إن مدرستنا اليوم هي ورش مفتوح. ولأنها تهم مصير أزيد من ستة ملايين من أبناء بلادنا، وتمثل المحدد الأكثر حسما في توجيه مسار الفرد، وتستأثر بحصة مهمة من الموارد المالية الوطنية، ولأن تدبيرها القويم يعتبر شرطا ضروريا لتحقيق تنمية بشرية عالية؛ فإنها تقع غالبا في صميم كل ا لآمال، وتشكل محط إحساس بالإحباط، أحيانا. لكنها تظل دائما مثار تساؤلات مشروعة. فالأسر اليوم، ومعها المتعلمون والفاعلون التربويون، يطرحون أسئلة لا مناص من تقديم أجوبة عنها، في عالم تحتدم فيه التنافسية يوما بعد يوم؛ عالم أضحت فيه مردودية البلدان مرتبطة ارتباطا وثيقا بأداء منظوماتها التربوية، وأصبح فيه البحث عن الكفاءات يتجاوز الحدود الجغرافية، وأضحت فيه سيادة اقتصاد المعرفة أمرا واقعا. فهل ما تزال مدرستنا تضطلع بدورها في تعليم أبناء بلادنا، على النحو الأمثل، بإكسابهم المعارف والكفايات الأساسية، التي تؤمِّن نجاحهم في الحياة؟ هل تربي المدرسة أجيالا قادرة على الإسهام في ترسيخ مجتمع مواطن؟ هل تُعِدُّ الأفراد لولوج الحياة المهنية على أكمل وجه، كل بحسب مؤهلاته؟ هل تنجح فعلا في لعب دورها، بوصفها فضاء لتكافؤ الفرص وتعميم المعرفة؟ كل هذه التساؤلات، وعديد غيرها، أسهمت في إذكاء نقاش إيجابي حول مستقبل مدرستنا، مجسدة بذلك تزايد الاهتمام بالحالة الراهنة للمنظومة. وحتى يتحول هذا الاهتمام إلى تعبئة شاملة وفعالة حول المدرسة، ويكون مبنيا على أسس متينة ووقائع موثوقة، فإن المجلس الأعلى للتعليم سبق وأن عرض نظرته حول المدرسة، وبصيغة مقتضبة نلخص المحاور الأساسية لتقريره السنوي الأول عن حالة المنظومة وآفاقها. 1. نتائج واعدة حققتها المدرسة المغربية، رغم وجود بعض الاختلالات: على الرغم من بعض الاختلالات، الناتجة عن عقود من التردد والتقلبات في الخيارات التربوية الاستراتيجية؛ فإن مدرستنا نجحت، مع ذلك، في التغلب على الكثير من النقائص، التي ظلت تتخللها. وتتجسد هذه النجاحات، التي غالبا ما تكون بارزة من الناحية الكمية، والتي أرست اللبنات الكفيلة بالتوجه نحو ورش الرفع من الجودة، في مجالات أساسية، تهم: تحديث الإطار القانوني والمؤسساتي للمدرسة؛ تعميم ولوج التربية؛ تطوير الموارد؛ التجديد البيداغوجي؛ وإرساء لبنات حكامة جديدة للمنظومة. وهكذا، فقد اقتربت المنظومة من رفع رهان تعميم التعليم. ولم يكن تحقيق هذا الهدف بالأمر الهين، بالنظر إلى المسار السابق للمنظومة: فقد بلغت نسبة التمدرس في سلك التعليم الابتدائي%94 خلال الموسم الدراسي 2006 2007، ويوجد اليوم ما يفوق مليون طفل إضافي بالمدرسة، مقارنة بالموسم الدراسي 2000 2001، كما أن أعداد المسجلين بالثانوي الإعدادي والتأهيلي تطورت بنسبة 40 % في نفس الفترة. ونجحت المنظومة أيضا في رفع رهان المساواة، بما أن التعميم واكبه تقدم ملحوظ في تقليص الفوارق في ولوج التربية؛ بحيث أضحت اليوم نسبة تمدرس الفتيات القرويات تقارب عتبة التكافؤ بين الجنسين. كما تقلص التباين بين المجالين القروي والحضري، بارتفاع نسبة تمدرس الفتيان بالوسط القروي، بما يكاد يعادل نفس النسبة المسجلة بالوسط الحضري. وقد واكب تعميم التمدرس ودمقرطة التربية تطور