بعدما كان الجميع ينتظر بداية النقاش السياسي خلال بداية يناير 2013 حول القوانين الانتخابية وحول تفاصيل الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، يُفاجأ الرأي العام بتزايد الغموض بخصوص إمكانية تنظيم هذه الانتخابات خلال هذه السنة، على الرغم من الوضعية الشاذة التي يعيشها مجلس المستشارينن الغرفة الثانية للبرلمان المغربي التي تعيش في ظل أحكام دستور 1996 الذي تم نسخه بشكل نهائي. فقد كان يُفترض أن الاستحقاقات الانتخابية الجماعية والجهوية، التي ستنظم في ظل الدستور الجديد، محطة حاسمة ستمكن من رسم خريطة سياسية جديدة، وستنتهي بانتخاب مجلس المستشارين وفق الدستور الجديد. فبعد الحدث السياسي التاريخي الذي عرفه المغرب، والذي تمثل في تشكيل حكومة يرأسها حزب العدالة والتنمية، بدأت الأنظار تتجه للغرفة الثانية في البرلمان، وبدأ الحديث عن موعد تجديده حتى يتوافق مع أحكام الدستور الجديد للمملكة، وبدأ الغموض السنة الماضية بعدم التمكن من تنظيم هذه الاستحقاقات خلال سنة 2012، ليصل الغموض إلى أقصى حالاته مع الإشكال السياسي الأخيرالذي أحدثه حميد شباط داخل الحكومة نفسها. وقد كان يُفترض أن تبادر وزارة الداخلية خلال الأسابيع الأخيرة إلى وضع المشاريع المهيكلة للنظام اللامركزي الجديد (الجهات والجماعات الترابية والمراسيم التنظيمية) من أجل فتح حوار سياسي واسع بين الاحزاب السياسية ووضع جدولة زمنية واضحة ومعقولة لمواعد مختلف الاستحقاقات الانتخابية، وحتى تتمكن هذه الهيآت السياسية من الاستعداد بوقت كافي وتنظم نفسها وتقوم ببرمجة استحقاقاتها الداخلية. إلا أن الصمت المطبق الذي يخيم على هذا الموضوع حاليا يثير العديد من التساؤلات حول موعد الاستحقاقات الانتخابية، مما يعيد نوعا من الضبابية في التعامل مع الشأن الانتخابي بالمغرب، بل إن الضبابية تبلغ أوجها في ظل المواقف الأخيرة لحميد شباط الأمين العام الجديد لحزب الاستقلال، والذي يبدو أنه أصبح يتقن سياسة التجميد Blocage عبر رفع سقف المطالب لمستوى غير مقبول وغير منطقي، وإبقاء التحالف الحكومي في انتظارية قاتلة للموقف المقبل لهذا العضو في التحالف الحكومي. فانتخاب الجهات والجماعات الترابية والمؤسسات المهنية تعتبر المحطة الثانية لتنزيل الدستور الجديد بعد محطة الانتخابات التشريعية الأخيرة وتشكيل أول حكومة ديمقراطية منتتخبة، وستكون أساس تشكيل مجلس المستشارين القادم الذي يجب أن تجرى الانتخابات الخاصة به قبل افتتاح دورة أكتوبر القادمة على أبعد تقدير، إلا أن مقاطعة حزب الاستقلال في صيغته الجديدة لأي تنسيق سياسي يعني فتح هذا الملف على المجهول. وإذا كان الخطاب الملكي في افتتاح البرلمان شهر أكتوبر الماضي قد أكد على ضرورة الإسراع بانتخاب مجلس مستشارين جديد وفق الدستور الحالي، فإن ذلك يعني بالضرورة التجديد الشامل للمؤسسات الدستورية المنتخبة جميعها وعلى رأسها الجهات والجماعات الترابية الأخرى. ويعتبر هذا الحسم في التجديد الشامل لجميع المؤسسات الدستورية المنتخبة قبل نهاية هذه السنة مسألة أساسية حتى يستكمل المغرب مؤسساته الدستورية ويخرج من حالة الانتظار التي تجمد تنميته الوطنية والمجالية. وعلى هذا الأساس يُترض أيضا أن يتم إجراء الانتخابات الجهوية والجماعية، وانتخابات الغرف المهنية وممثلي المأجورين، خلال الأشهر المقبلة، وفق جدولة واضحة، وتتوج بانتخابات مجلس المستشارين، حتى يتمكن البرلمان بغرفتيه من افتتاح دورة أكتوبر المقبلة بشكل