منتشياً بإنجازاته التقدمية الفريدة التي لم يسبقه إليها الأوائل، وقف الرئيس الأمريكي جو بايدن أمام الكونغرس لإلقاء خطاب المائة يوم وخلفه سيدتان لأول مرة في التاريخ الأمريكي: رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي ونائبته ورئيسة مجلس الشيوخ كمالا هاريس. ورغم غياب المظاهر الاحتفالية والدافئة التي تسود الكونغرس عادة في مثل هذه المناسبات وفراغ أكثر من نصف المقاعد حرصاً على التباعد الاجتماعي، نجح بايدن في تقديم خطاب طموح في جلسته المشتركة الأولى أمام الكونغرس..صحيح أنه ورث وضعاً متأزماً شبيها بذلك الذي ورثه فرانكلين روزفلت عقب الكساد الكبير بداية ثلاثينيات القرن الماضي، لكنه بدا مع ذلك متفائلاً جداً بالمستقبل وزف إلى الشعب الأمريكي أنه لم يأتهم فقط بجرعات وافرة من لقاح كورونا، بل أيضاً بجرعات أوفر من الأمل بمستقبل ألمع. رِهان خاسر أسهب بايدن في الحديث عما يهم المواطن الأمريكي في العمل والصحة والتعليم والعائلة والأمن والضرائب والبنية التحتية، كما خاطب الخصوم الخارجين بالقول إن القادة المستبدين الذين يراهنون على تآكل أو انهيار الديمقراطية الأمريكية يتشبثون برهان خاسر. وبقي الثابت الأبرز خلال استعراضه ملامح السياسة الخارجية الأمريكية في عهده هو تحدي الصين، واعتبارها أشرس منافس يسعى بقوة إلى إزاحة أمريكا من عرش ريادة العالم. وإذا كانت خطط بايدن تبدو في ظاهرها واعدة بسبب تركيزها على مساعدة القطاع الأعرض من الأمريكيين، وخصوصاً العمال والكادحين، وزيادة الضرائب على الأكثر غنى وتوسيع نطاق مجانية التعليم وتحسين الخدمات الصحية وتجديد البنية التحتية المهترئة، فإن هذا الاندفاع الهائل وغير المسبوق في الإنفاق الحكومي التريليوني محفوف بالمخاطر، أبرزها زيادة التضخم ومفاقمة العجز وزيادة مديونية البلاد؛ ناهيك عن أن جل الخطط التي وضعها بايدن تحتاج موافقة الكونغرس، وهو أمر شبه مستحيل في ضوء عدم وجود غالبية ديمقراطية ساحقة فيه. ورِثنا أزمة وعُدنا لنبقى! استهل بايدن حديثه باستحضار الوضع المتأزم الذي ورثه من سلفه ترامب بسبب سوء إدارة جائحة كورونا، معتزاً بقدرته على تجاوز التوقعات في العهد الذي قطعه على الأمريكيين بتطعيم 100 مليون شخص، وإذا به يوصل اللقاح إلى نحو 220 مليون شخص قبل متم 100 يوم، بل ويتيح اللقاح حالياً لكل من يبلغ عمره 16 عاماً فما فوق. استخدم بايدن نبرته الأبوية المتعاطفة حين الحديث عن كل ما ألمَّ بالأمة الأمريكية من مآس، مثل فقدان مليوني امرأة وظائفهن خلال جائحة كورونا، ومقتل الأمريكيين غير البيض على يد الشرطة أو المؤمنين بتفوق العرق الأبيض ومقتل الجنود خارج الحدود؛ وفي مواضع أخرى، اتسمت نبرته بالطمأنة تارة والتحفيز تارة، وبالتحدي عند مخاطبته الخصوم الخارجيين. ووعد بايدن حلفاءه عبر العالم بقيادة العالم مجدداً، وبأن أمريكا عادت لتبقى! لكن الواقع يظهر أن هذا وعد لا يمكنه ضمانه بسبب تغير أجندة أمريكا في سياستها الخارجية كل أربع سنوات مع كل رئيس جديد، وبسبب انتخابات التجديد النصفي كل عامين التي عادة ما تُقيد يد الرئيس الأمريكي أكثر مما تطلقها. ولذلك تبقى عبارة "عدنا لنبقى" جوفاء وغير واقعية. ولا أدل على ذلك من أن كل رئيس يأتي للبيت الأبيض يبدأ ولايته بإلغاء عدد من قرارات سلفه، ما يجعل مسألة الاستمرارية التراكمية شبه مستحيلة في النموذج الديمقراطي الأمريكي، خصوصاً في السياسة الخارجية. ومن ثم فإن قلق حلفاء واشنطن وشركاءها قلق مشروع. ولعل أقرب مثال يمكن استحضاره هو توقيع أوباما على اتفاق باريس المناخي والاتفاق النووي وانسحاب ترامب منهما وعودة بايدن إلى الأول وشقه طريق العودة إلى الثاني! ولا نعلم ما سيفعله خلفه في 2025؛ وبالتالي حُقَّ لحلفاء واشنطن أن يقلقوا بسبب عدم وجود آلية تضمن التزام أمريكا بعهودها مع الخارج بعد كل أربع سنوات. تعاون وردع تعهد بايدن بنهج الدبلوماسية في التعامل مع دول العالم، لكنه توعد أيضاً باستعمال الردع مع الدول المارقة مثل إيران وكوريا الشمالية. كما تحدى الصين وقال إن الوجود العسكري الأمريكي في المحيط الهادي سيستمر، ليس لخلق نزاع مع الصين، بل لتفادي وقوعه؛ كما دعا دول العالم إلى العمل معاً لمواجهة الجوائح المقبلة التي قد تضرب العالم، وإلى مكافحة التغير المناخي باعتباره معركة عالمية على كل دول العالم المشاركة فيها. وضمن ثنائية التعاون والردع، ذكَّر بايدن الرئيسَ بوتن بأن بلاده ستتحمل تبعات أي سلوكات سيئة أو تدخل في شؤون بلده والدول الحليفة، كما أكد أنه لن يلزم الصمت عند انتهاك حقوق الإنسان في أي بلد؛ وذكَّر الشامتين في بلاده خلال اقتحام مبنى الكونغرس في 6 يناير العام الماضي بأنهم واهمون ومخطئون، وبنبرة تحدٍّ أضاف: "المستبدون لا مستقبل لهم. المستقبل لأمريكا... سنبقى موحدين وأقوى". رد صيني فوري لم يتخلص بايدن من نبرته التحذيرية عند حديثه عن الصين وروسيا، بل دعا رئيس الصين الذي وصفه بأنه يتوق بشغف لقيادة العالم إلى احترام قواعد التجارة العالمية، والتوقف عن الممارسات الضارة بالعمال الأمريكيين والشركات الأمريكية، والكف عن سرقة الملكيات الفكرية والتكنولوجيا الأمريكية. كما أوضح بايدن أن بلاده لن تدخر جهداً في الدفاع عن مصالحها أمام الصين في المجالات كافة. وقد سارعت الصين للرد على خطاب بايدن ودعته إلى عدم فرض الديمقراطية الأمريكية على الآخرين. وتوقع بايدن أن السنوات العشر المقبلة ستشهد تطورات تكنولوجية أكثر من تلك التي سُجلت طوال الخمسين سنة الماضية، وأنه يتحتم من ثم على أمريكا الإقلاع مجدداً وبقوة لضمان مواصلة ريادة العالم، خصوصاً مع المنافسة الصينية الشرسة في تكنولوجيا المستقبل. إقرار بايدن بوجود فاعلين جدد كبار سيزاحمونه في الساحة العالمية جيد، لكن تفاؤله الحالم بأن القرن الحادي والعشرين سيظل قرناً أمريكياً هو أمر لا يجد ما يسنده على أرض الواقع. سرطان الإرهاب والعنف جدد بايدن التأكيد أن قراره سحب الجنود من أفغانستان نابع من إيمانه بأن الوجود العسكري الأمريكي هناك لا يجب أن يكون عابراً للأجيال، وأنه بعد 20 عاماً من محاربة الإرهاب في أفغانستان أصبح الإرهاب يستشري في العالم بأكمله مثل ورم سرطاني، ويضرب في سوريا والعراق واليمن وإفريقيا. هذا إقرار واضح من بايدن إذن بأن سياسة بلاده في أفغانستان باءت بالفشل، وعجزت