تعد جائحة كورونا من أكبر الكوارث في العصر الحديث التي استأثرت باهتمام المنظمات والحكومات والإعلام والمواطنين العاديين، كبارا وصغارا، ذكورا وإناثا. لقد انتشر الوباء في كل أرجاء المعمور، وأعلنت منظمة الصحة العالمية أن العالم يواجه أسوأ أزمة صحية، وبالتالي فإن فيروس "سارس كوف 2" هو العدو المشترك للبشرية جميعها، مما يتطلب تضافر الجهود بين المنظمات الدولية والمؤسسات المالية والجمعيات الخيرية ومراكز البحث العلمي المتخصصة في علم الأوبئة. لقد أضحى هذا النهج التضامني أمراً حتمياً لا اختيارياً، خاصة أن الجائحة لم تفرق بين الدول الغنية ولا الفقيرة، ولم تميز بين معتنقي الأديان، ولم تتقيد بالحدود، ولم تعر أي اهتمام للتجهيزات العسكرية المتطورة للدول العظمى. لقد حذر المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، من أن تخزين لقاحات فيروس كورونا من جانب الدول الغنية ليس أمرا غير أخلاقي فحسب، بل سيؤدي أيضا إلى إطالة أمد الوباء، معتبرا أن "العالم على شفير فشل أخلاقي كارثي، وثمن هذا الإخفاق سندفعه بأرواح وأرزاق في الدول الأكثر فقرا". وندد غيبريسوس، في كلمة ألقاها خلال اجتماع للمجلس التنفيذي للمنظمة في جنيف، بسلوك الدول الغنية التي تطبق نهج "أنا أولا"، منتقدا مصنعي اللقاحات الذين يسعون للحصول على موافقة الهيئات الناظمة في الدول الغنية بدلا من تقديم بياناتها إلى منظمة الصحة العالمية من أجل إعطاء الضوء الأخضر لاستخدام اللقاح عالميا. لكن مع الأسف، يشهد العالم اليوم تسابقا كبيرا وتهافتا متزايدا في احتكار واقتناء اللقاحات المضادة لكوفيد-19، مما جعل قيم التضامن الإنساني في المحك. ألم يكن حريا بالأممالمتحدة التنسيق مع الدول الصناعية الكبرى ومنظمة الصحة العالمية من أجل إنشاء مجلس للأمن الصحي لتعميم الاستفادة من التلقيح، أي من الصحة باعتبار ذلك حقا من الحقوق المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ وفي ضوء التحذير الخطير الذي أعلن عنه المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: أين هي قيم الأخوة الإنسانية التي أكدت عليها الأممالمتحدة؟ ففي ظل الأزمة الأخلاقية المترتبة عن انعدام العدالة والتضامن في توزيع اللقاحات المضادة لكوفيد-19، احتفل العالم يوم 4 فبراير الجاري باليوم العالمي للأخوة الإنسانية، حيث دعا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى الالتزام "بفعل المزيد من أجل تعزيز التسامح والتفاهم والحوار الثقافي والديني". لقد أكدت الأممالمتحدة أنه تم الاحتفال باليوم الدولي للأخوة الإنسانية في سياق أسبوع الوئام العالمي بين الأديان، مما أتاح الفرصة لتسليط الضوء على المبادئ والقيم الواردة في وثيقة الأخوة الإنسانية واستكشاف أفضل الممارسات لتنفيذها بوصفها الطريق إلى المستقبل في أثناء عملية إعادة بناء العالم بشكل أفضل بعد جائحة كوفيد-19. ومن المبادئ التي وردت في وثيقة الأخوة الإنسانية، التأكيد على أن العدل القائم على الرحمة هو السبيل الواجب اتباعه للوصول إلى حياة كريمة، يحق لكل إنسان أن يحيا في كنفها. بناء عليه، أليست الدول الفقيرة والشعوب المستضعفة التي تواجه خطر كوفيد-19 بدون بنيات صحية كافية وإمكانيات طبية قوية جزء من المجتمع الدولي وتنتمي إلى البشرية وللإنسانية في مفهومها العام والشامل؟ حين قرر المجتمع الدولي تأسيس هيئة الأممالمتحدة عام 1945، تم اقتراح إنشاء منظمة الصحة العالمية، وتم الشروع في تنفيذ دستورها يوم 7 أبريل من عام 1948. ويؤكد دستور المنظمة أن التمتع بأعلى مستوى من الصحة يمكن بلوغه باعتباره أحد الحقوق الأساسية لكل إنسان. ويشمل الحق في الصحة الحصول على الرعاية الصحية المقبولة وميسورة التكلفة ذات الجودة المناسبة في التوقيت المناسب. وأكد دستور منظمة الصحة العالمية أن الحق في الصحة منصوص عليه في معاهدات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية، وفي الدساتير الوطنية في جميع أنحاء العالم. ومن بين التدابير التي يلزم اتخاذها من أجل إعمال هذا الحق في مواجهة جائحة كوفيد-19، ينص العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966) في المادة 12 على "الوقاية من الأمراض الوبائية والمتوطنة والمهنية والأمراض الأخرى وعلاجها ومكافحتها، وتهيئة ظروف من شأنها تأمين الخدمات الطبية والعناية الطبية للجميع في حالة المرض". لكن مع الأسف، وفي ظل التهافت المحموم على اللقاحات والتنافس على احتكارها، لم يتم الالتزام بما تنص عليه هذه الوثيقة الأممية، حيث أوضحت تقارير إخبارية لمنظمة الصحة العالمية أن "الدول الغنية التي يبلغ عدد سكانها 1236 مليون نسمة قد اشترت 4198 مليون جرعة لقاح، بينما البلدان متدنية الدخل التي يبلغ عدد سكانها 3500 مليون نسمة اشترت 713 مليون جرعة، أي بمعدّل ثلاث جرعات ونصف الجرعة لكل مواطن في البلدان الغنية مقابل جرعة واحدة لكل مواطن في البلدان الفقيرة" وتوجد معظم هذه الدول الفقيرة في القارة الأفريقية التي تواجه حالياً، حسب تقارير منظمة الصحة العالمية، موجة وبائية ثانية أشد وطأة بكثير من الأولى، فهي تحتاج إلى 1500 مليون جرعة لقاح لتطعيم 60 في المائة من سكانها. لكن حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، لن تتمكّن الدول الأفريقية من تطعيم أكثر من 30 في المائة من سكانها، وبالتالي فإنها لن تصل إلى المناعة الجماعية قبل عامين أو ثلاثة أعوام. لقد كان على صواب أحد خبراء منظمة الصحة العالمية حين علق على التهافت الدولي حول اللقاحات والتنافس على احتكارها قائلا "إنها حرب تجارية وجيو-سياسية مفتوحة، وهي التي تحدّد من سيبدأ بالتلقيح ومتى"، مضيفا أن الرابح والمستفيد الأكبر في هذه الأزمة هو الشركات العالمية الكبرى للأدوية التي توجد في الدول الصناعية المتقدمة. من خلال هذه المعطيات، وفي ظل غياب استراتيجية عالمية للتلقيح تحقق العدالة والمساواة والإنصاف بين جميع البشر في الاستفادة من التلقيح والحق في الصحة، فإن قيم الأخوة الإنسانية والتضامن الإنساني ومبادئ حقوق الإنسان أمام محك صعب عنوانه أزمة أخلاقية بشرية تتطلب تعبئة عالمية من المنظمات الإنسانية والحقوقية، ومؤسسات المجتمع المدني، وذوي الضمائر الحية من القادة السياسيين والأثرياء والمثقفين، للحد من هذا احتكار للقاحات وتعميم استفادة كل المجتمعات منها. ألسنا في كوكب واحد؟ وهل فيروس كورونا كان نخبويا وميز بين الأغنياء والفقراء؟