تنويه لا بد منه: أنطلق في مناقشة عدد من القضايا المصيرية بالنسبة لبلادنا، بما فيها الموضوع أدناه، من إدراك بديهي يتمثل في مسؤولية كل منا تجاه ما يطرح على الوطن من أسئلة. وأعرف بالطبع أن هناك مغاربة يخالفونني الرأي، و أعتبر احترام رأيهم المختلف، من طرفي، مسألة بديهية، يقابلها بالبداهة احترام نفس الحق الذي أملكه في الاختلاف عنهم. يزيد من يقيني بضرورة هذا النقاش الصحي أن لي في صفوف المنتسبين لفصائل الحركات المدعوة بالإسلامية صداقات حقيقية، تسمح لي بأن أطرح هذه الأسئلة وأناقشها بهدوء وروية، بعيدا عن أي نزعة تخوينية أو تحريضية أو تنقيصية أو "تعزيرية". أفضل في هذا النقاش استعمال مصطلح "إسلاموي" لا "إسلامي" لسببين: أولا لأن مصطلح 'إسلامي" نفسه لا وجود له في الأدبيات والنصوص المؤسسة للدين الاسلامي بالمعنى المراد له اليوم أي بمعنى التمثل الأمثل للدين الاسلامي والمنافحة عنه من طرف أفراد أو أحزاب أو جماعات، فمصطلح "الإسلامي" استعمل دائما كنعت للأمة (الاسلامية) والدين (الاسلامي) ولم يستعمل أبدا في تعابير مثل "مناضل إسلامي" أو "حزب إسلامي" أو "موقف إسلامي" . وثانيا لأنني، والحالة هذه،أعتبر مصطلح"إسلاموي" يعكس المنطق الذي يراد إخفاؤه بالضبط، وهو المنطق المضمرُ الذي قوامُهُ أن "الإسلامي" يمثل الاسلام كله أو أصحه وهو ما يلغي رمزيا كلمة "المسلم"، ويضع "الاسلامي" في موقع المرجعية في مقابل كل الآخرين المختلفين بل ورغما عنهم. والأمثلة أكثر من أن تحصى، ====== تظل علاقة الدين بالسياسة إحدى المعضلات الكبرى في مغرب اليوم والآراء في الموضوع معروفة على العموم. غير أنني قرأتُ خلال شهر أكتوبر الماضي افتتاحية في إحدى صحفنا اليومية تحثُّ مَنْ أسمتهم ب"إسلاميي السلطة" على الإقدام على عدد من الخطوات لا تخلو من جرأة. وقرأت مقالا في نفس الصحيفة ونفس الأسبوع يتحدث عن حتمية "التطور الاجتماعي التي تفرض "فرز حل تاريخي في علاقة الإسلام بالديمقراطية". وقد دعت الافتتاحية "إسلاميي السلطة" إلى " إيجاد حلول لعلاقة السياسة بالدين، بلا وصل كامل ولا فصل كلي. أما المقال فيدعو إلى "وضع المسافة الضرورية بين مجال الدين ومجال السياسة، لاتصل إلى درجة الفصل المطلق بينهما ولا إلى درجة التماهي والتطابق..." وقد تبدو مثل هذه الأفكار في طراوتها بديهية ومقنعة، غير أن استحضار الظروف والحيثيات التي عرفها الصراع السياسي والفكري طيلة العقود الأخيرة في بلادنا، والتي كان أحد أطرافها الاختيارُ الاسلاموي بتفريعاته، يفرض أن نقرأ منطق هاتين الدعوتين في سياقهما التاريخي. إن المطلوب، طبقا لهاتين الدعوتين المتقاربتين، هو لا أقل ولا أكثر من مراجعة جذرية في جوهر الاختيار الاسلاموي: المطلوب هو الفصل – مهما كانت درجاته - بين الدين والدولة. غير أن كل من عاش أو تتبع مخاضات الحركة الاسلاموية منذ السبعينات، يدرك جيدا المسافة السحيقة التي تفصل هاتين الدعوتين عن منطلقات التأسيس، بل عن الأسس التي انبنت عليها أي: العودة إلى تقاليد السلف الصالح، إحياء جوهر الإسلام، محاربة الإلحاد والمروق، محاربة التفسخ... الخ. وكلنا نذكر جيدا كم كانت المواقف المعبر عنها ذات حمولة نكوصية بل وعنصرية، تركزت في شعارات أصبحت سائرة في الأذهان من مثل الشعار العنصري المقيت "خيبر، خيبر يا يهود..." الخ ، أو طرح موضوع حد الردة أو إهدار الدم باسم "صحيح الدين" أو التكفير وما إلى ذلك من المواقف المبنية على العنف مهما كانت أشكاله وتجلياته، بل