في الموارد البشرية والمادية والمالية المخصصة للمنظومة، حيث تم إحداث مناصب شغل للتدريس، وهو ما أسهم نسبيا في الرفع من التأطير. كما تزايد عدد المدارس الابتدائية منذ سنة 2000. وبالنسبة لقطاع التكوين المهني، فقد تم رفع العرض التكويني وتنويع مسالكه وملاءمتها، على نحو يستجيب لتزايد الطلب، سواء من طرف المتدربين أو المشغِّلين، مما أدى إلى مضاعفة عدد المتدربين في غضون السنوات المنصرمة. علاوة على ذلك، عرفت ميزانية الدولة المرصودة لقطاع التربية والتكوين زيادات مطردة منذ سنة 2000. وقد شهدت الجوانب البيداغوجية بدورها تطورات ملحوظة؛ حيث تمت مراجعة المناهج والبرامج بمختلف أسلاك التعليم المدرسي، وكذا صياغة معينات ديداكتيكية جديدة، واعتماد الكتاب المدرسي المتعدد، وإدماج مواد تعليمية جديدة، وإدراج تدريس الأمازيغية في التعليم الابتدائي. كما تمت إعادة التنظيم البيداغوجي، ولاسيما بربط التعليم الإعدادي بالثانوي، وإساء جذوع مشتركة في السنة الأولى من الثانوي التأهيلي. وعلى مستوى التعليم العالي، تم إرساء الهندسة البيداغوجية الجديدة وإحداث عدد من المسالك والتكوينات، مما سمح بتحقيق المزيد من المرونة والملاءمة مع الخيارات الفردية للطلبة في مساراتهم الجامعية، ومع متطلبات الاقتصاد الوطني. إلى جانب ذلك، نجحت المنظومة في إرساء لبنات حكامة جديدة لامتمركزة، وذلك في اتجاه ملاءمة أفضل للحاجات الجهوية والمحلية، واستجابة أنجع للمشاكل على صعيد المؤسسات التعليمية، وفسح المجال أمام إطلاق المبادرات على مختلف المستويات. وقد تجسد هذا التوجه الجديد، على الخصوص، في نقل بعض الصلاحيات المتعلقة بالتخطيط وبتدبير الموارد البشرية، والتمويل، وتتبع سير المؤسسات التعليمية إلى الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين. واتسع هذا النهج ليشمل الجامعات، التي أضحت تتمتع، بدورها، باستقلالية أكبر على المستويات البيداغوجية والأكاديمية والإدارية والمالية. وبالفعل، فإن الجامعة المغربية اليوم تحظى بوضع متميز يخول لها حرية واسعة في صياغة عرضها التربوي، ولاسيما إحداث مسالك وتكوينات جديدة، وتنويع مصادر التمويل. 2. تعثرات حقيقية ما تزال قائمة: لقد مكن الإصلاح من إرساء لبنات نموذج بيداغوجي جديد في السنوات الأخيرة. وأبانت المنظومة، والفاعلون فيها، عن قدرة حقيقية على تعبئة إمكانات هامة للمضي قدما في ورش الإصلاح، وتعزيز البنيات التحتية التربوية، ووضع هياكل مؤسساتية وتنظيمية واعدة في مسار تحديث المدرسة. وعلى الرغم من هذه المكتسبات الأكيدة، فلا أحد يمكنه اليوم أن يتجاهل اختلالات منظومتنا التربوية الناتجة، بالأساس، عن عدد من الإصلاحات المجهضة قبل أوانها، أو المطبقة على نحو انتقائي، وعن تقاطب إيديولوجي طالما رجح كفة اعتبارات ظرفية خاصة، على حساب مصلحة المتعلمين. فكثير من الأطفال ما يزالون يغادرون المدرسة دون مؤهلات، نتيجة للظروف السوسيو-اقتصادية لأسر المتعلمين، أساسا. ينضاف إلى ذلك أن نصف جماعاتنا القروية فقط تتوافر على إعدادية واحدة. وتبقى ظاهرة التكرار، التي تغذي صفوف المنقطعين عن الدراسة، مصير قرابة كل تلميذ من أصل خمسة في السلك