أليست التربية هي فعل تحرري بامتياز؟ تحرر من الحيوانية نحو تحقيق إنسانية الإنسان؛تحرر من غرائزية الجسد نحو إرادة العقل؛تحرر من حتميات الطبيعة نحو أفاق إخضاع الطبيعة لإرادة واختيارات ومنافع الإنسان؛تحرر من سلطة المطلقات والدوغمائيات والفكر الخرافي والأسطوري والجهل نحو نور العلم والعقل؛تحرر من الفردية الأنانية ومن الإثنية والعصبية وسلطة الفرد والقبلية والمذهبية والعقائدية نحو الفرد الإجتماعي/المجتمعي، المواطن والإنسان الكوني، المنتج والفعال والمندمج والخالق والمبدع للمؤسسات والقانون والقيم ؛تحرر من مستنقعات التخلف نحو التقدم والتنمية ...هذا هو ربيع التربية الذي نريد أن يجرف الخريف الدائم لتربيتنا (وتعليمنا) التقليديين(تمثلا وفعلا ومؤسسات وقوانين وبنيات وتنظيمات...) في مختلف أشكالها اللاوطنية و اللاإنسية واللاعلمية واللاتاريخية واللاديمقراطية... هنا والآن، في هذه اللحظة تهب نسائم ورياح الربيع الديمقراطي في المنطقة العربية، وهو ربيع لا يأتي إلا بعد سنوات أو قرون في فصولنا الفاقدة لبوصلة دورة الحياة الطبيعة؛ هي نسائم ورياح سياسية الآن، لكن متى تهب نسائم ورياح الربيع الثقافي والتربوي؟إن ظل هذا الربيع الديمقراطي فقط بجسد سياسي وبدون رأس ثقافية(معرفية وتربوية...)، أكيد سيظل هذا الربيع جسد يبحث فقط عن إشباع غرائزه العمياء وتائها بدون خرائط معرفية وقيمية، وقد يتيه في طريقه ليجد نفسه من جديد في متاهات الاستبداد والتخلف والجهل، ومغلقا في دوائر الحيواناتية و الدغمائيات واليقينيات وديكتاتورية المطلق والأحادي... المشهد التربوي الحالي يحنط وينمط ويختزل الإنسان المغربي في نموذج إيديولوجي/معرفي/قيمي لفرد حيواني تتحكم فيه غرائز الرأسمالية الاستهلاكية المتوحشة:الإنسان/ الجسد الخادع لقدرية وحتمية وسلطة مبدأ اللذة الاستهلاكية والاستعراضية ضد الإنسان/ العاقل الحر،إنسان فرداني ونرجسي الكينونة والغاية ضد الإنسان الاجتماعي والمجتمعي والوطني والكوني،الإنسان الغريزي واللاقيمي/أخلاقي،إنسان الغاية التي يبرر من خلالها كل الوسائل لتحقيق اللذة والسلطة والامتلاك،الإنسان الفرد/القبيلة اللامواطن واللاإنسي،الإنسان المتطرف المتعصب ضد كل تفتح وإيمان بالاختلاف واحترام حق الآخر في التواجد وفي الحياة المشتركة،إنسان المواطن الفردي(وطنه أناه وذاته فقط) ضد المواطن الجماعي والأرضي،الإنسان الاقتصادي الآلة العاملة والمستهلكة(العامل ،المقوالتي،الزبون...)،الإنسان الوسواسي التملك والسادي السلطة والعُظامي الثروة،إنسان أنا وحدي الخير وكل العالم الباقي شر يهدد لذاتي ورغباتي ووجودي الفردي،والكل/الجميع عدوي يجب "قتله" ماديا أو رمزيا لأبقى وحدي الجدير بالحياة... تربيتنا هنا والآن تختزل كينونة الإنسان إلى مجرد حيوان اقتصادي لذوي غريزي استهلاكي،إنسان يجب تدجينه لخدمة عُظامي الثروة والسلطة والاقتصاد وسماسرة الإيديولوجيا والقيم،إنسان بدون هوية قيمية وثقافية مجتمعية و إنسية ؛إنسان مجزء طبقيا وهوياتيا ومجتمعيا ووجوديا؛ تتفرق أعضاؤه وكينونته الفصامية بين اللغات والإثنيات والدول،إنسان سطحي وخرافي العقل،إنسان فاقد لعقله النقدي والواعي،فاقد لحريته وإرادته في معرفة وخلق وصناعة وجوده الفردي والجماعي،متحكما في مصيره وكينونته،إنسان يجرفه لاشعور الغريزة و اللذة والاستهلاك والنرجسية والثروة والسلطة. الاستبداد والفساد هما تربية ومعرفة وثقافة وقيم ومؤسسات وبنيات مادية ورمزية...محاربة الاستبداد تبدأ من محاربة الجهل والتخلف والخرافة والأساطير والمطلق المعششة في تمثلات وعقل المواطنين،محاربة الفساد تبدأ بمحاربة فساد القيم والأخلاق والمعارف ودولة ومجتمع اللاقانون واللامؤسسات واللامواطنة واللاإنسية...محاربة الفساد والاستبداد تبدأ من محاربتهما كتمثلات ومعارف وقيم وعلاقات مجتمعية ووطنية وإنسية في رأس صغارنا أولا،الديمقراطية والحرية والعدل والإنصاف والمساواة واحترام الآخر والحياة والعيش الجماعي المشترك ،كمواطنين قوميين وعالميين،تبدأ من التربية(كمعرفة وقيم وعلاقات) في الأسرة والمدرسة والإعلام...(مؤسسات التنشئة الاجتماعية)؛هذا هو الرهان الحقيقي على أجيال الربيع الديمقراطي والوطني والإنسي.أما أجيال الفساد والاستبداد الحالية فلن ينفع معها كثيرا ترسانة العقوبات والمحاكمات والقوانين(وهي ضرورية أيضا)...الفساد والاستبداد،الديمقراطية والحرية والعدل...هم تربية ومعرفة وقيم،ومن شب عليها شاب عليها. نراهن على نموذج مدرسة الربيع التربوي في إصلاحتنا التربوية،من أجل أجيال جديدة تصحح أعطاب ومعاناة خريفنا الوطني والإنسي البئيس والمنذور للقلق والألم ولحضارة الغاب والخراب. لكن هل من لا يؤمن بالإنسان وبالوطن و بقيم وجمالية الربيع قادر على صناعة ربيع تربوي حقيقي؟!قد نمنع وردة من التفتح لكن لا نقدر على منع زحف الربيع والتحكم في حتمية دورة الفصول ؛إن الأرض تدور،والتغيير سنة الحياة والإنسان والتاريخ، فلاداعي لثقافة وسياسة التحنيط والجمود،ومغالطة حقيقة التقدم،وحق الشعوب في الحرية والعقل. * باحث تربوي