آخر رمق في حياته.استطاع ابن رشد أن يحدث قطيعة جلية مع الفلسفة الإشراقية، و خاصة مع الفلسفة السينوية المطبوعة بالغنوصية، بالعودة إلى أريسطو الحقيقي و إضافة مجهود فكري مشهود. ليرتقي بالتفكيرين الفلسفي و الديني إلى درجة عالية من العقلانية من خلال بديهية التكافؤ بين الحقيقة الدينية و الحقيقة الفلسفية. فانتهى إلى الفصل بينهما، بذلك رفض طريقة دمج الفلسفة في الدين التي تبنّاها كل من الفارابي و ابن سينا و الفلاسفة الذين ساروا في طريقهما المتعلق بتفوق الفلسفة على الدين لأنهم "يحكمون الفلسفة في الدين، و يقيدون العلم بالفهم الذي يكونونه لأنفسهم عن الدين، فأخضعوا العلم لمستوى فهمهم و لم يطوروا مستوى فهمهم مع العلم " ) محمد ع. الجابري ) كما أنه رفض طريقة المتكلمين في التوفيق بين العقل و النقل، لأنهم " كانوا يُحكمون عقلهم التجريبي التجزيئي في الدين. و يحكمون الفهم الذي يكونونه لأنفسهم عن الدين... فشوهوا الواقع و ضيقوا على العقل " (محمد ع. الجابري ) . و كان فكر ابن رشد يتضمن بديلا عن كل هذا الخلط بين الوحي و العقل أو بين الدين و الفلسفة من خلال مفهوم الفصل الذي أتى به، " و لقد دعا ابن رشد إلى فهم الدين داخل الدين و بواسطة معطياته. و فهم الفلسفة و العلم داخل مجالهما و بواسطة مقدماتهما و مقاصدهما" ( محمد ع. الجابري ).و في هذا الفصل تتجلى عبقرية هذا المفكر العربي الفذ.يقسم ابن رشد الخطاب القرآني إلى ثلاثة أنواع من الأقيسة: البرهاني، و الجدلي، و الخطابي.و فيهما، عنده، تتجلى الحكمة الإلهية التي تستطيع أن تخاطب جميع فئات الناس حسب قدراتهم الفكرية و استعدادهم العلمي.فالقياس الخطابي موجه للعامة من الناس لما فيه من ترغيب في الفوز بالنعيم ( الجنة) و ترهيب من أجل الخَلاصِ من العذاب المقيم ( النار). لذلك وجب على العامة من الناس، في عرفه، الأخذ بالظاهر من الآيات دون محاولة أي غوص في ما وراء المعاني الذي قد يحرم الفرد العادي من الفوز في الدارين. أما القياس الجدلي فهو موجه إلى المتكلمين و هو من شأنهم غير أنه ليست مخولة إليهم مسألة التأويل بالأحرى فرضها على الجمهور. أما الخطاب البرهاني فهو موجه إلى الفلاسفة دون سواهم. و لذلك فهؤلاء وحدهم الأحق بمسألة التأويل، ذريعته في ذلك أن الفلاسفة هم رواد النظر العقلي غير المنازعين. لذلك خصهم الخطاب القرآني ، في نظره، بالآية الكريمة التالية: «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات و أخر متشابهات (...) و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم (...) » . يستنتج ابن رشد من هذه الآية الكريمة، بشكل انتقائي جداً، جُلَّ النتائج المنطقية التي استخلصها في باب التأويل. و أيضا، حول مسألة الفصل، ليجعل من التأويل ملكةٌ ينفرد بها الفلاسفة دون سواهم لما كان الخطاب القرآني يصفهم ب « الراسخون في العلم» في نظره. و يجعل من مسألة الفصل ركيزة منهجية في فكره، بل عقيدة تشكل فهمه الخاص للإيمان. و قد أورد ابن رشد مجموعة من الشروط للجوء إلى التأويل. كما وجه نقداً لاذعا لخصومه من المتكلمين سواءً أكانوا معتزلة أم أشاعرة لفرضهم تأويلاتهم « الحادثة و المبتدعة» ، في نظره، على الجمهور. إذ إن التأويل ليس من اختصاصهم كما مرَّ. سيتضح