بُشرى سارة لعُشاق المجلات الفكرية والفلسفية، نقول هذا ونحن نأخذ بعين الاعتبار رحيل مجلة "فكر ونقد" برحيل الفقيد محمد عابد الجابري (رحمه الله)، وتوقف مجلة "مدارات فلسفية"، وأيضا توقف مجلة "مقدمات" الرصينة (بالرغم من الأخيرة محسوبة على مؤسسة آل سعود، التي لا تعوزها الإمكانيات المادية)، إضافة إلى توقف (نحسبه مؤقتا) لمجلة "المنعطف" التي كانت تصدر من الهامش (وجدة)، وليس من المركز (أو ثنائي المركز: الرباطالدارالبيضاء). حديثنا اليوم عن صدور العدد الأخير لمجلة "الأزمنة الحديثة"، (العدد 5، صيف 2012)، والتي خصصت ملف عددها لأحد أحداث الساعة في الوطن العربي: الحرية، مع الحراك العربي وأسئلته المتشعبة والقلقة، ونقتبس منها لائحة من الأسئلة التي نظفر ببعض الإجابات عنها في هذا العدد: ماذا يعني الحديث عن الحرية هنا الآن؟ وكيف نلامس هذه التيمة؟ بل قبل هذا وبعده ما الحرية؟ كيف نفهم التطلع إلى الحرية والوعي بضرورتها والخوف من الحرية الذي يصل أحيانا درجة الهلع والرعب؟ هل الإنسان كائن خاضع لحتميات بيولوجية واقتصادية واجتماعية وسيكولوجية تقلص من فاعليته وتلغي حريته أم أنه كائن قادر على صنع مصيره وامتلاك زمام أمره؟ هل تعني الحرية تسيبا وانفلاتا من كل الضوابط أم أن الخضوع للقوانين التي شرعناها بمحض إرادتنا هو عين الحرية؟ وإذا كانت الحرية مُقوما للعمل وشرطا له، فكيف يتم الاستلزام بين الحرية والمسئولية؟ كيف يستقيم لنا الحديث عن الحرية بعيدا عن معاطب المشاريع الفكرانية/ الإيديولوجية والتصنيمات الثقافية؟ كيف نتحرر من ثقل الماضي دون السقوط في عبادة الحاضر وتقديسه؟ كيف نتسلح بوعي نقدي بالحرية يعصمنا من إنتاج المزيد من الاستبداد والاستبلاد باسمها؟ "أسئلة الحرية ورهاناتها" إذا، هو محور هذا العدد الضخم من المجلة (300 صفحة)، مع جزء من 50 باللغة الفرنسية، في إطار احتفال بالراحل والفقيد عبد الكبير الخطيبي، رحمه الله، وهو مجهود يخول لنا التنويه بعمل طاقم المجلة، المكون من إسماعيل العلوي مدير المجلة، عبد الله العلوي البلغيثي، رئيس التحرير، إضافة إلى ثنائي التحرير: الباحث والمترجم المغربي، حسن العمراني، والباحث الفرنسي جان لوتيبو. نقرأ في افتتاحية العمل أن الإصدار الجديد يتزامن مع ما يشهده العالم العربي من ثورات واحتجاجات عصفت بالكثير من نظم القهر والطغيان، وأعلنت انبلاج فجر جديد يجري فيه التمرد على كل أشكال الهيمنة والتسلط، وأضافت الافتتاحية أنه لما كانت الثورة كنسا للاستبداد الذي مورس تحت مسميات إيديولوجية عديدة، فإن التحولات الهائلة التي تشهدها الأوطان العربية تشكل مناسبة سانحة للخروج من حال الوصاية والجمود العقائدي بكل مستوياته، لتنفض عنها غبار التخلف بحيث تمارس فاعليتها وتستعيد قدرتها على الابتكار والخلق، وبناء مجتمعات قوية بمؤسساتها الديمقراطية غنية بإنتاجها في مختلف الميادين جاعلة من الحرية دَيْدَنَهَا وغايتها القصوى. ملف المجلة حول "سؤال الحرية"، محاولة لقراءة الواقع في توتره وغليانه، تحليلا وتفكيكا، بأدوات الفكر النقدي، كما أنه استئناف للتفكير الفلسفي في قضايا الحرية من زوايا متنوعة في علاقة بالمطلق والتاريخ والسياسة والاجتماع واللغة. نلاحظ في ثنايا العدد الجديد، حفاظ أسرة التحرير على عادة دأبت عليها منذ إطلاق العدد الأول من المجلة، وتقوم على نشر نصوص تنويرية تطرح قضايا العقل والحرية والتقدم والمقدس ضمن ملف الأنوار والحداثة. في ثنايا الملف الفرنسي من المجلة، وإضافة إلى تضمنه