بلغت الأزمة السورية من التعقيد والتشابك ما لا يسهل وصفه، وأحاطت بمطلب الحرية الذي قامت من أجله الثورة السورية مبتدأ أمرها ما لا يحصى من الحبال تبغي خنقه، وجعله نِسْيا مَنسيا. وفي كل يوم تتسع دائرة المتدخلين في الشأن السوري، وإنما مبتغى هذا المقال أن يتوقف عند تدخل «حزب الله»السافر في دعم نظام بشار الأسد، ونقل البندقية من كتف مقاومة الكيان الصهيوني إلى كتف المساهمة بفعالية في تقتيل الشعب السوري، ساعين قدر المستطاع التوقف عند مختلف تعقيدات هذا التدخل، مستقرئين المنطق الداخلي للحزب في بنائه لهذا القرار، وباحثين عن أفضل ما ينبغي أن يتخذ من مواقف تجاهه، متجاوزين في كل ذلك الخطابة الحماسية، أو التكفير العقدي، أو التهييج الطائفي، أو تبسيط وضع بلغ من التركيب والتعقيد ما بلغ. "حزب الله" بين التقديس والتدنيس نزعم أنه لا ينبغي النظر إلى «حزب الله» نظرة مانوية تجعله خيرا مطلقا أو شرا مطلقا، قديسا أو إبليسا؛ بل تتخذ المواقف منه تبعا لما نراه خادما لقضايا الأمة لا قضايا مذهبية. لذلك استحق الثناء والدعاء والمساندة في حربه التموزية الرائعة ضد الكيان الصهيوني، وفي ملحمة تحرير الأسرى، وقبلها ترحيل العميل أنطوان لحد وقواته من جنوب لبنان. ساهم الحزب بفعالية في أن ينفض عن الأمة خشية الكيان الصهيوني، وأباد أسطورة الجيش الذي لا يقهر. ودعم الفلسطينيين في مواجهتهم للكيان الصهيوني، وحركة الجهاد الإسلامي تشهد بدعمه ودعم إيران لها في تطوير أسلحتها لمقاومة الكيان الغاصب. أصبح التحرير مع «حزب الله»وحركات المقاومة الفلسطينية مسألة وقت لا حلما مستحيلا، فكل التبجيل لأبطال السلاح من حزب الله، وحماس، والجهاد، والحركة الشعبية... نحفظ للحزب مكانته هذه دون أن ينسينا التنقيب في ملفاته التي يختلط فيها اللون الرمادي باللون الأشد سوادا، وعلى رأس هذه الملفات كون الحزب يظل من العقبات الأساسية في بناء الدولة الوطنية اللبنانية لسببين رئيسيين: * يتعلق الأول بولاء الحزب المطلق لإيران على مختلف المستويات: فعقيدته شيعية إمامية على مذهب النظام الإيراني، وولاؤه لخامنئي مرشد الجمهورية الذي يمثل نظرية ولاية الفقيه، ودعمه بالسلاح والمال والخبرة العسكرية و... يتلقاه كله من إيران. لذلك يبدو الحزب ذراعا من أذرع إيران، وتظل حروبه وقراراته خارج إرادة اللبنانيين، وخادمة للمشروع الإيراني التوسعي الذي يحلم باكتمال الهلال الشيعي. * ويتعلق الثاني باحتكار الحزب لمقدرات تسليحية نوعية، وإذا كان ماكس ويبر قد جعل احتكار السلاح والعنف من اختصاص الدولة؛ فإن «حزب الله» في لبنان يعد منافسا للدولة الوطنية اللبنانية في ذلك؛ بل متفوقا عليها. ورغم أن "نصر الله" أكد مرارا أن سلاح المقاومة لن يخطئ بوصلته، إلا أن وعده كان كاذبا، وهو يرفع السلاح في الداخل اللبناني لمرات عدة، ويهجم بهمجية على الشعب السوري وبالأخص في مدينة القصير. وقد كنت أرى سابقا صوابية حفاظ الحزب على سلاحه بسبب ضعف الدولة اللبنانية العسكري، ولكن بعد تحولات الملف السوري الدرامية، والتي كشفت الوجه الطائفي للحزب، وجب اليوم اتخاذ موقف آخر يخدم معادلة أن: لا أمان لسلاح الحزب، ولا تأمين للكيان الصهيوني. لقد كان كل الأحرار يدعمون "محور المقاومة"، والذي كانت تلعب فيه السياسة الخارجية السورية دورا طليعيا في مواجهة "محور الإذلال" الذي كان يقوده الرئيس المصري مبارك المخلوع، والذي سعى إلى خنق كل ما يهدد أمن الكيان الصهيوني. لكن بعد تحولات الربيع العربي الذي وصلت أمواجه إلى سوريا وجد الحزب نفسه أمام اختيارات صعبة، فزوال حليفه السوري الذي كان يمده بالسلاح مدا، يجعله أقرب من عنق زجاجة يحكم فيها الحصار عليه من ثلاث واجهات: الكيان الصهيوني، وقوى الداخل اللبناني التي ستستقوي عليه بعد انقطاع حبله السري، والبديل السوري الذي يتراوح بين "سلفيين قتاليين" لا يأمنهم حتى أهل السنة على أنفسهم أو قوى علمانية مدعومة من الخارج. سيناريو كالح ينتظر مستقبل الحزب، وهو ما جعله يعي أن انهيار النظام السوري يشكل انهيارا له. هذا ما شكل لب المنطق الداخلي للحزب، لذلك كان تحركه التخريبي والعدواني على أشده في القصير، يضاعف في نفخه الشيطاني ونفثه طائفية الحزب وكون أهل القصير سنة، وأنهم على الحدود مع لبنان، وأن المدينة تشكل إحدى الشرايين الأهم لمد الحزب بالسلاح. لقد سوغ الحزب لنفسه الولوغ في دماء الشعب السوري بمبررات الحفاظ على مصالحه وكيانه، وضرب المبادئ التي كان يرغي ويزبد بها زعيم الحزب على الشاشات عرض الحائط، ولعمري كيف يستفيد الحزب من استشهاد الإمام الحسين وهو ينصر طاغية تعيد ذكرى يزيد؟ وهل كانت القومة الحسينية على يزيد غير انتصار للمبادئ، فما بدل ولا غير، ولكن ترك الدرس التاريخي الملهم: أذهب شهيدا ولا أبايع يزيدا. رحم الله الإمام الحسين، ورحم الله شهداء سورية الحرية. "حزب الله" وتعدد الموازين قبل التساؤل عن المواقف التي ينبغي صياغتها تجاه الحزب، والتي تعي تداخل الفاعلين، والمواقف، وتعقيدات المنطقة، وتداخل المصالح وتشابكها وتناقضها، وجب الانتباه أن الغرب يزن موقفه من الحزب ومن الأزمة السورية على غير ميزاننا، وذلك أن: * «حزب الله» يعد العدو رقم واحد للكيان الصهيوني، وكل حلفاء الصهاينة أدرجوا الحزب المقاوم في حرب تموز في خانة التنظيمات الإرهابية، واليوم يجدها أعداء الحزب فرصة ذهبية لتحقيق الإجماع على كون الحزب حزبا إرهابيا، وتسارع دول خليجية إلى استثمار المرحلة، لتبني نفس الموقف، والترويج له في الأوساط التي تشترى مواقفها بالدولار. * الغرب سعى إلى تغذية الأزمة السورية، وعدم حسم اختياراتها، حتى تخدم السيناريوهات التي يريدها، فماذا لدينا من هذه السيناريوهات؟ هناك العمل على تمديد عمر الاقتتال الداخلي حتى تنهار الدولة وليس النظام فقط، ويصاحب هذا الانهيار عدم قيام تنظيمات مسلحة قد تزعج أمن الصهاينة. والسيناريو الثاني غير المستبعد هو التدخل العسكري الغربي ضد المثلث الإيراني/ السوري/حزب الله، وهو ما يعني حربا شاملة ليس من السهولة اتخاذ قرار مجمع حولها، وإن كان المحيط الإقليمي والعربي في غالبه مسوغا ومساندا لها، وهو إحدى تعبيرات بؤس فقهنا السياسي ورؤيتنا الاستراتيجية. والسيناريو الثالث يتمثل في التبعية لاختيارات موسكو، والتفاوض مع إبقاء الأسد ونظامه، ومنح المعارضة بعض الفتات، والأهم هو الشروط السرية التي سترافق المفاوضات من أجل الحفاظ على أمن الصهاينة في الجولان. في ظل كل هذه التعقيدات، كيف نبني مواقفنا من حزب الله؟ نزعم أنه: * لا ينبغي جعل «حزب الله» ممثلا لكل الشيعة، وهو ما ينبغي معه عدم شيطنة الشيعة بسبب أعمال يتحمل مسؤوليتها هذا التنظيم أو ذاك. * عدم الانزلاق إلى التقديس أو التدنيس، إلى منح الحزب البطولة الكاملة أو البوار التام. بل نحكم على كل مرحلة من التاريخ بما تستحق، وقد كان في سمو، وهو اليوم في أحقر مهماته. * الاعتراف بأن «حزب الله» تنظيم له تأثيراته في المنطقة، والمعارضة السورية كان الأولى لها أن تمنحه الضمانات التي يثق من خلالها أنه بسقوط حليفه الاستراتيجي لن يقع الحصار الثلاثي عليه. * الوعي بأن موقفنا من «حزب الله» يختلف منطلقا وغاية من منطلقات وغايات الأمريكيين ومن يدور في فلكهم، لذلك فالنتيجة التي يسعون لها لا ينبغي أن تكون هي نتيجتنا. وهم يسعون إلى تحين الفرص لإبادته، ونحن نعلم أن الحزب الذي جذوره تمتد إلى كل العروق الشيعية في لبنان لا يمكن أن يباد، وإن استحال إلى رماد. * يعمل الغرب على عزل "حزب الله"، وجعله من الطابوهات المحرم الاقتراب منها اليوم وغدا. ونحن نعلم مدى فداحة الجرائم التي يقدم عليها الحزب.. ورغم ذلك فاللقاء المستقبلي محتمل، أتحدث هنا بمنطق من يجاورونه والذين لم يختاروه جارا. ونتحدث أيضا بمنطق الغرب الذي يقنعنا يوميا أن السلام مع الكيان الصهيوني ممكن رغم أن كل يومياته دم في دم. لذلك وجب التعامل مع اللحظة بما ينبغي من حزم، ونغير المواقف تبعا لتغير مواقف الحزب. أما إن أفتيت بشيطنته، فقد ألزمت نفسك ومن معك الاستعاذة منه في الإقبال والإدبار، وقلت للعالمين هذا عدو لله فاتخذوه عدوا، وهذا لا يستقيم.