وبعضها لا زال راهنا رغم أنه لم تعد له حظوة لدى "إسلاميي السلطة" من قبيل "قتل الديوث" وتزويج القاصرات باسم السنة النبوية، وكلنا يتذكر الحرب التي تم شنها على "خطة إدماج المرأة في التنمية" والثمن الباهظ الذي أداه - وحيدا رافعَ الرأس - وزيرٌ مناضلٌ من طينة نادرة قي حكومة الأستاذ اليوسفي، هو الأستاذ سعيد السعدي. لقد خاضت فصائل كثر من الحركة الاسلاموية، وبتنويعات مختلفة شكلا، حربا لا هوادة فيها باسم الدين ضد "اللادينيين" و"الملاحدة" و"فلول العلمانيين" و"يهود خيبر"، واستوحت من التراث الديني العتيق كل ما يحض على العداوة والبغضاء بين الأديان، محاولة دق إسفين بين المغاربة اليهود والمغاربة المسلمين باسم النقاوة الدينية والدفاع عن الإسلام متجاهلة التاريخ المشترك للديانتين على الأرض المغربية. وسقط العديد من مناضلي اليسار – وهذا مثبت تاريخيا – بطعنات منتسبين إليها ولطخت سمعة الكثيرين بالأكاذيب... بل ويمكن القول بأن السجل التجاري للاسلامويين قد انبنى أساسا على ادعاء امتلاك النقاوة الإسلامية، ادعاء وصل إلى حد نعت المجتمع بالفجور والانحلال والوثنية، حيث لم يبق لذوي الأفهام البسيطة إلا بعض التأطير والإعداد كي يصبحوا – منتشين – قنابل بشرية تنفجر بين الأبرياء. يجب ألا ننسى السياقات، لأن المعنى لا يستقيم من دونها. وكمثال على ذلك ورغم أن أهم الاستشهادات لا تكون مبنية على أحداث معزولة، لا بأس من التذكير ببعض الوقائع الدالة. ويحضرني هنا لقاء حول "الديمقراطية والمرجعية الإسلامية" فيما أذكر شاركت فيه سنة 2002 إلى جانب عدد من وجوه المجال العمومي وعدد من الأسماء المعروفة مثل السادة سعد الدين العثماني ومحمد المرواني وفتح الله أرسلان ومصطفى المعتصم ومحمد الأمين الركالة، فكان التشدد هو الطاغي في اعتبار "المرجعية الإسلامية" أساسا جوهريا للتشريع، وكان الرفض للمرجعية الكونية بدرجات متقاربة. وأذكر أن المشارك الوحيد الذي أجاب بوضوح وبدون تردد عن سؤال مباشر قوامه "من هو مستعد ليعيش معي كمغربي في ظل نص مدني؟" هو الصديق محمد الأمين الركالة، فيما ظل الأستاذ سعد الدين العثماني على وجه الخصوص مترددا حين واجهته مباشرةً بسؤال تطبيق الحدود من قبيل قطع يد السارق، حيث اعتبر أن تطبيق الحدود يتطلب "نضج" المجتمع لتقبل ذلك (كذا) ... قد يكون الأمر، بالنسبة لبعض الشخصيات المنتسبة إلى الإسلام السياسي بالمغرب، متعلقا بمجرد قراءتها الخاصة للخلفية الأخلاقية والقيمية للدين الإسلامي، دون الاعتماد الحرفي، وهي في ذلك على صواب منهجي لا شك، كما هو الأمر بالنسبة لي شخصيا أو كما قد يكون بالنسبة لأي مواطن آخر، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد كما نعلم. لقد تعلق الأمر بالنسبة "لإسلاميي السلطة" وغيرهم كثير، بإقحام الدين في السياسة عن سبق الإصرار من أجل تحقيق كسب ووزن في ميزان القوى يؤهلهم للحكم وهو ما جرى تاريخيا بالضبط. إذن لنتفق: لقد جرى استعمال مرجعية مشتركة (الاسلام) من أجل كسبٍ خاص (أغلبية وسلطة) ومصلحة ضيقة. وارتبط هذا السلوك بالهجوم السافر على مناوئي النظرة الاسلاموية والاستئثار بالدين هجوما وصل حد السيف، والأدهى أن السلوك إياه تغطى بما نطلق عليه "مظلومية الاسلامويين" حيث استطاعوا – وهذا كسب لهم، يجب الإقرار به – الهجوم على خصومهم ونعتهم بأخطر النعوت، "ففازوا" على مستويين: استعمال الإسلام بكل المعاني والسعي إلى "حرمان" خصومهم منه، بأي معنى كان ... لقد كان إقحام الدين