تنفّس العالم الغربي الصعداء، بعد مرور يوم الجمعة الماضي دون أن تقع فاجعة نهاية العالم، التي أنذرت بها "حضارة المايا"، وبذلك سقطت الخرافة التي صدقها كثير من الناس، وظهر زيفها بعد أن خلقت حالة من الرعب والخوف في المجتمعات غير المسلمة. انتشار هذه الخرافة انتشار النار في الهشيم حول العالم، له دلالات كثيرة، أهمها الفراغ الروحي والاضطراب النفسي، الذي تعانيه المجتمعات غير المسلمة، واستعدادها لتصديق أي شيء يهدد حياة الإنسان ولو كان محْضُ إشاعة، وهذا الأمر تدركه جيدا الأنظمة الغربية، لذلك تقوم بتغذية هذا الفراغ بخلق فزاعات لشعوبها من قبيل "الإرهاب" و"الإسلاموفوبيا"، لشرعنة تدخلاتها العدوانية في حق شعوب أخرى. فما هي إذن حقيقة خرافة نهاية العالم ؟ تُعدّ "حضارة المايا" من أقدم الحضارات الإنسانية، فقد قامت في أمريكا الوسطى منذ حوالي ألفي سنة قبل الميلاد، لكن الغزو الإسباني والبرتغالي قام بإبادة شعب المايا، ولم يتبق منهم إلا عدد قليل، ومع ذلك لازالت بعض الدول تقيم احتفالات سنوية بتراث المايا كالمكسيك وبيليز وهندوراس وغواتيمالا والسلفادور. كان شعب المايا يؤمن بنهاية الكون، وأن البشر يولد ويموت على شكل حلقات يصل عمر كل منها إلى 5000 سنة، ونحن ننتمي إلى حلقة بشرية ظهرت قبل 3114 قبل الميلاد. إن خرافة تعيين يوم الفناء في21 دجنبر الحالي ليست هي الأولى، فقد سبقتها تنبؤات خرافية بلغت حوالي 183 نبوءة، آخرها سنة 2003، كما أن كالة الفضاء الأمريكية "النازا" بدورها تنبأت بنهاية العالم بعد حوالي 400 قرن بسبب نيزك كبير سيصطدم بالأرض. في الغرب لقيت هذه الأسطورة الخرافية صدى لدى الناس، ففي فرنسا أعلن مسؤول عن أحد المخابئ الفرنسية التي تعود إلى فترة الحرب العالمية الثانية، أنه سيُبقي على المبخبأ مفتوحا طيلة يوم الجمعة 21 دجنبر لإيواء الناس، بعد أن جاء إليه بعض الفرنسيين يطلبون منه الاحتماء في المخبأ، كما يعتقد سكان قرية "بوغاراش" جنوب غرب فرنسا بنهاية العالم. وفي الولاياتالمتحدة مثلا يوجد 10% من السكان يؤمنون بالخرافة ويصدقونها، وفي إيطاليا قام بعض المواطنين ببناء مساكن تحت الأرض قصد النجاة من الموت، وفي الصين قامت السلطات باعتقال أكثر من 90 شخص خلقوا حالة من الذعر بين الناس بترويج الخرافة، حيث أن الخرافة دفعت أحد الصينيين إلى بناء سفينة كبيرة حوفا من الموت، وفي روسيا قامت شركة بعرض معدات تساعد على النجاة من الكوارث. وعبر مواقع التواصل الاجتماعي بالولاياتالمتحدةالأمريكية، كتب عدد من المواطنين عبارات الندم على ما ارتكبوه في حق أحبائهم مطالبين بالصفح، وهناك من تبرع بأمواله إلى الفقراء، وأقدم البعض على الانتحار لكي لا يشهدوا نهاية العالم، وهناك من أصيب بأزمات نفسية حادة لدرجة الجنون، وهناك من تخلى عن كل شيء وهرب من منزله قصد البحث عن طريقة ما النجاة. لكن الشيء المثير للدهشة، هو أن تصل عدوى الخوف من الموت إلى البلدان الإسلامية، بسبب الترويج الإعلامي لهذا الحدث من خلال الأفلام السينمائية والوثائقية ونشرات الأخبار، مستغلة الفراغ الحاصل في مجال التوعية الدينية لمواجهة مثل هذه المعتقدات المضللة. فقد أخبرني أحدهم بأن ابنه نصحه بعدم الخروج من البيت يوم الجمعة، حرصا على سلامته؟!! ولدي يقين بأن هناك كثير من الناس صدقوا هذه الخرافة وتأثروا بها. على ماذا يدلّ هذا؟ لا شك أنه يدل على ابتعادنا عن تعاليم ديننا، مما جعل البعض يقع تحت تأثير خديعة نهاية الكون. إن الإسلام حسم القضية، قال الله تعالى: (يسألونك عن الساعة أيّان مُرساها، قل إنما علمها عند ربي لا يُجلّيها لوقتها إلا هو، ثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلا بغتة). وفي آيات أخرى يقول الله سبحانه: (يسألك الناس عن الساعة، قل إنما علمها عند الله، وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون) (اقتربت الساعة وانشق القمر). كما جاءت عدة أحاديث نبوية لتخبرنا عن أشراط الساعة الصغرى والكبرى، ولو أراد الله سبحانه أن يطلع أحدا على يوم القيامة، لأخبر بذلك خير خلقه وصفوة رسله محمد صلى الله عليه وسلم، لكن أخبره فقط بعلامات الساعة. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: [بعثت أنا والساعة كهاتين ويشير بأصبعيه ويمدهما]. والمعنى المستفاد من الآيات القرآنية والحديث النبوي، هو أن الساعة في علم الله ولم يطلع أحدا عليها، لكن دلت النصوص على أنها قريبة. إن الخوف من الموت أو من نهاية الكون هو ناتج عن الابتعاد عن الله، فالمؤمن الصادق لا يخشى الموت، لأن الإيمان هو صمّام الأمان من الخوف، ولنتأمل كيف ربط الله سبحانه بين عبادته والأمن الغذائي والنفسي: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ). وفي آية أخرى: (ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون). إن أخطر ما يهدد حياة البشر، ليس هو مرض فقدان المناعة المكتسب "السيدا"، وإنما مرض فقدان المناعة الإيمانية، لأنه يجعل الإنسان يتخبط في الظلمات والضلال، ولا يعرف كيف يخرج منها، فإذا كان الله أنعم علينا بالعقل وفضلنا به عن سائر المخلوقات، حتى نستعمله للتمييز بين الأشياء وضدها، لكنه سبحانه يعلم أن عقل الإنسان لوحده لا يستطيع مواجهة عدوين لدودين: الشيطان والنفس، لذلك أرسل لنا الرسل بالشرائع لهداية الناس وإخراجهم من ظلمات الضلال والكفر إلى نور الحق والإيمان، قال الله تعالى: (أومن كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نورا يمشي به في الناس، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، كذلك زُين للكافرين ما كانوا يعملون). ولأن رسالة الإسلام عالمية، وقيمه كونية، فقد حفظه الله سبحانه من التحريف والتبديل، ليكون هداية للناس كافة، ويقدم لهم إجابات شافية عن كل القضايا الوجودية والحياتية، قال الله تعالى: (ما فرّطنا في الكتاب من شيء)، لذلك فإن مسؤولية المسلمين جسيمة للتعريف بحقيقة هذا الدين العظيم، وتصحيح الصورة السلبية التي روجها أعداءه، حتى نستعيد دورنا في بناء الحضارة الإنسانية كما أسهم أجدادنا في بنائها، حضارة تُعْلي من شأن الدين ولا تنس الدنيا، قال الله سبحانه: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الأخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تَبْغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين). قَدَّم سبحانه الآخرة على الدنيا لأنها خير وأبقى (وللآخرة خير وأبقى).