الابتدائي. أما الأمية فما تزال نسبها مرتفعة، تحول دون استفادة اقتصادنا ومجتمعنا من طاقات هي في أمس الحاجة إلى اكتشافها. من ناحية أخرى، يبقى تعميم التعليم الأولي جد محدود، وتظل جودة عرض التربية ما قبل المدرسية حكرا، في الغالب، على بعض الأسر. والحقيقة أن مدرستنا لم ترق بعد إلى أن تصبح مؤسسة للاندماج بفرص متكافئة. علاوة على ذلك، ما تزال عدة نقائص بيداغوجية وتنظيمية قائمة؛ فجودة التعلمات الأساسية، )القراءة، الكتابة، الحساب، والتحكم اللغوي(، وطرائق التدريس، والمعينات الديداكتيكية تظل محدودة بالنسبة للتلاميذ الذين يتمكنون من البقاء في المنظومة. وكمثال على ذلك ضعف التحكم في اللغات، مع نسبة هامة من التلاميذ الذين لا يتقنون لغة التدريس )العربية(، على الرغم من استفادتهم من 3800ساعة من تعلم اللغة العربية على امتداد مراحل التعليم الإلزامي. أما التوجيه المدرسي فإنه يؤدي، في كثير من الأحيان، إلى تغليب كفة الشعب الأدبية على حساب الشعب العلمية. كما أن محدودية ملاءمة كفايات بعض الخريجين لمتطلبات الحياة المهنية ما فتئت تغذي معدل العاطلين من حاملي الشواهد. وبالنسبة لمدرسينا وأساتذتنا، فإنهم لا يحظون بالتكوين والدعم الكافيين، للقيام بالمهام المنوطة بهم على الوجه الأمثل. 3. بعض المحددات المفسرة لأهم اختلالات المنظومة: إن الاختلالات سالفة الذكر، ما هي إلا أعراض لإشكاليات أعمق تستدعي الانكباب عليها؛ ذلك أن الإصلاح المستديم لمدرستنا يتطلب، أولا وقبل كل شيء، تشخيص الاختلالات المعيقة لسير منظومتنا، والتي سيكون لمعالجتها بالتأكيد أثر إيجابي على مجموع الإصلاحات الجارية. وتتلخص أهم هذه الاختلالات فيما يلي: • إشكالية الحكامة على مختلف المستويات: على الرغم من نهج نموذج للحكامة أكثر مرونة وبصلاحيات أوسع على مستوى الأكاديميات الجهوية، فإن المنظومة لم تتمكن بعد من فتح بعض الأوراش الصعبة، من قبيل إرساء آليات لتقويم الفاعلين فيها وترسيخ مسؤولياتهم، بما يمكن من حفز الجميع على بدل المزيد من الجهود لتحسين أدائها. كما تحتاج المنظومة أيضا إلى ترسيخ آليات ملائمة للقيادة والضبط، وإلى تطوير هياكل التدبير على مستوى الأكاديميات والمؤسسات التعليمية؛ ذلك أن من مكامن ضعف آليات قيادة المنظومة كذلك، عدم توافرها على نظام شامل وفعال للإعلام يتسم بالانسجام، والتحيين المستمر والاستجابة المنتظمة لمتطلبات التدبير والتقويم والقيادة، ضمن رؤية مندمجة تقوم على التنسيق والمعيرة بين مختلف قطاعات التربية والتكوين. في ارتباط بذلك، فإن التخطيط العمودي، من قمة المنظومة إلى قاعدتها، وتضخم الهياكل، قد يفضيان إلى تكريس نهج متفرق وتجزيئي للإصلاحات، وإلى إهدار للموارد، كما هو الشأن بالنسبة للإصلاح البيداغوجي، الذي لم يواكبه تكوين ملائم للمدرسين، أو أيضا بناء مؤسسات دون تزويدها بالتجهيزات الأساسية. • ظروف مزاولة مهنة التدريس وانخراط المدرسين: يبدو أن درجة التزام المدرسين وتعبئتهم وانخراطهم في الإصلاح التربوي تظل متباينة وغير كافية، بالنظر إلى الدور الحاسم لهؤلاء الفاعلين في الارتقاء بالمدرسة. والواقع أن هذا الانخراط المحدود يترتب عنه أثر سلبي على أداء