هذا النقد اللاذع، على الخصوص، في مسألة حدوث العالم التي جعلها المتكلمون مقدمة منطقية كبديهة في تدليلهم على وجود الباري. معتقداً بدوره بأزلية العالم الأرسطية التي استطاع من خلالها أن يبين قدراته المنطقية و العقلية من حيث أنه استطاع أن يفكر في إطار المتاح للإنسانية جمعاء في عهده ليخلص إلى خلاصات غاية في الذكاء والحنكة والحكمة، إن على المستوى الديني والمتمثل في ردوده عن المتكلمين الواردة في مؤلفاته الدينية. و إن على المستوى الفلسفي المتمثل في شروحه عن أرسطو. وذلك ما جذب إليه كبار المفكرين اليهود مثل ابن ميمون والنصارى مثل طوما الاكويني. فذاع صيته وصيت أفكاره في الآفاق إلى أن اعتبرت ملهمة فكر عصر النهضة الأوربية الكاسحة لكل الميادين ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي. لكنه في الآن نفسه لم يقص كلية نظرية الحدوث. إذ أنه لما كان مسلما أصيلا فوجب عليه الاعتقاد بخلق العالم في الزمان. فكيف استطاع هذا المفكر الفذ أن يجمع ما بين هاذين المتناقضين؟ يرى ابن رشد في سياق دفاعه عن الفلاسفة، أن هؤلاء لم يَصفُوا العالم بالقِدم ما دام القديم ( أي الأزلي) لا فاعل له. بل من حيث هو في إحداث دائم و من مواد أزلية و ليس من لا شيء. و دَعَمَ رأيه هذا بطائفة من الآيات الكريمة. ك « .. هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام و كان عرشه على الماء ...» تفترض هذه الآية في نظره أزلية الماء و العرش و الزمان. و كذلك الآية «ثم استوى إلى السماء وهي دخان» تفترض أيضا قدم مادة الدخان. ثم يقول بأنه ليس هناك آية وحيدة في القرآن الكريم تنص على أنَّ الله وجد مع العدم المحْض. و ذلك ما دعم نظرية الإحداث الدائم الذي أخذ به و وجدت لها صدى واسعاً في الأوساط الفكرية اليهودية و المسيحية . لذلك وصف العالم بأنه «موجود لم يكن من شيء و لا تقدمه زمان». يبدو من خلال هذه القولة أن ابن رشد وقع في تناقض بين الخلق من لا شيء و الأزلية. لكن سرعان ما يُدرك الدارس، أن ذلك ليس إلا تبسيطاً للأزلية. إذ أنها ( العبارة) تتضمن المعنيين معاً. فالزمان لما كان عدداً لحركة الأجرام و النجوم، فلا وجود له دون وجود العالم. كما أن هذا العالم هو في إحداث دائم أي: في خلق دائم. بذلك استطاع ابن رشد أن يحل معضلة من آرق المعضلات الفلسفية هي نظرية أزلية العالم في مقابل الحدوث ( أو الخلق). لينتصر ابن رشد على المستوى الجدلي للأزلية. غير أنه لم ينفصل قطٌّ عن أرسطو على المستوى الفلسفي بما فيه أزلية العالم الصريحة. لذلك شك كثير من الدارسين في إيمان ابن رشد و اعتبروا ذلك إحدى التخوم النهائية للتاريخ. بينما اعتقاده بمسألة الخلق الدائم تبعده عن كل هذه الشبهات خاصة إذا استحضرنا أ ن الرجل بقي وفيا لدينه يؤدي الصلوات الخمس إلى آخر يوم من حياته رغم أنه قضى آخر أيامه منفيا في قرية يهودية بالأندلس. أما في العصر الحديث فمسألة أزلية العالم أصبحت من التراث الأرسطوطاليسيا غير .إذ أصبح من العبث الحديث عنها أو الأخذ بها في زمن يشهد ظهور نظريات علمية تثبت العكس. كنظرية التطور، و نظرية الزمن الصفر، و الانفجار الأعظم و نشأة الكون. " إنه خلقٌ جديد و نشأة مستأنفة وعالم محدث" بعبارة العلامة عبد الرحمن ابن خلدون