للعديد من الدراسات الفلسفية والأدبية العميقة (ونخص بالذكر، دراسات كل من الباحث الفرنسي أوليفيه آبل، الفيلسوف الفرنسي جان لو تيبو، الباحثة المغربية خناثة لحريشي، من جامعة ابن طفيل، القنيطرة، والباحث الجزائري محمد شوقي الزين، من إيكس أون بروفانس)، فقد خُصّصَ القسم الأكبر منه لتكريم الراحل عبد الكبير الخطيبي، هذا المفكر العصي على التصنيف، فهو لم يكن فيلسوفا أو عالما اجتماعيا أو روائيا أو ناقدا أدبيا كبيرا؛ بل كان كل ذلك وأكثر، إذ كان يتنقل بأريحية مذهلة بين مختلف هذه الحقول الفكرية متسلحا بثقافة واسعة وعُدَّة منهجية ونقدية عَزَّ نظيرها رافضا الاستسلام لطمأنينة اليقينيات المتداولة ودفء الاعتقادات الجاهزة. ونطلع في هذا التكريم البهي على آخر الحوارات التي أجريت مع صاحب "النقد المزدوج"، وأنجزه رئيس تحرير المجلة، عبد الله العلوي البلغيثي، إضافة إلى مقالات حول أعمال الخطيبي، بقلم الطيب بلغازي، وآسية بلحبيب، والكوشي سعيد. وأخيرا، لأننا لا نريد أن نظلم قلما مشاركا في العدد عندما نقتطف فقرة من مساهمة قلم دون آخر آخر، ارتأينا ذكر عناوين الدراسات مع الموقعين عليها، وهكذا، نجد في ملف العدد: "أسئلة الحرية ورهاناتها" العناوين التالية: في الحرية، جون ستيوارت ميل، ترجمة محمد بن محمد الخراط؛ اللغة والحرية، نعوم تشومسكي، ترجمة حسن العمراني؛ الحرية والضرورة من وجهة نظر تاريخية، كانط، ترجمة محمد منادي إدريسي؛ سؤال الحرية في التفكير الفلسفي والسياسي عند حنا آرندت، محمد شوقي الزين؛ الحرية بما هي أعلى تجليات العبودية عند ابن عربي، محمد المصباحي؛ الإجماع والحرية، حمادي ذويب؛ نقد مفهوم الحرية في الفكر الإسلامي: الطاهر بن عاشور نموذجا، محمد همام؛ القرضاوي والدولة المدنية: ديمقراطية أم تيوديمقراطية؟ أنس الطريقي؛ المسؤولية بين إكراهات القانون ومستلزمات الحرية، زهير خويلدي؛ نحو إعادة استشكال فلسفي لمفهوم الحرية في ضوء الثورات العربية، محمد الأندلسي؛ أي مستقبل للعالم العربي في ظل الثورات العربية؟ كريم مروة؛ الربيع العربي ورهان الكتلة التاريخية: في الحاجة إلى درس محمد عابد الجابري، إدريس جنداري؛ سؤال الحرية: نحو فهم مغاير، العياشي ادراوي؛ من نقد الحرية إلى فلسفة التحرر، يوسف بن عدي؛ الحرية في مسرح سارتر، كمال فهمي. وفي باب دراسات وقراءات، نطلع على الأعمال التالية: السيميوطيقا التأويلية عند بول ريكور، جميل حمداوي؛ بعض الملاحظات النقدية على كتاب فتغنشتاين، جمال محمود؛ سيكولوجية المعرفة عند ديفيد هيوم، بخضرة مونيس؛ التنظير للزمن السينمائي، طاركوفسكي نموذجا، محمد اشويكة؛ أسس توجهات القراء عند التوحيدي، أحمد الكبداني؛ الإسلام والفلسفة، محمد مزوز؛ الاغتراب مفهوما وواقعا، فريد أمعضشو؛ السجال في الأدب العربي، أشكاله ووظائفه، الجاحظ نموذجا، الباشا العيادي؛ سفارة الشاعر يحي غزال إلى شمال إفريقيا، سعد بن حسين بوفلاقة؛ لوي ألتوسير، العبقرية والهذيان: رسائل إلى إيلين، ترجمة سعيد بوخليط؛ التفكير في الخطيبي بواسطة الخطيبي، محمد اشويكة؛ قراءة في كتاب "الرواية العربية ورهان التجديد"، محمد برادة. أما آخر أبواب المجلة ("الأنوار والحداثة")، فتضمن ثلاث دراسات: الإنسان بين المقدس والدنيوي، روجي كايوا، ترجمة حسن العمراني؛ فلسفة الأنوار بين فشل المشروع السياسي وصمود القيم، أحمد طريبق؛ وأخيرا، وقفة مع كتاب أسئلة التنوير والعقلانية في الفكر العربي المعاصر ليوسف بن عدي، محمد سيف الإسلام بوفلاقة. قراءة ممتعة..