المنظومة، ولا سيما على جودة التعلمات والقدرة على الاحتفاظ بالمتعلمين. يعود ذلك بالدرجة الأولى، إلى النقص المسجل في تكوين وتأطير المدرسين، الذين يضطلعون بمهمة ما فتئت تزداد صعوبة وتعقيدا؛ ذلك أن المدرسين يواجهون اليوم ظروف عمل صعبة، لا يتم إعدادهم دائما للتكيف معها. هذا فضلا عن أن ضعف آليات التقويم والمساءلة، والتدبير المبني على النتائج، يؤدي إلى نوع من الحيف إزاء المدرسين الأحسن أداء، في مقابل عدم محاسبة المسؤولين عن الإخفاقات والنقائص. • نموذج بيداغوجي أمام صعوبات الملاءمة والتطبيق: إذا كانت المنظومة قد باشرت بنجاح العديد من الإصلاحات البيداغوجية والهيكلية، وأرست أقطابا للامتياز، من قبيل المعاهد العليا المتخصصة، وعدد من الثانويات التأهيلية الجيدة، ونظام ناجع للتكوين المهني... فإن المدرسة والجامعة ما تزالان لم تتمكنا بعد من توفير تعليم وتكوين بطرائق ومضامين وظروف عمل، في مستوى المعايير المتعارف عليها في هذا الشأن. ومن بين الأمثلة على صعوبات ملاءمة وتطبيق النموذج البيداغوجي الواقع الحالي لتدريس اللغات؛ حيث إن المنظومة لم تنجح بعد في تمكين المتعلمين من التحكم في الكفايات اللغوية. ينطبق ذلك على محدودية إتقان استعمال المتعلمين للغة العربية، التي ظل مجال استعمالها الفعلي ضيقا للغاية، لبلوغ مستوى جيد من الإتقان. ثم إن إدراج تدريس الأمازيغية في المنظومة التربوية يظل في حد ذاته حديثا ومحدودا؛ مما يجعل من مسألة تقويمه أمرا مبكرا. كما ينطبق ذلك على تعلم اللغات الأجنبية، التي يعد التحكم في استعمالها مفتاحا ضروريا للاندماج في المجتمع الحديث والعالم المهني العصري. • الموارد المالية وإشكالية توزيعها: على الرغم من أن الموارد المرصودة للمنظومة عرفت ارتفاعا ملحوظا في السنوات الأخيرة، فإن الإنفاق التربوي، بحسب كل تلميذ، يظل جد محدود، لا يتعدى نصف حجم الإنفاق بالبلدان المماثلة. كما أن الموارد المرصودة ينقصها التوزيع الأمثل، وتخصص اعتمادات أقل لمشاريع تطوير وصيانة الشبكة المدرسية والرفع من جودة التربية والتكوين. والنتيجة هي أن الاستثمارات تبقى جد محدودة في الارتقاء بالعملية البيداغوجية داخل الفصل الدراسي )معينات ديداكتيكية، تكوين المدرسين، التجهيزات الأساسية). وإلى جانب هذه النقائص، يظل تنويع موارد تمويل المنظومة جد محدود؛ حيث إن الدولة ما تزال تتحمل القسط الأكبر من التمويل، في حين تظل مساهمة الجماعات المحلية وقطاع التعليم الخاص جد محدودة. • ضعف التعبئة حول المدرسة: يبدو أن انخراط الأسرة التربوية في سيرورة حياة المدرسة ما فتئ يعرف تراجعا، في الوقت الذي تتزايد فيه حدة الصعوبات التي تعاني منها المؤسسة التعليمية، مغذية بذلك الحلقة المفرغة لضعف التعبئة ونقص الجودة. في هذا الصدد، يسائل بعض الآباء والأسر أداء المدرسة، وقيمة الشواهد التي تمنحها، في تأمين مستقبل أبنائهم، ولاسيما بالنظر إلى النسبة المرتفعة لبطالة الخريجين. ومن تجليات ضعف التعبئة كذلك، كون بعض الأسر، ولعوامل متعددة، لا تقوم بدورها في تتبع المسار الدراسي لأبنائها، خصوصا في المحطات الحاسمة من هذا المسار. للمنظومة بالتأكيد جانب من المسؤولية