في شهر 11 انتهى الخطر الاستراتيجي عن سوريا تقترب الأحداث في سوريا من عامها الثاني وهو ما جعل المهمة أكثر صعوبة وتعقيدا على الرّاعي الأمريكي وأدواته الدولية والإقليمية برسم ثورات الربيع العربي. ومع كل شهر جديد يجمع الإعلام العربي أنفاسه ليطلق رزما جديدة من التهويل الذي يوحي بأنّ دمشق باتت قاب قوسين أو أدنى من السقوط. وطبعا هو سقوط يبدو دائما وشيكا بمنطق الصورة والميديا الجديدة التي عجزت عجزا فاحشا عن النيل من صمود الأسد والجيش الوطني السوري الذي لا يزال يحافظ على تماسكه الأسطوري. بغضّ النّظر عن البكائية غير البريئة الذي يبديها الغرب عن الديمقراطية زماننا العربي الكبيس، نحن أمام حدث يرقى بالمفهوم الجيوستراتيجي إلى حدث دولي ليس للكومبارس الدولي والإقليمي سوى أن يقدم مجزوءات غبية من سيناريوا يهيمن فيه الكبار. ليس في المنطقة فقط يخلو الميدان من رؤيا جيوستراتيجيا للحدث، بل حتى في أوروبا هناك تدنّي تاريخي في المنظور الجيوستراتيجي. في نظر برجنسكي قبل سنوات، حتى بريطانيا لم تعد تملك منظورا جيوستراتيجيا. ليس هذا هو المهم الآن، لكنني أريد أن أتحذّث عما يجري اليوم في سوريا بالفعل. ولكن قبل كلّ هذا لا بدّ أن أوضح مسألة أساسية تقتضي المزيد من التوضيح. قبل شهور وأنا أتحدّث لوسائل إعلام كثيرة عن أنّ المعضلة السورية ستنتهي في الشهر الحادي عشر من عام 2012م. الفكرة التي أثارت فضول الكثير من المهتمين. في وسائل إعلام كثيرة سؤلت عما جرى وأين حكاية الشهر 11. والحقيقة أننا كثيرا ما نتحدّث هنا عن تحليل جيوستراتيجي يهمّني أكثر من أي مقاربة أخرى للحدث السوري. وهنا لن نتحدّث عن التنجيم بل عن حقائق ومعطيات. وكنت يومها ولا زلت مطمئنا بأن المعضلة السورية انحلت استراتيجيا ولم يبق بعد ذلك سوى همروجة الكومبارس الإقليمي. كنت أخشى من أن تواجه هذه الفكرة استحقاقا آخر يسميه كارل بوبر بالأثر الأوديبي للنبوءة. ولا أخفي أنني وجدت في مساعي الكومبارس الخليجي الذي عاند لكي يطيل من عمر اللعبة مظهرا من مظاهر الأثر الأوديبي، حينما وجدنا أنفسنا أمام تصعيد غير منتج للأحداث، ذكّرني في عملية الانتحار الجماعي للدلافين. لكن بعد فترة تأكّد لي أنّ ما رأيته هو الحقيقة التي يسعى العالم اليوم إلى الاستخفاف بها لكي يؤمنوا لخصوم سوريا مخرجا آمنا مع حفظ بعض ماء الوجه. بالفعل نحن اليوم أمام حالة هروب كبرى من سوريا. فبينما تسعى الولاياتالمتحدةالأمريكية للتملص الممنهج من هذه القضية بوسائل وأدوات ومنطق في التكتكة موصول بالموقف الجيوستراتيجي، نجد أن الكومبارس غير معني بالسمعة السياسية والاستراتيجية. ولكي أكون واضحا أكثر لا بدّ أن أجيب عن مجريات أحداث شهر 11 بشكل يظهر مدى أهمية ما ذكرناه. حينما قلت أننا سنشاهد خلال هذا الشهر ما يؤكد على نهاية المعضلة السورية، عنيت المعضلة في بعدها الجيوستراتيجي. وهذا يعني بكل بساطة، أن التحدي الأكبر الذي كان يتهدد سوريا هو أن تقود