كامل دون انتظار سنة أخرى من الجمود الدستوري والمؤسساتي. وكان يفترض دائما أن تبدأ الحكومة بكامل أطيافها السياسية بصياغة تصورات موحدة لنموذج التنمية الجهوية والمحلية، يتم بناء عليه تحديد المحاور الأساسية لتنزيل نظام الجهوية وجعله أساس البناء اللامركزي للدولة وفقا لأحكام الفصل الأول من الدستور، وهو الورش الاستراتيجي الذي يجب أن تشتغل عليه هذه الحكومة. ووفقا لما يتم إعداده يجب أن تبدأ المشاورات مع الأحزاب السياسية بمختلف مشاربها لتجميع المقترحات وتقديم مشروع متكامل لتنزيل أحكام الفصل 146 من الدستور، إلا أن الغموض دائما بقي سائدا بخصوص مواقف أحزاب التحالف الحكومي نفسها، في ظل مواقف حزب الاستقلال التي آثرت الدفاع عن رغبات رئيس الحزب عوض العمل على بناء النظام اللامركزي الجديد. وعوض أن تنصب جهود أحزاب التحالف الحكومي على وضع جدولة زمنية لاستكمال المؤسسات الدستورية، والإسراع بتنظيم الاستحقاقات الانتخابية وصولا لانتخاب مجلس مستشارين وفق الدستور الجديد كما أكد عليه الخطاب الملكي خلال افتتاح هذه السنة التشريعية، نجد حميد شباط يدفع في اتجاه جمود شامل داخل الفريق الحكومي، وكأنه يستهدف وقف البناء المؤسساتي للدولة برمته ويدفع في اتجاه تجميد نصف الدستور المغربي بشكل عملي. فالوضع السياسي الحالي يثير غموضا مطلقا على مستوى مستقبل الحكومة الحالية ذاتها، وليس فقط استكمال المؤسسات الدستورية، ومواقف حميد شباط تسير في منحى خطير وأعمق مما يبدو للمتتبع السياسي أو للرأي العام، فهو يعي جيدا بأن تنظيم أية انتخابات جديدة بعد إسقاط الحكومة الحالية سيصب في صالح العدالة والتنمية، كما يعرف بشكل لا مراء فيه أن الخروج للمعارضة في هذا الوقت بالذات يعتبر انتحارا سياسيا لحزب الاستقلال، بغض النظر عن آثار ذلك على الوضع الدستوري للحكومة. ولا نستبعد أن يستمر حميد شباط في الضغط المتواصل، عبر التمسك بمطالبه غير الواقعية، في محاولة لعزل حزب العدالة والتنمية داخل التحالف الحكومي وتجميد عمل الحكومة حتى لا تمر إلى تنفيذ الإصلاحات الكبرى والمشاريع المهيكلة، وعلى رأسها إصلاح النظام اللامركزي وتطبيق نظام الجهوية المتقدمة وصياغة نموذج تنموي متكامل على المستوى المجالي والترابي. فتنزيل مشروع الجهوية المتقدمة يعتمد بالأساس على قلب معادلة التدبير الترابي للمملكة، عبر منح الهيآت اللامركزية الصلاحيات الأساسية لتدبير التنمية المحلية، بمقابل توفير الشروط الملائمة لإفراز مجالس تمثل حقيقة الساكنة مجاليا، والتي تتمكن بدورها من أن تفرز مجلسا للمستشارين يمكن من استكمال المؤسسة التشريعية بغرفتيها وفق المنطق الدستوري الجديد. ولعل استبعاد تنظيم الانتخابات الجماعية والجهوية خلال هذه السنة يعتبر حلقة ضمن سلسلة منهجية، ظاهرة عدم قدرة الحكومة على تنظيم للاستحقاقات الانتخابية وفق الدستور الجديد، وباطنها دفع التحالف الحكومي لمأزق شامل تكون أمامه الخيارات محدودة، علما أن الوضع السياسي المغربي الحالي لا يحتمل وصول الأزمة لحد حل البرلمان وتنظيم ثاني انتخابات تشريعية في سنة ونصف في ظل الدستور الجديد. وفي انتظار وضوح تصور حزب الاستقلال ومواقفه السياسية، يعود الغموض ليلف إمكانية استكمال المؤسسات الدستورية وفق الدستور الجديد (الجهات والجماعات الترابية والغرف المهنية ومجلس المستشارين)، وتبقى بنية الدولة تنتظر توضيح شباط لمطالبه الحقيقية على مستوى التحالف الحكومي. *دكتور في القانون متخصص في العلوم الإدارية