في السياسة إقحاما للمطلق في العرضي، للمقدس في النافل... وذلك عن قصد وإرادة وتصميم، وليس عن سوء تقدير قد يُعزى إلى البدايات. وإذا كان الأمر قد انطلى على الأفراد والجموع من عموم المغاربة، المعتزين بدينهم بالفطرة، فإن المنظّرين والقادة الذين دأبوا على الخلط بين المجالين عنوة، يتحملون مسؤولية تاريخية عظمى بما تعنيه من عمل منهجي ومحاولة للتفريق بين الناس بين مؤمن وملحد، ومن تخوين للأفراد ومس بسمعتهم وتدخل في حياتهم ومعتقداتهم، بل واستعداء ضدهم وصولا إلى الاعتداء عليهم بل واغتيالهم (حالة الشهداء عمر بنجلون – دجنبر 1975 وآيت الجيد محمد بنعيسى – فبراير 1993 والمعطي وبوملي – 31 أكتوبر 1993...)، ليس ذلك فقط، بل أكثر منه، وأبعد مدى في حياة الناس: دورُ الحركة الاسلاموية في ترسيخ استعمال الدين في السياسة من طرف الدولة، بالضرب على الوتر الديني السائر والحساس، مما شجع نكوص هذه الأخيرة باتجاه ترسيخ الدور التقليدي للدين انتفاضا منها على محاولة ابتزازها، وذلك عوض الدفع فعلا في اتجاه فسح المجال أمام تطور الخيارات التي تبتعد عن ذلك، وتؤسس لممارسة سياسية تنبني شيئا فشيئا على الفهم العلماني المتسامح، مع التشبث بالقيم الأخلاقية الإسلامية السمحة، وهو بالضبط ما كافح من أجله اليساريون والعلمانيون المتنورون. هذا المنظور لا أُسْقِط منه دورَ الدولة تاريخيا منذ الاستقلال في ترسيخ النظرة التقليدانية للدين الاسلامي، فلها هي الأخرى مسؤولية يتوجب إخضاعها للنقاش العمومي، كما لا أقلل فيه من مسئولية التوجهات العلمانية في النخبة والمجتمع في تأخرها عن حمل مشعل التنوير، اعتقادا منها أن الاستظلال بمظلة أمير المؤمنين يعفيها من الكفاح الضروري في هذا المجال... لكل ذلك استوقفتني هاتان الدعوتان. وإذا كنت لا أختلف معهما في الجوهر، وهو ما أعتقده وأدعو إليه منذ مدة، من فصل متدرج بين الدين والدولة مع بعض الاشتراطات، فإنني أعتبر أن توجها مثل هذا ليس بالموضوع الهين ولا يمكن ارتضاؤه دون مقدمات ومسوغات. لماذا؟ بكل بساطة لأن أثر الدعوات الاسلاموية قد ترك جراحا بليغة في المجتمع. لقد أدى إلى إشاعة النزوعات التكفيرية ذات الطابع العنصري المتعالي وترك آثاره البغيضة من تمزقات وتوجهات نكوصية استعلائية/مرضية، وهذه الآثار لا يمكن التغاضي عنها اليوم لمجرد أن هناك إسلامويين وصلوا إلى السلطة، وأصبح عليهم التخلص بسرعة من الزورق الذي أوصلهم إلى شاطئها. لا يمكن تجاوز الأمر كأنه يتعلق بشربة ماء. وإلا سنكون أمام احتيال جديد على التاريخ. لقد كنت ولا زلت أعتقد أن أصحاب الاختيار الاسلاموي سوف يتنازعهم باستمرار خياران متعارضان، لا يمكن استبعاد أي منهما – لحد الساعة - وهما خيار التشدد وخيار الانفتاح، وأن عليهم أن يحسموا هذا التردد يوما ما. وقد عبرت عن ذلك سنة 2007 خلال مناظرة تحت عنوان "الاسلاميون، اليسار، الديمقراطية وحقوق الإنسان" جرت بالرباط بين عدد من النشطاء من اتجاهات مختلفة (انظر كتاب "مواجهات بين الإسلاميين والعلمانيين بالمغرب" – دفاتر وجهة نظر 15- 2008). وفي معرض احتمال تغيير الحركة الإسلامية لمواقفها المتشددة الرافضة للمرجعية الكونية لحقوق الإنسان، كنت عبرتُ عن احتمال مفاده أنه "كما تعرض اليسار لامتحان في قناعاته الديمقراطية فلا بد للإسلاميين من المرور على نفس الصراط" وانتقدتُ في نفس الوقت "صمت اليسار عن دلالات اعتماده للمنظومة الحقوقية وعدم الإقدام على النقد الذاتي في تغيير موقفه في هذا المجال". وذلك