أمريكا عملية غزو مباشر لسوريا على غرار ما جرى بالعراق وكذا على غرار ما جرى في ليبيا. كانت واشنطن تتمنى أن ترى بشار الأسد متدلّيا على حبل مشنقة في المرجة أو ساحة الأمويين. وكانت تعتقد أن غزو سوريا نزهة أسهل مما سبقها من أمثلة عرفتها المنطقة. ولعلهم سخروا من جواب الأسد على سؤال صحفي إذا ما كان مصيره هو مصير حسني مبارك؛ يومها قال: سوريا ليست هي مصر. عمليا، تأكّك أن بشار كان على حقّ. وسنتان من عمر التحدي في سوريا يؤكّد أن الذين سخروا من هذه العبارة هم خارجون عن فهم ما يجري في المنطقة. ولا زال حبل الكذب في سوريا وعلى سوريا طويلا. يكفي أننا وضعنا منذ الشهور الأولى صورا وتحقيقا ميدانيا عن وجود مظاهر العمل المسلح في سوريا وبأن الأمر يفوق كونه مظاهرات ذات طابع إصلاحي. ولا نريد التذكير بذلك، لكننا قلنا ما أحجمت وسائل الاعلام العربية والدولية عن قوله إلا بعد شهور من ذلك. كم كان الأمر صعبا أن تقنع العالم بأن أبناء الجيش السوري الوطني وهم مواطنون وأبناء كل أطياف الشعب السوري يذبحون بالسلاح الذي تقدمه أطراف إقليمية للمجموعات المسلحة المتطرفة. ففي سوريا تشرمطت الحقائق وأصبح من الممكن القول أنّ القاعدة إرهابية في أفغانستان والعراق لكنها ديمقراطية في سوريا. وبما أنّ أمريكا وتحت ضغط الانهيار الاقتصادي الذي يتهدد التوازن الماكرواقتصادي الأمريكي، تدرك أنّ أي مغامرة غير محسوبة بأرتميتيقا الاقتصاد السياسي والعسكري ستجعلها تنهار ليس فقط كأمبراطوريا بل كدولة عظمى، فهي لا تضع البيض في سلّة واحدة. صحيح أنّ كمية العملة الصعبة التي يوفرها البترودولار من شأنها أن تخلق حالة إرهاب عارمة في المنطقة. لكن كل هذا البترودولار لا يمكن أن يساهم في التوازن الاقتصادي العالمي وحاجة العالم والولاياتالمتحدةالامريكية إلى الاستقرار المالي. والصين التي تصرّ على استعمال الفيتو ضدّ التدخل في سوريا هي من ضخّت الكثير من الكتلة المالية لإنقاذ الاقتصاد العالمي والاقتصاد الأمريكي. وهذا كان يكفي ليجعل الصين التي لم تعسكر سياستها الدولية منذ عشرات السنين، تبعث بسفينتها الحربية إلى منطقة الشرق الأوسط. حينما أدركت أمريكا ذلك فكرت في الهروب الناعم من الورطة السورية. فلقد أدركت واشنطن أنّ الشرق الأوسط لم يعد خالصا لها. وليتها سمعت نصيحة هينتينغتون يوم قال بأن أمريكا لن تستطيع أن تهيمن على العالم. وعليه، كان لا بدّ أن تتراجع واشنطن قليلا ولا تظهر في واجهة الحدث السوري. فهي خبرت المعارضة في الخارج وعرفت من خلال استخبباراتها أنها ليست معارضة حقيقية. ولذا ما زال الكومبارس الإقليمي يحاول المستحيل لإقناع واشنطن بجدوى التعويل على المعارضة من خلال إعادة تشكيل فريقها المرة تلو الأخرى عبثا. تهتم واشنطن بسمعتها لأنها باتت قضية انتخابية بالدرجة الأولى. وهكذا، كان لا بد من إدراج جماعة النصر العاملة في السوريا في قائمة الجماعات الإرهابية. والنصرة هي الموجودة اليوم في مقدمة