عن تحقيق الشعار الذي رفعته قبل عقدين (استئصال الإرهاب). وخلافاً لسلفه دونالد ترامب الذي كان يتلكأ في استخدام كلمة "الإرهاب" في السياق الداخلي، قال بايدن إنه تجب مكافحة الإرهاب الذي يرتكبه المؤمنون بتفوق العرق الأبيض. وأسِف بايدن للمواطنين غير البيض الذين يلقون حتفهم على يد الشرطة، وطالب بإعادة الثقة بين قوات إنفاذ القانون والمواطنين؛ كما دعا الكونغرس إلى تمرير قانون الإصلاح الشرطي مع حلول ذكرى مقتل جورج فلويد الشهر المقبل، وهذا أمر غير وارد، نظراً لمعارضة الجمهوريين التشريع المقترَح بشدة، وبسبب الهامش الضيق جداً لأتباع بايدن في الكونغرس بغرفتيه. مرحباً بالمهاجرين أثنى جو بايدن على دور المهاجرين في أمريكا في مواجهة جائحة كورونا، وطالب بإيجاد حل لنحو 11 مليون مهاجر غير شرعي في بلده، كما طالب الكونغرس بتمرير قانون حماية "الحالمين"، وهم المهاجرون الذين قدِموا إلى أمريكا بشكل غير شرعي حينما كانوا قُصراً. بايدن أكد أن المهاجرين أسْدَوا خدمات جمة للأمة الأمريكية على مر تاريخها. ولا شك أن هذه مطالب ديمقراطية تقليدية، لكنها لا تحظى بدعم السواد الأعظم من الشعب الأمريكي، فملف الهجرة والحدود الجنوبية هو أحد الملفات الشائكة التي جعلت بايدن محط سخط شريحة واسعة من الأمريكيين، خصوصاً مع تدفق الآلاف من الأطفال والمهاجرين اللاتين إلى أمريكا عبر الحدود الجنوبية بمجرد فوزه على ترامب، صاحب الجدار مع المكسيك. وإذا كان تمرير مشروع قانون مساعدة الحالمين ممكنا فإن تعديل أوضاع 11 مليون مهاجر غير شرعي يبقى مهمة شاقة جداً ما لم تحدث في الكونغرس تغيرات لمصلحة الديمقراطيين خلال انتخابات التجديد النصفي في 2022، وهو أمر مستبعد. روبين هود أمريكا! أوضح بايدن أن خطته في الوظائف ستدور في فلك الطبقة الكادحة، وهو ما يفسر إشارته إلى أن 90% من مشاريع البنية التحتية تتطلب عمالاً لا يحوزون بالضرورة شهادات جامعية، كما أشار إلى أن توجه أمريكا في عهده إلى الاقتصاد الأخضر والطاقات المتجددة سيخلق وظائف كثيرة معظمها للعمال والحرفيين، وأن هؤلاء سيسهمون بشكل كبير في تحقيق شعار "اِشترِ المنتج الأمريكي". ولا شك أن رفع الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولار للساعة سيكون عنصر تحفيز للعمال الأمريكيين الذين يراهن عليهم ويغازلهم، لكن شرط أن يحظى ذلك بموافقة مجلس الشيوخ الذي يرفض تمريره إلى الآن. وفي خطته لرفع الضرائب على أغنياء أمريكا من نحو 36% إلى 39% ومطالبتهم بدفع نصيبهم العادل من الضرائب لتمويل البنية التحتية وتشبثه بعدم زيادة ضرائب من تقل عوائدهم عن 400 ألف دولار سنوياً، يبدو بايدن وكأنه روبين هود زمانه يأخذ من الأغنياء ويعطي الفقراء، يجود أكثر من الجمهوريين في مساعدة المتضررين بكورونا عبر إعانات مالية مباشرة ويوسع نطاق مجانية التعليم ليشمل مرحلة الروضة والتعليم المجتمعي؛ وهو يتجه بذلك ليصور نفسه صديق الفقراء وخصم الأغنياء الرافضين دفع ضرائب عالية، وهو ما تجلى بوضوح عند حديثه عن نحو 55 شركة جنت 400 مليار دولار العام الماضي دون دفع أي ضرائب، وكأنه نقيض سلفه ترامب الملياردير المقرب إلى