المفهومان غير متماهيين، وليس بينهما شعرة معاوية، ولا خيط رفيع ودقيق لا يكاد يرى. ما بينهما تباعد واضح، ومسافة ساطعة، وفكر ينطوي على تطرف غير محسوب وإساءة مشينة تخطت حدود الجنون، فيما المفهوم الآخر يستند إلى أنوار، ومحبة وتسامح، وذاكرة ترشح دما وسلسلة عذابات، ومعاناة من أجل تثبيت بذرة الحرية، والاستظلال بوارف ظلها عندما استوت شجرة. يقوم التحريض على الكراهية على مبدإ الإبعاد والإقصاء، وتجييش ترسانة من الأغاليط، والدعاوى الحمقاء والمأفونة المشبعة بالحقد الأسود حيال رأي أو فكر أو دين أو تيار فلسفي. وفي حالتنا فالأمر متعلق بالدين الإسلامي، بأحد رموزه الكبيرة والعظيمة والمشعة عبر القرون والأجيال والآماد، على العالمين بما يعني على الكون والإنسانية. ولا تعني عالمية الإسلام من خلال نبيه الكريم، تبخيس باقي الديانات، والتنقيص من باقي الرسالات، على رغم كون محمد آخر الأنبياء وآخر الرسل، وعلى رغم ختم القرآن للكتب السماوية السابقة، وغلق باب السماء أمام أي امريء يطمع في ضرع الوحي وغيث الإلهام. لا تفاضل بين الديانات، لا امتياز لهذا الدين عن ذاك لكونه كان سابقا أو جاء لاحقا، ومتمما وخاتما. وإذا كان الإسلام الحنيف في نصيته البليغة، وممارسات رعيل من كبار مفكريه الإسلاميين في تاريخيته التي قامت على التنوير، وتكريس روحانيات الإسلام، وجوهره القدسي كنص متعال، وكمصدر لتنظيم العلاقة بين العبد وربه، وبين الإنسان والإنسان، مطلق إنسان، قد نجح وسمق وكان وراء حضارة زاهرة أظلت ربوعا وأمصارا ومدائن واسعة وشاسعة عبر المعمورة، فلأنه بلور مفهوم العالمية على مستوى الأرض بما يعني طبقها تطبيقا واقعيا بين مختلف الفئات والطبقات والأطياف والديانات والأقليات في المجتمع الواحد. ولنا في الأندلس أروع مثال، وفي بغداد، أنصع مضرب، ودمشق ومصر، أسطع ذكرى وذاكرة. لم يَجُبَّ الإسلام الإلهي المحمدي لا الإسلام الفقهي الذي انْسَجَنَ في اعتبارات لا داعي لذكرها في هذا المقام، مَا قَبْلَهُ، أي لم يشطب على نصيات دينية ومنجزات ثقافية وفكرية وأدبيه سابقة عليه. وعلى رغم ما كان يعترض محمدا من موانع لاهوتية ومعوقات سجاليه من صنع وافتراء اليهود آنئذ بعد أن رأوا زحف الإسلام واكتساحه الربع والسوح والمجالي والقبائل والمداشر والبطون والأفخاذ، وعلى رغم منازعتهم إياه في التسليم له بالنبوة، فهو كان رفيقا، دمثا، مجادلا يصاهرهم، ويحضر ولائمهم كما يحضر جنائزهم (هل بِمُكْنَةِ أحدنا الآن، أن يمشي في جنازة يهودي أو مسيحي؟ كان محمد يفعلها)، مما تبّث رسوليته وقوته وسلطانه الديني، والزمني إذ بنى أولى معالم الدولة في يثرب : المدينةالمنورة)، فضلا عن براعته الاستراتيجية في إدارة المعارك والمغازي والاستقطاب القبائلي. كل ذلك وغيره مَكَّنَ له، ولصحابته في الأرض، علما أن هؤلاء، أو بعضهم، حاد عن الجادة والمحجة البيضاء، وعلما أن تابعيهم، انحرفوا بمقدار، عن الأهداف المسطرة، والغايات المرسومة، والمرامي الواضحة والتي من تمظهراتها عدم التقيد بالشورى حتى في أبسط مفاهيمها على مستوى توزيع المهام والخيرات والمغانم والبركات وتسيير دواليب الدولة الفتية. وكان من عقابيل ذلك انطلاق مسلسل من الاغتيالات والمذابح، وأنهار من الدم لم تَخْبُ ولم تنشف، ولم يغِضْ شَخَوبُها إلا بعد انفراط الحضارة الإسلامية، وسقوطنا المريع والمدوي في غيابات الظلام وظلمات الجهل والشعوذة والغيب والتخلف. ولا عبره الآن في إطار المقارنة بين المسيح ومحمد عليهما السلام من حيث جنوح الأول إلى السلم المطلق، والمحبة الغامرة، وجنوح نبي الإسلام إلى السيف الذي اقتضته بدايات البناء، والترسيخ والمجادلة بالتي هي