الأحداث. وحتى لا يفتح ملف التعامل مع القاعدة في سوريا عشية الانتخابات كان لا بد من البراءة الاستباقية منها. أما كلينتون فهي اعتذرت اعتذاراغير مقنع لحضور مؤتمر أصدقاء سوريا بمراكش لكي لا تسأل عن أسباب إدراج واشنطن للنصرة في قائمة الجماعات الإرهابية. واشنطن تريد أن تهرب قبل حلفائها لذا تركتهم يتناطحون أمام حقائق غامضة في المنطقة. حينما تنسحب واشنطن إلى الخلف قليلا يتقدّم إبن آوى الفرنسي للقيام بما يسمّى بالعامية بالبعورة. أي قطف ما تبقى من الثمار وما بقي من أوراق مبعثرة. لكن الأثر الفرنسي في الأحداث الأخير شكّل مهزلة حقيقية. لأن فرنسا لا يمكنها أن تناطح روسيا والصين وإيران في منطقة الشرق الأوسط. ربما نزولا عند أمر الراعي القطري الذي بات يمون على الاقتصاد الفرنسي ، أراد أن يجاريهم في هذه اللعبة التصعيدية الأخيرة. لكن يبقى حظّ فرنسا الاستعماري حاضرا في الأحداث السورية وإن بصورة غبيّة. ليس أغبى من فرنسا ولا عملائها في الداخل أكثر من أن يصانعوها باستبدال علم الانتداب الفرنسي بالعلم الوطني السوري كما هو علم الجيش الحر اليوم. تحاول فرنسا الثّأر الأدبي من حركة التحرر الوطني السوري. أما الطّامة الكبرى، فحينما نصّبوا معاذ الخطيب على رأس جمهورية الضباب السورية التي لم يستطيعوا أن يظفروا بشبر واحد منها ، بينما معاذ الخطيب هو ابن لكبير عملاء الانتداب الفرنسي الذي وضعته فرنسا يومها حاكما على سوريا. وعليه قلت إن دليلي على نهاية المعضلة السورية يكمن في جملة من النقاط يراها البعض هي مؤشر على قرب سقوط سوريا. وسأستعرض بعض من تلك المؤشرات: 1 التصريح الأمريكي في حفل الترشيح الرئاسي خطب الرئيس الأمريكي أوباما أمام ناخبيه قبل أن يخاطب العالم، بأنّه لا تدخّل بعد اليوم. هذا كلام موجه للرأي العام وليس للعرب. وعدم التدخل العسكري الأمريكي اليوم هو معطى جيوستراتيجي يشكل مؤشّرا على أننا دخلنا نظاما عالميا جديدا، هو اليوم في طور التّشكل، تتغيّر فيه أنماط التأثير والعلاقات. وهذا كان من حوادث شهر 11 2 نصب بطاريات صواريخ باتريوت قرار واشنطن بنصب بطاريات باتريوت على الحدود التركية السورية يستهدف روسيا وليس سوريا. وهذا مؤشّر على أنّنا عدنا مرة أخرى إلى مربع الحرب الباردة. فالصواريخ هنا تعني حماية القواعد الأمريكية في تركيا. وهذا ليس مطلبا تركيا كما أوحى بذلك تصريح أوردوغان، بل هو مطلب أمريكي. ولذلك كان الجواب الروسي جاهزا حينما نصب صواريغ اسكندر وطور صواريخ أخرى قادرة على اختراق قبة ستينغر، مما يعني استئناف لسباق صاروخي في المنطقة. في الحرب الباردة نتحدث عن صواريخ باليستية وعابرة للقارات وعن تدمير للأرض والكون ولكن في الحرب الباردة لا يكون التّدخّل في منطقة الأحلاف نزهة. إنّ صواريخ ستينغر مؤشّر على أن التدخّل بات مستحيلا في سوريا. 