في تراجع التعبئة، بالنظر إلى ضعف الجهود المبذولة لتقوية جاذبية المدرسة، وتنظيم حوار مستمر مع آباء وأولياء التلاميذ، وملاءمة العرض التربوي للظروف الاجتماعية والاقتصادية للأسر وللخصوصيات المجالية، ومنح فرصة ثانية للأطفال المنقطعين عن الدراسة. كذلك، فإن غياب ريادة قوية تمكن من التحسيس بمشاكل المدرسة وحفز مختلف المتدخلين للمساهمة في حل مشاكلها، يحرم المدرسة من تلاقي مختلف الإرادات التي من شأنها السهر على السير الأمثل لها ودعم إدارتها التربوية. وفي الواقع، فإن المدرسة في أمس الحاجة إلى دعم فعلي يمكنها من الارتقاء بظروف التدريس والتعلم والتخفيف من عبء المشاكل التي تعترضها، ولا سيما تلك الخارجة عن مسؤوليتها، وما أحوجها كذلك إلى اهتمام ومساعدة الأوساط الفكرية والإعلامية والسياسية بالبلاد. 4. ما هي مداخل العمل من أجل إنجاح مدرسة للجميع؟ في ضوء تشخيص مكامن الخلل، واستخلاص الدروس، يتعين اليوم الانتقال إلى الفعل، باتخاذ التدابير اللازمة لإعطاء نفس جديد للإصلاح؛ ذلك أن الشروط تعد مواتية اليوم للانخراط بكل حزم وإرادة في مرحلة جديدة لإعادة تأهيل مدرستنا؛ مرحلة كفيلة بتجسيد آثار الإصلاح في عمق الفصل الدراسي والمؤسسة التعليمية، وكسب رهان الجودة، وإحراز نتائج ملموسة، يكون وقعها مباشرا على المتعلمين. لتحقيق هذه الغاية، يتعين ملاءمة المقاربة المعتمدة في تدبير قضايا المدرسة، بالعمل على التحديد الدقيق لمهامها، وبالارتكاز على منطق جديد في التطبيق، وعلى مبادئ موجِّهة واضحة ومعلنة. في هذا الصدد، يتعين اليوم تحديد مهمة المدرسة المغربية، على نحو يجعلها تشكل أفقا مشتركا لمختلف المعنيين بالشأن التربوي، وذلك بتزويد مواطني الغد بالمعارف والكفايات والقدرات الاجتماعية الأساسية، التي من أشنها أن تتيح لهم النجاح في مشروع حياتهم، تبعا لاختياراتهم الشخصية. من هذا المنطلق، ترتكز مهمة المدرسة على تعليم المعارف والكفايات الأساسية للمتعلمين حتى يتمكنوا من تحقيق طموحاتهم الفردية، وذلك بضمان اكتساب المعارف التي تهدف إلى تنشئة المتعلم وإعداده للحياة العملية؛ تلك هي الأهداف التي يمكن، على أساسها، مساءلة المدرسة والحكم عليها. في ارتباط بملاءمة المقاربة، ينبغي اعتماد منطق جديد لتطبيق الإصلاح، يقوم على المشاريع والنتائج، لا على المراسم والقرارات العمودية. ومن شأن هذه المقاربة العملية، إذا ما تم اختبارها بدقة، وتقويم آثارها وتعميمها، أن تساعد على القيام باستدراكات وإحداث تغييرات عميقة ومستدامة للمنظومة، ترتكز، بالأساس، على خمسة مبادئ موجِّهة: • إعادة تركيز الاهتمام على التعليم الإلزامي: وذلك بمحورة الجهود على أسلاك هذا التعليم، عبر متابعة خاصة للأجيال المقبلة التي تلج المنظومة التربوية للمرة الأولى، انطلاقا من الدخول المدرسي المقبل؛ • التطبيق المنهجي للمقاربة التصاعدية في التخطيط وفي رصد الموارد: من خلال تحديد الأهداف بالانطلاق من المستوى المحلي، أي من الجماعات المحلية، مع الترسيخ الفعلي لمسؤولية المدبرين المحليين للمنظومة، وفق مهام محددة؛ • جعل المتعلم واحتياجاته في قلب الإصلاح: باستهداف الفصل الدراسي، )التخفيف من الاكتظاظ، ودعم التلاميذ(، وإرساء آليات لتتبع توفر الشروط البيداغوجية الأساسية، )المدرسون، وسائل العمل، الكتب...