نادي أغنياء أمريكا. لكن هذا يجر على بايدن انتقادات واتهامات عدة من الجمهوريين، أبرزها أن هذا النهج "الاشتراكي واليساري" لبايدن سيجلب معه الكثير من الويلات للشعب الأمريكي!. الدستور ليس مطلقاً خلال حديثه عن آفة انتشار السلاح في المجتمع الأمريكي وتسببه في قتل الكثير من الأبرياء، اعتبر بايدن العنف المسلح وباءً حقيقياً تعانيه الولاياتالمتحدة، فنحو 50 امرأة أمريكية تُقتل من قبل شريكها كل شهر، والقوانين الخاصة بحيازة السلاح تشوبها ثغرات عديدة يجب إصلاحها، داعيا الكونغرس إلى الاضطلاع بدوره وسد تلك الثغرات، وواعداً ببذل قصارى جهده للحد من عنف المسدسات. ولم يتردد بايدن في انتقاد التعديل الدستوري الثاني الذي يجعل حيازة السلاح حقاً مشروعاً للمواطن الأمريكي، قائلاً إن الدستور ليس نصاً مطلقاً، في تلميح إلى إمكانية تعديله وإصلاحه، وإن العقلانية هي البوصلة التي عليها توجيه الأمريكيين عند تطبيقه. جميل أن يدعو بايدن إلى مراجعة الدستور، فهو فعلاً نص غير مقدس وقابل للتعديل، لكن مسعاه هذا سيصطدم على الأرجح بجدار صلب بسبب عدم إمكانية تحقق ذلك دون دعم غالبية أعضاء الكونغرس، والأهم منه دعم اللوبي الجبار "الرابطة الوطنية للبنادق"، وهذا أمر يستحيل وقوعه. ولذلك يمكن اعتبار رأي بايدن هذا مجرد تسجيل موقف، أو أضغاث أحلام. التطبيب حق لم ينس بايدن استحضار أحد مَوَاطن الضعف الأمريكية البارزة، وهو نظام الرعاية الصحية الذي مازال يفشل في جعل الرعاية الصحية مجانية والتأمين الصحي شاملاً لكل الأمريكيين، على غرار الدول الغربية والأوربية. قال بايدن إن الرعاية الصحية حق وليست امتيازاً، ولكنها لم تصبح حقاً متجسداً في أرض الواقع الأمريكي، واعترف بغلاء وصفات الدواء الأمريكية وأنها تعادل ثلاثة أضعاف وصفات الدواء في الدول الأخرى، وهذا أمر اشترك فيه مع سلفه ترامب الذي كان اتخذ سلسلة قرارات لتخفيض أسعار الدواء. كما دعا بايدن إلى تسريع الخطى لإيجاد علاج للسرطان لوقف النزيف المتنامي لضحاياه، مذكراً بابنه الذي مات بسببه، ومضيفاً بأن ذلك ممكن جداً. طريق شاق يبدو أن خبرة بايدن العتيدة في الكونغرس الذي قضى فيه 36 سنة وباعه الطويل في العمل السياسي أسعفه وجعل ليلته بالكونغرس موفقة عموماً؛ صحيح أن خطابه سقط في اللغة الطنانة الرنانة والوعود الكبرى غير مضمونة التحقيق، لكنه أفلح في لغة الجسد المرافقة التي استخدمها والنبرات المتنوعة التي انتقل بينها؛ ورغم أنه أفرط في الطموح واستعرض خططاً عملاقة فيها إنفاق بتريليونات الدولارات، فإن تطبيق هذه الخطط سيكون محفوفاً بالأشواك والأسلاك الشائكة. وإذا كان سلفه فرانكلين روزفلت حقق إقلاعاً اقتصاديا حقيقياً انتشل بفضله أمريكا من براثن الكساد الكبير، فذلك يرجع أساساً لأنه كانت له الغالبية الساحقة في الكونغرس. أما بايدن فعدد أتباعه في مجلس الشيوخ مساوٍ لعدد خصومه الجمهوريين، ولا يفوق عدد أنصاره في مجلس النواب نظراءهم الجمهوريين إلا بهامش ضيق جداً! ما يجعلنا نتوقع تعرض معظم الطموحات الكبرى لبايدن للصد والعرقلة، أو دفعه في أحسن الأحوال إلى تقديم تنازلات مؤلمة تفرغ خططه من زخمها وأهدافها.