3 فوبيا السلاح الكيماوي تدرك واشنطن أن خصومها وحدهم من يملك رؤية جيوستراتيجية. وهي لذلك تحترمهم أكثر مما تحترم الكومبارس المتشعبط في ذيولها. لأنهم ضعاف. ولذلك تدرك أنّ سوريا تدرك أنّ الخطر الاستراتيجي لم يعد قائما بفعل توازن القوة ومناورات قوى الممانعة. وعليه، ما تبقى في سوريا هو حكاية تنظيف للمظاهر المسلحة التي تستهدف عشرات الألوف جيدة التسليح والمدربة على حرب حرب المدن. وهي تريد بتعبير أو بآخر أن تقول لروسيا انتبهي سأكون مضطرة أمام الرأي العام الأمريكي أن لا أسمح بأي تصرّف إبادي للمقاتلين. بتعبير آخر، تريد أمريكي أن تبلغ رسالة من خلال منطوق الخطاب، مقاده: نظّيفوا ما شئتم وكيف شئتم لكن من دون كيماوي فهو خط أحمر. وأصل الحكاية هي خدعة للجيش السوري لمواجهة ألوف من المقاتلين الذين يتترسون بالمدنيين. وهكذا جاءت فكرة أن تقوم بعض الطائرات بإفراغ أكياس من الطحين فوق بعض المناطق التي يختفي فيها المسلّحون. وبدأت التنسيقيات تتحدث عن الكيماوي وغيره. هذا بينما لا زال الأسد يطيل امد الحسم العسكري حماية للمدنيين. 4 إدراج جماعة النّصرة في قائمة الجماعات الإرهابية لأن واشنطن كما ذكرنا تذرك أن أمد اللعبة انتهى فهي تصفّي ذمتها وتغلق مسبقا كل ملف ممكن أن تضطر إلى فتحه. ومنه علاقتها بالقاعدة. البعض اعتقد أنّ هذا يعني ذريعة للتدخل لمواجهة القاعدة، وهذه رؤية قاصرة من الناحية الجيوستراتيجية. ولكم سمعنا لها نظائر من محللين يحبون التهويل ولا يميزون بين أشكال الأقيسة الصحيحة والفاسدة، لكن القضية لها غرض آخر سنشير إليه فيما بعد. إذا كانت النصرة هي من يبلي البلاء الحسن في نظر أصدقاء سوريا المزعومين، حتى خرجوا يهتفون : كلنا النصرة، فلم تعاقب واشنطن من يعمل القتل داخل سوريا؟ في الحقيقة هناك جانب من الاستراتيجيا في هذا الموقف كما سنتحدث عنه لاحقا، وهناك جانب السمعة أيضا. فأمريكا مضطرة أمام الرأي العام الأمريكي أن تجيب عن جملة عمليات الإرهاب والذبح على الهوية والفتك بالمواطنين الذي تقوم به هذه الجماعات. هذا الأمر بالتأكيد لا يهمّ العرب ولا الأوربيين، لكنه يهمّ الأمريكيين الذي يقفون على أعتاب حملة انتخابية جديدة. 5 تصاعد العمليات الانتحارية حينما أوشكت سوريا الافتراضية أن تعلن عن احتفالها الكبير بنهاية نظام الأسد، ارتفع معدّل العمليات الانتحارية العبثية. وهذا مؤشر على الفشل لا على الانتصار. فقسم هائل من القاعدة يعيش إحباطا في سوريا. ولذا ليس أمامهم إلا الانتحار، لأن السجون العربية وغوانتانامو تنتظرهم من جديد. يصور الاعلام العربي حركة المقاتلين كما لو أنها حركة احتلال لمناطق وزحف عسكري يبتلع المناطق تباعا. والحال أن السؤال الذي لا يطرحونه على أنفسهم: أين بابا عمرو وأين ما زعموا أنهم احتلوه بحمص و حلب؟ لقد قالوا يومها أن 80 أو 90 في المائة من حلب هو تحت سيطرة الجيش الحر. وحدهم السوريون يدركون مهزلة هذه الحكاية. فحلب مدينة كبيرة. ووجود قناصة ومقاتلين في بعض الحارات وأطراف المدن لا يعني احتلالها. وهكذا حاول بعض المقاتلين أن يجهزوا على بعض المواقع العسكرية التي تبدو كما لو كانت مواقع خداع وضعتها سوريا أهدافا مزيفة لإسرائيل توجد بها أسلحة ومعدات متهالكة وقديمة، بينما لا أحد يعرف أين يوجد السلاح السوري. وتسعى الجماعات المسلحة اليوم لتنفيذ مخططات خطيرة في ضوء خرائط تمدها بها دول ، بينما مصدرها إسرائيل، لتدمير مواقع ومخازن السلاح الذي يعتبر ملكا للشعب السوري وليس للنظام. هكذا بلغ الخداع في موضوع أحداث المطار التي يعمل الجيش السوري على تصفيتها بصورة ممنهجة، كما لو أن النصرة باتت على أبواب القصر الجمهوري. ما يجري في المطار عمليات قنص في هذه المنطقة شبه البرية. ولكن القناصة لا يمكنهم أن يظهروا في مواقعهم إلا مرة واحدة قبل أن تجهز عليهم القوات السورية النظامية. وأيا كان الأمر فالطريق الرسمي إلى المطار هو طريق آمن جدّاّ، حيث توجد قوى شعبية مناضلة تهيمن على المنطقة. ومن سوء حظّ الجماعات المسلحة أنها في أي اتجاه من اتجاهات المطار ستواجه عصائب استشهادية لها تصور آخر عن الجنة والنار. فبينما الجماعات المسلحة تبتغي الفرار إلى أحضان الحور العين، فإن أبناء جرمانة مثلا يؤمنون بتناسخ الأرواح، فإنه لا مجال للحديث عن الموت. ومعلوم أنه في الحروب تنبعث العقائد ويتضخّم حديث الروح. بينما في الجهة الأخرى سيواجهون استشهاديين يؤمنون بأن في الجنة قيمة أعلى من الحور العين. هنا تحديدا في المطار ممكن أن يجري الحديث عن إثارة بالمعنى العسكري ولكن لا شيء يؤكد على أن المقاتلين قادرين أن يتحركوا شبرا واحدا بشكل جماعي. إنه الانتحار الجماعي. 6 مقتضى نظرية الألعاب لنظرية الألعاب مقتضيات في الجيوستراتيجيا. وواشنطن هي لاعب كبير يعرف قواعد اللعبة. بينما الكومبارس الذي يفتقر إلى معرفة كل السيناريو وطبيعة اللعبة فهو يدخل من دون فهم لقواعدها. لذلك سيبقى هؤلاء مثل الصحاف يهتفون بسقوط الأسد بينما تكون أمريكا أكملت لعبتها مع اللاعبين الكبار. وعليه، فإن مقتضى اللعبة أن لا تعمل واشنطن على مساعدة سوريا في التّخلّص من حالة الاستنزاف التي تخدم في نهاية المطاف المشروع الأمريكي في سوريا. فسوريا اليوم تعاقب على مواقفها القومية وعن ممانعتها وامتناعها عن تسليم القوى الفلسطينية ووضع حدّ للمقاومة. فالديمقراطية لم تكن يوما سببا كافيا لتحريك جيوش الغرب باتجاه الدّول التي تعاني تحت نير الاستبداد. لقد رعت أمريكا والغرب كل أشكال الاستبداد العربي ولا زالوا برسم الربيع العربي يؤثّثون لمشهد التمييع الكبير لمفاهيم الديمقراطية: ديمقراطية الصفقات. الإبقاء على الجرح مفتوحا في سوريا يخدم مصلحة من يريد إضعاف سوريا سياسيا وعسكريا. فإذا فشلوا في الإطاحة بسوريا فعلى الأقل يحاولوا إضعافها على المدى المتوسط. وفي الوقت نفسه هناك رغبة أمريكية لنوع من الاحتواء المزدوج لسوريا والقاعدة معا. إن إطالة أمد اللعبة لا يعني سقوط النظام. فوجود جيوب مسلحة في أي دولة لا يعني انهيار النظام. ففي تركيا يوجد جيش العمال الكردستاني، وفي