أحسن، والصفح الجميل: (اذهبوا فأنتم الطلقاء). لا عبرة لذلك لأن السياقيين التاريخيين، والإطارين الاجتماعيين مختلفان تماما. فالمحيط الإقليمي أيام المسيح، ومجتمع الدعوة الذي نشأ فيه وإِبسْتِيمْ المرحلة غَيْرَ محيط النبي محمد، وَغَيْرَ مجتمعه المكي والجزيري ذي الخصوصيات البدوية، الرعوية والمنظومة القيمية المركبة وإِبسْتِيمْ الجزيرة، علاوة على استمرار بقايا الحنفية والمسيحية، ووجود اليهود عبر قبائل معروفة بيثرب والضواحي وجنوب الحجاز. ولنا أن نسأل: كيف تتسلل إلينا – بين الفينة والأخرى غشاوة من النسيان، فتنسدل غيما سميكا يعشي أعيننا، ويضع وَقْرًا في آذاننا، والحال أن السجال بين الديانات التوحيدية الثلاث بخاصة، ليس وليد اليوم، ولا وليد الأمس، إنما هو ضارب في جذور التاريخ منذ ظهور يسوع الذي لاقى من اليهود ما لاقى، وظهور محمد الذي تصدى له الملأ المكي، والإقطاع الأعياني في جل القبائل العربية القوية، مرورا بعصور الصليبية المقيتة التي بَصَمَتْ أحقابا بالسواد والعذاب والعار والمذلة. ما يجري، الآن، وقد سبقه ما صرح به البابا بنيدكتوس من خلال محاضرته في ألمانيا، وما تلاه من رسوم كاريكاتورية رَامَتْ تشويه نبي الإسلام، وإضْحاك المرضى على جنون خربشات رسامين رُعَنَاء وما اقترفه القس الأمريكي الحاقد والموتور "جونز" عندما أصر على حرق نسخ من القرآن، وصولا إلى الفيلم الذي نكأ الجرح ورش عليه كثيرا من الملح حيث تصوير الرسول العظيم جبارا عنيدا أكولا شغوفا مريضا بالجنسانية، والشغف الهذياني بالنساء !! زد على ذلك ما أرادته مجلة : "شارلي إيبدو" بتماديها في رش الملح وصب الزيت على النار، من خلال رسومات كاريكاتورية فجة تافهة حاولت النيل من خير الورى. ما المطلوب إذًا،؟ هل ما قامت به جماعة إسلامية منفعلة جامحة ومهتاجة من قتل وسحل وحرق وتدمير للمنشآت والسفارات، يرد الاعتبار إلى الإسلام حتى لا أقول إلى الرسول، فالرسول أسمى أن تطاله يد حاقدة، أو رسم تافه أو جيد سيان. كما هو أعلى من أن يناله فيلم صُوِّرَ على عجل من لدن جماعة مُمَسَّحةٍ ويهودية متطرفة كارهة للإسلام وحاقدة عليه: [إنا كفيناك المستهزئين]. المطلوب أن نرتفع إلى مستوى الحدث / الأحداث، بالرد النبيل بالتريث الحكيم، الحكيم والهاديء، المجادل بقوة الحجة والبيّنة والمسار التاريخيين للنبي الكريم، وللإسلام في عهوده الذهبية الزاهرة، عبر رصد ميزانيات معتبرة لتصوير أفلام تتناول البدايات المؤسسة والعصور الزاهرة، والأعلام المنيرة، المنيفة التي علمت الإنسانية في فترات مختلفة، وعبر العصور والأزمان والأحقاب، ندعو لها علماء الأديان من كل فج، ونجند لها إعلاما قويا عبر التلفزيون والمحطات المختلفة، وعبر المواقع الاجتماعية التي تزار. المطلوب أن نبرهن للعالم أننا شعب إسلامي يدين العنف حيثما كان، ومن أي جهة جاء؟ أن لا ننتقص من الدين المسيحي كما هو حاصل ودارج في كلامنا وأفكارنا، وما نحشو به أدمغة وعقول أبنائنا، وأدمغة الأميين منا، كالقول مثلا: أن المسيحية انحرفت وتغيرت، ولم تعد هي الكتاب المنزل على عيسى، "ابن الله" ! فيما يقول "العهد الجديد". كما يجب أن نبتعد عن حقيقة "الصَّلْب" من عدمه. فمثلما نعتقد أن الحق في جانبنا لأن القرآن حجتنا في عدم صلبه، فهم أيضا يعتقدون أن الحق في جانبهم، ودليلنا الصليب الذي يرمز إلى الفداء والخلاص، إذ يملأ الكناش والكاتدرائيات، ويزين صدور الرجال والنساء بالنفائس جميعها، ووفق تشكيلات جمالية متنوعة. وكذلك اليهود: ففوق وجوب احترامنا لدينهم التوحيدي السماوي، ينبغي عدم الخوض في إثارة تحريفية التوراة وانكتابها بعد قرون من موت موسى عليه السلام، والتباس