كثيرة ومتنوعة هي المشاريع والمبادرات والإصلاحات الهادفة إلى تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، التي تعكس بجلاء مدى اهتمام ملك البلاد محمد السادس بأدق تفاصيل عيش المواطنات والمواطنين، وانشغاله بأهم القضايا التى تشغل بالهم. حيث أنه ومنذ توليه مقاليد الحكم والمغرب يعرف سلسلة متواصلة من الأوراش التنموية، التي شكلت في شموليتها هندسة اجتماعية تضامنية، همت مختلف المجالات والقطاعات، وجعلت من مصلحة المواطن أولوية كبرى في مسار الإصلاح، مكرسة بذلك مبادئ التضامن والتعاضد والتكافل الاجتماعي. إذ بعد أن سبق له الدعوة في خطاب العرش لسنة 2018 إلى التعجيل بإعادة النظر في منظومة الحماية الاجتماعية، الموسومة بالتشتت والضعف على مستوى التغطية الصحية والنجاعة. عاد ثانية في خطابه بنفس المناسبة من عام 2020، وعلى إثر ما كشفت عنه تداعيات تفشي جائحة "كوفيد -19" ببلادنا من نقائص عديدة، خاصة في المجال الاجتماعي، ومن بينها حجم القطاع غير المهيكل وضعف شبكات الحماية الاجتماعية بالنسبة للفئات الأكثر هشاشة، لتجديد الدعوة إلى الحكومة بتشاور مع الشركاء الاجتماعيين للعمل الجاد على تعميم التغطية الاجتماعية لفائدة جميع المغاربة خلال السنوات الخمس القادمة. والشروع التدريجي في ذلك ابتداء من فاتح يناير 2021 وفق برنامج عمل مضبوط وإطار قانوني وخيارات التمويل، بما يضمن تعميما فعليا للتغطية الاجتماعية، حيث أن هذا المشروع الضخم يتطلب إصلاحا حقيقيا للأنظمة والبرامج الاجتماعية الحالية للرفع من آثارها الإيجابية على المستفيدات والمستفيدين، بدءا بالتغطية الصحية الإجبارية والتعويضات العائلية قبل توسيعه ليشمل لاحقا التقاعد والتعويض عن فقدان الشغل. فها هو الملك محمد السادس يعود في نفس الإطار ليترأس يوم الأربعاء فاتح رمضان 1442 الموافق ل(14 أبريل 2021) حفل إعطاء انطلاقة تنزيل المشروع وتوقيع الاتفاقيات الأولى المرتبطة به. وهو الورش الذي يمثل رافعة لإدماج القطاع غير المهيكل في نسيج الاقتصاد الوطني، ويستهدف في البداية الفلاحين وحرفيي ومهنيي الصناعة التقليدية والتجار والمهنيين ومقدمي الخدمات المستقلين الخاضعين لنظام المساهمة المهنية الموحدة ولنظام المقاول الذاتي أو لنظام المحاسبة، في انتظار أن تشمل الفائدة في مرحلة ثانية فئات أخرى، ويتحقق التعميم الفعلي للحماية الاجتماعية لكل المغاربة. وتعميم الحماية الاجتماعية بمثابة حلم طالما راود الكثير من الفقراء والمستضعفين، ويرى عدد من المهتمين بالشأن العام أن بلادنا تأخرت في تحقيقه على أرض الواقع. وهو الورش الذي يشكل ثورة اجتماعية ستساهم لا محالة في تحسين ظروف عيش المواطنين، والنهوض بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وصون كرامتهم وحقوقهم، وبالأخص في الظروف العصيبة التي تعرف خلالها بلادنا تقلبات اقتصادية وأزمات صحية وغيرها من الأحداث الطارئة. لذلك تم الانكباب على إعداد القانون الإطار، الذي يعتبر اللبنة الأساسية والإطار المرجعي لتنفيذ الرؤية الملكية في مجال الحماية الاجتماعية وتحديد الأهداف المرسومة سلفا، وعلى رأسها دعم القدرة الشرائية للأسر المغربية وتحقيق العدالة الاجتماعية. والمشروع بشكل عام أولوية وطنية بامتياز ومسؤولية مشتركة بين الدولة وعدد من المتدخلين، يرمي إلى تحديد المبادئ المرتبطة بإصلاح منظومة الحماية الاجتماعية في أفق الخمس سنوات المقبلة، والتزامات الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات والمقاولات العمومية والقطاع الخاص والمجتمع المدني ومختلف الهيئات والمواطنين أنفسهم. وتتمثل الأهداف المعلنة بوضوح في تعميم التأمين الإجباري الأساسي عن المرض خلال سنتي 2021/2022، وذلك بتوسيع الاستفادة من هذا التأمين، لتشمل أيضا الفئات المنخرطة في نظام المساعدة الطبية "راميد"، وفئات المهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الذين يمارسون أنشطة حرة، حيث أن هذه العملية ستمكن حوالي 22 مليون شخص من الاستفادة من هذا التأمين، الذي يغطي تكاليف العلاج والأدوية والاستشفاء، وهو ما لم يكن متوفرا من قبل. علاوة على أن المشروع يتوخى تعميم التعويضات العائلية في سنتي 2023/2024، وأن تهم المرحلة الثالثة توسيع قاعدة المنخرطين في أنظمة التقاعد سنة 2025، وستشمل كل شخص يمارس عملا ما ولا يستفيد من أي معاش... ويشار إلى أن تنزيل هذا المشروع المجتمعي يتطلب تخصيص مبلغ إجمالي سنوي يقدر ب"51" مليار درهم، منها 23 مليار درهم من الميزانية العامة، مع تعديل مجموعة من النصوص التشريعية والتنظيمية، وإطلاق رزمة من الإصلاحات الهيكلية تهم تأهيل المنظومة الصحية... أما فيما يخص مصادر التمويل، فينص مشروع القانون الإطار على آلية تقوم على الاشتراك بالنسبة للأشخاص القادرين على المساهمة، وآلية أخرى تنبني على التضامن الحر لفائدة الأشخاص غير القادرين على تحمل واجبات الاشتراك. كما سيتم توفير موارد مالية إضافية عبر آلية التضامن من ميزانية الدولة والعائدات الضريبية، والموارد المتحصلة من إصلاح نظام المقاصة والهبات والوصايا، وضبط كل هذه الموارد مجتمعة في حساب خاص محدث لهذا الغرض. عموما، إذ نثمن عاليا هذه الخطوة العملاقة في اتجاه تعميم الحماية الاجتماعية لكافة المغاربة، مع ما يستلزم من تعاون بين مختلف الجهات والمؤسسات المعنية مع الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين، فإننا نأمل أن تشكل منعطفا حاسما في تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية وضمان كرامة المواطن ودعم القدرة الشرائية لأوسع الفئات الاجتماعية. وأن يستحضر مدبرو الشأن العام جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقهم، والحرص على إنجاح هذا الورش بكل ما يلزم من حكامة وحس وطني وروح المسؤولية، من خلال تفادي أخطاء الماضي في تنفيذ عدد من المشاريع والأنظمة، ومنها تنزيل نظام المساعدة الطبية "راميد"، والسهر على مضاعفة الجهود من أجل بناء مغرب جديد، يكون فيه المواطن أساس السياسات العمومية.