السودان تعايش النظام مع مسلحي الجنوب وفي إيران لم يكن وجود تنظيم خلق يعني انهيار النظام وهكذا دواليك. فوجود مسلحين على مديات معينة لا يعني سقوط الأنظمة. لكنه قد يشغلها ويخضعها للابتزاز. وفي المثال السوري ستكون هذه المقاربة قاصرة جدّا، لأنّ لسوريا خبرة طويلة في الضّبط الأمني. وبأنها في فترة ما كانت ترعى أمنها وأمن لبنان، واستطاعت أن تسيطر على الحرب الأهلية في لبنان. أخير وليس آخر، يبدو أنّ تداعيات الأزمة في سوريا بدأت تلقي بظلالها على الجوار. فالخليج يخشى اليوم الذي سيواجه فيه استحقاقات الربيع العربي. فهو يعيش على صفيح حامي من الاحتقانات الاجتماعية. ثالثورات هناك مؤجّلة يدغدغها الريع ويسكتها إلى حين. لكنه لا ينهيها. وهمّ واشنطن أن لا يمتد الربيع العربي إلى حيث يوجد النفط. فالديمقراطية هناك لا تتعايش مع النفط. وربما زمان الديمقراطية الخليجية هو زمان جيولوجي وليس سياسي. فقد يصبح من حق هذه الشعوب الحق في الديمقراطية بعد آخر برميل نفط تنضب معه الطاقة في المنطقة. ولذا، فإن رجوع واشنطن إلى الوراء لا يعني أنها ستسلم في الشرق الأوسط لقدر الحرب الباردة ونظام تعدد الأقطاب. فهي رجعلت قليلا إلى شمال أفريقيا لتضبط إيقاع الحرب الباردة القادمة. وحينما تحل واشنطن تخنس فرنسا. وكذلك فعلت. هناك في شمال مالي بؤرة مهيّأة بل مؤقّتة بعناية للإنفجار. وهناك أيضا عملية استقطاب للمقاتلين إلى شمال مالي بدأ يتفوق على حركة الاستقطاب لصالح سوريا. توجد اليوم حكومة للقاعدة في شمال مالي تفوق كل الإمارات التي أنشأتها في أوقات متفرقة وأمكنة متعددة. ومعها من التسلح ما لم تشهد له مثيل في تاريخها. فلقد نجحت في أن تتوفر على حصيلة جيدة من السلاح الليبي المتدفّق بفوضى عارمة على المنطقة. ولا ندري هل هو خطأ فرنسي أو خطة مدبّرة، لاستدراج القاعدة إلى شمال مالي. وحتى لا نغرق في هذا الحديث، فإنّ مالي ستكون البؤرة المرشحة لحروب واشنطن على القاعدة. وما إدراج النصرة في قائمة الإرهاب سوى مؤشر على استعداد واشنطن للنزول إلى هذه المنطقة لبدء مغامرة جديدة بوسائل أخرى ، بهدف الهيمنة الكاملة على شمال أفريقيا ومنطقة جنوب الصحراء والساحل. العيون اليوم متوجهة إلى سوريا بينما الترتيبات تتجه نحو مالي. بقي القول أنّ تركيا التي تعاني من تململ الشارع التركي للإطاحة بأوردوغان وأيضا دول الخليج المتورطة في تسليح القاعدة في سوريا، سيضطرون لإعادة الوضع الطبيعي للعلاقات إلى استحقاقات كبيرة. وهنا ليس أمام تركيا والخيلج الذي لا يزال يحتفظ بعلاقات مع طهران أن يجعل طهران وسيطا لإعادة ترتيب العلاقات بين دمشق وأنقرة وكذلك بين دمشق والرياض. وليس هناك غير هذا السيناريو.وهذه قضية تتطلب بعض الوقت. لكن يبدو أنّ عملية الإعمار لسوريا سيدفع ثمنها الخليجيون. وهم لذلك سيضطرون أن يخصموا من الدعم الذي كانوا يقدّمونه لحلفائهم العرب. هذا إن قبلت سوريا العودة بالعلاقات إلى وضعها الطبيعي.