ملوكها بأنبيائها، وَتَماهي الكتاب المقدس: (العهد القديم) بنصوص سومر وبابل وكنعان، تلك أشياء ما أن نثيرها أو يثيرها أحد الخطباء في مسجد من المساجد، حتى ترسم خيطا تفجيريا وديناميتا ينسف أسس الديانة، ويشكك في صدقيتها وحجيتها بالكامل، وينسف مدنية التعايش من أساسها. لا مناص من قبول الغير المختلف واحترام هذا الاختلاف، وتنسيب أفكارنا، أي إسقاط المطلقية عما نقول وفيما نأتي، وإلا كنا عنصريين بدورنا وأدعياء وَمُتَنَفِّجين وديكة، وطبول جوفاء. وأخطر ما في الخطورة نفسها، الوهم أو التوهم بأننا على حق، والغير على خطإ وشفير، وكفر. المطلوب أن نلجم الاندفاع ونطمر الأحقاد، وندرأ هذه المهاوي الرهيبة، ونتحسس موقعنا على الأرض ومن حولنا، حتى لا يَرِينَ طائر البغض والتنابذ والاحتراب والإرهاب، وإراقة الدماء، وإزهاق الأبدان الأرواح. ما يجري ليس حرية فردية ولا شخصية، ولا رأيا حرا ولا يحزنون، إذ أن حرية التعبير والمعتقد سارية ومقدسسة في الغرب وأمريكا بقوة دساتيرها. فالحرية مسؤولية، وعقل وعقلانية، وتقدير محسوب، واحترام للغير، للمختلف، وللمؤتلف، والمُبَايِن والمقارب. والحرية نتاج أحمر – أليس للحرية يد حمراء كما قال أحمد شوقي؟ وإذا كانت كذلك، فكيف يتيسر لمن حاز الحرية بعد تضحيات جسام دونها الدم والموت، كيف له أن يبخس قيمتها، فيطلقها من عقالها، خَابِطًا خبط عشواء، يُلَوِّحُ بسيف خشبي ذات اليمين، وذات الشمال عبثا. ما يجري هو تحريض سَافِرٌ وَعَارٍ، على الكراهية والحقد، مستهدفا دينا توحيديا عظيما، وركنا روحيا ساميا ومتعاليا لا غنى للعالم قاطبة عنه، كما لا غنى للعالم نفسه عن باقي الأديان السماوية والوضعية ما دامت تدعو إلى التسامي والمحبة، وإحقاق الآدمية الكاملة، وتكريم الإنسان. تحريض يبغي النيل من المسلمين واضعا إياهم في سلة واحدة بوصفهم جسما إرهابيا واحدا، ومشروع أمة متجانسة متضامنة في كل شيء، تهدد العالم بالخراب والدمار والموت الأسود. تحريض دُفِعَ به إلى أقصاه من حيث التجاسر على الرمز الإسلامي الأكبر: الرسول الكريم، والذي هو واحد من صناع المحبة والسلام والحوار، وقاهري الظلام في كل الأزمنة، وفي تاريخ الإنسانية والإنسان. إن رفع إيقاع التحريض على الكراهية من خلال الإساءة إلى النبي العظيم، يراد منه جرنا إلى إتيان المِثْلِ إن لم يكن أكثر، والأكثر هو ما انجررنا إليه من دون وعي، ولم نفكر في عواقبه، أي ما تَمَظْهَرَ في تخريب منشآت، وقتل أناس أبرياء ذنبهم أنهم أوروبيون أو أمريكيون. ما بهذه الصورة الهوجاء المقززة التي تنتشر عبر العالم، نربح المعركة، ولا بها نرد الاعتبار إلى الإسلام ونبيه، ونحن نأتي أشياء كمسلمين تدحض انتسابنا إلى دين المحبة والتسامح والطهر الروحاني، ونقول أشياء عبر فتاوي بعض المأفونين منا، يصل صداها جهات العالم الست فَتُضحك رَبّاتِ الحِدَادِ البواكيا كما قال أبو الطيب المتنبي. نبي الإسلام متعال، وفي غنى عن ردود أفعالنا وتهافتنا. فنحن أسأنا إليه أيضا عبر التاريخ، وعبر ما نأتي الآن، وما نأتيه وهو كثير عَرَمْرَم، يكفي أن يُلْقِمَ أفواهنا بحجارة صماء، ويَمْلأَنا خجلا وحياء إذا بقيت فينا ذرة حياء وصدقية، واستعداد للنقد الذاتي والإنخراط في ناموس الكون. وللغرب وأمريكا أقول : وجب عدم الخلط بين التحريض والحرية، ومن ثم يتعين تقديم هؤلاء الحاقدين المرضى في أمريكا وفرنسا وفي غيرهما، إلى العدالة، لأن قانون أوروبا يجرم التحريض على الكراهية ، ويتابع قضائيا أولئك الذين يدعون إليها، وينشرون الحقد والعنصرية. إحالة مضيئة : قال فولتير : "قد أختلف معك في الرأي، ولكني على استعداد لأن أموت دفاعا عن رأيك". فَتَأَمَّلْ.