في توافق تام مع ما أعتقده من علاقة بين الأخلاق والسياسة التي تحتم على رجل السياسة بالمعنى التاريخي وليس اللحظي العابر ، حين يقدم على مراجعة من هذا الحجم، أن يتواضح مع المعنيين بالأمر، أي مع المواطنين. وخلال نفس الندوة، وبحضور إسلامويين مناهضين للعلمانية، دافعت عن العلمانية كما أراها حيث اعتبرت بأن "العلمانية المبنية على التسامح تختلف عن العلمانية المعادية للأديان (...). حيث تعتبر الأولى أن المرء له الحق في عبادة الخالق بالطريقة التي يرتضيها، كما ترى أن ممارسة هذا الحق لا تخول للمرء أن يرغم الآخرين على اتباعه بالعنف والإكراه (...). وإذ ترى هذه العلمانية أن مسألة الإيمان من عدمه مسألة تدخل في النطاق الخاص باعتبارها مسألة اختيار فردي، فإنها ترى بالمقابل أن الدولة يجب أن توفر شروط ممارسة الطقوس الدينية للمؤمنين (...)". وشدَّدْتُ في المقابل على أنه "في هذا الإطار، لا ترفض العلمانية المتسامحة اعتبار الدين مرجعية لتنظيم المجال العمومي. إنها ترفض أن يتم فرض المرجعية الدينية من موقع الحقيقة المطلقة وموقع الحجة التي لا يعلى عليها، والتأويل الذي لا راد له. وخلصت إلى أن هذه العلمانية "تقول بضرورة وضع النص المدني الذي يتوجب أن يكون المرجعية الأولى في حياة المجتمع (...)". قبل أن أؤكد أن "اعتقادي يذهب إلى عدم وجود أي تناقض بين الإسلام كما عاشه المغاربة كلحمة ثقافية، وبين مبادئ العلمانية المبنية على التسامح". لقد جرت مياه تحت الجسور منذ ذاك. واليوم على الاسلامويين أن يقرُّوا، وهم يوجدون اليوم في رأس الهرم المؤسساتي، بالضرر الذي أحدثوه في المجتمع بإقحامهم للدين في العمل الحزبي حيث تسببوا في إذكاء الغلو وتوفير الغطاء الإيديولوجي للنزعات المتشددة وإضعاف روح التسامح عند المغاربة، وترسيم العنف اللفظي والجسدي المفضي إلى استمراء التصفية الجسدية للمخالفين الرأي باعتبارهم مارقين... عليهم قبل ذلك الإقرار بنسبية رؤيتهم وأن يكفوا عن ادعاء امتلاك الحقيقة الدينية وغيرها وادعاء امتلاك العفة ويتوقفوا عن التلويح بتدينهم في وجه الآخرين ومهاجمة كل من يعارضهم وأن يتبنوا موقفا متسامحا لا لبس فيه وعلى قدم المساواة تجاه الديانات الأخرى وتجاه اللادينيين وأن يتوقفوا عن الخلط المتعمَّد بين اليهودية والصهيونية وأن يتركوا توزيع خيرات الجنة للآخرة ويهتموا بتوزيع خيرات الدنيا. وقبل كل ذلك على الداعين إلى هذا الاختيار أن يوضحوا للرأي العام من هم الذين عملوا على ليّ ذراع لجنة تعديل الدستور حين تعلق الأمر باعتماد حرية المعتقد في الدستور باعتبارها أساس الفصل بين الدين والدولة، ورفضوا ذلك بأي صيغة من الصيغ؟ من أقام الدنيا ولم يقعدها حتى تم التراجع عنها في النص المقترح؟ من يتحمل المسئولية في إخلاف هذا الموعد من جديد ؟ هذا مع اقتناعي بحتمية ذهاب البشرية إلى علمانية كونية من النوع الذي ذكرت، علمانية ستكون بالتأكيد أرحم على جميع الأديان من دعوات الاستعداء من أي تعصب ديني، أكان: يهوديا أو مسيحيا أو إسلاميا أو غيره. وهو موضوع قد نعود إليه لاحقا. من غير ذلك سيكون الأمر تحايلا جديدا على الناس والتاريخ، وسيكون دم شهداء الحرية والتنوير في المغرب قد أُهدر فوق ثراه مرتين... إن هذا يعني، بكلمة، أن على الإسلامويين وفي المقدمة منهم "إسلاميي السلطة" أن ينسلخوا عن جلدهم ويتنكروا للمنطلقات التي أوصلتهم حيثُ هم. مرحى إذن،... لكن بكامل الوضوح، أمام الملأ وعلى رؤوس الأشهاد، وبالاعتذار للتاريخ.