(؛ • إزالة الإكراهات الخارجة عن مسؤولية المدرسة: حيث إن التصدي لأهم العوائق أمام تحقيق مردودية جيدة، (حالة البنايات، المشاكل الاجتماعية للتلاميذ، السلوكات اللامدنية(، من شأنه أن يمكن المدرسة من الاضطلاع بمهمتها على الوجه الأمثل. • رصد الموارد اللازمة لتحقيق الجودة المطلوبة. 5. ثلاثة فضاءات ذات أولوية للعمل: أ. جبهة تكافؤ الفرص، بالتفعيل الحقيقي لإلزامية تعليم جميع الأطفال المغاربة إلى غاية بلوغهم 15 سنة من العمر: يتمثل الرهان الحالي في رفع تحدي دمقرطة التعليم بالحفاظ على التلاميذ في المدرسة، لأكبر مدة ممكنة. يتطلب تحقيق هذا الهدف إنجاز مشاريع تخص الأسلاك الثلاثة للتعليم الإلزامي: • التدخل على مستوى التعليم الابتدائي: من خلال بلوغ هدفين اثنين: التعميم التام للتمدرس، وتحسين معدل الاحتفاظ بالتلاميذ في المنظومة. يظل تحقيق هذين الهدفين رهينا بتنويع العرض التربوي والرفع من جودته، في مدرسة متعددة الأساليب، مع تشجيع الأنشطة التربوية والثقافية والرياضية المندمجة، والعناية بالمتعلمين ذوي الحاجات الخاصة، وكذا بالتركيز على المعارف الأساسية )القراءة والكتابة والحساب(، عبر نهج مقاربة بيداغوجية تراعي حاجات وخصوصيات كل متعلم على حدة، وتعزيز الدعم التربوي، بوصفه أنجع بديل للتكرار. • التدخل على مستوى التعليم الإعدادي: تمر دينامية هذه الحلقة الحاسمة من المنظومة، عبر توطيد دور المدرسة الإعدادية في ترسيخ المعارف والكفايات الأساسية، وتنمية استقلالية التلاميذ، في إطار إعدادهم لممارسة مواطنتهم، وتمكينهم من اكتشاف مهاراتهم الفردية. ويمكن تحقيق هذه الأهداف بتعزيز تأطير الإعداديات، والانخراط في برامج جريئة لتوسيعها وتجديدها، والرفع من نسبة تغطيتها بالوسط القروي، وإعادة الاعتبار لدبلوم التعليم الإعدادي. • التدخل على مستوى التعليم الأولي: يمكن أن تنتظم المبادرات اللازم اتخاذها في هذا الشأن حول هدفين اثنين: إرساء مفهوم بيداغوجي جديد لتعليم أولي عصري، يراعي هويتنا الوطنية وخصوصياتنا الثقافية؛ وإنجاز مشاريع رائدة، يتم على أساسها اختبار هذا المفهوم الجديد، في اتجاه العمل على تعميمه تدريجيا إلى غاية 2015. ب. جبهة استقلالية الجامعة والامتياز في التعليم ما بعد الإلزامي وفي التكوين المهني: إن الثانويات التأهيلية، التي من المنتظر أن تستقبل أعدادا متزايدة من الشباب المغاربة، في حاجة إلى إعدادها لرفع حصتها من التحدي التربوي. وذلك، بإعطائها استقلالية أوسع، ومدها بوسائل عمل تخول لها الانخراط في برامج تربوية أكثر تنوعا. ومن شأن جودة وتنوع هذه المشاريع أن يعزز تطور الثانويات التأهيلية المغربية، في اتجاه البحث المستمر عن الابتكار والامتياز. ومن بين المبادرات الواعدة في هذا الشأن، إرساء ثانويات مرجعية، وإحداث شعب متخصصة في المهن أو الرياضة أو اللغات... أما على مستوى التعليم العالي، فإن تطوير الجامعة يستدعي تعميق استقلاليتها من خلال ثلاثة مناح: أولها استثمار كل الإمكانات التي ينص عليها القانون رقم 00 - 01 ، والارتقاء بآليات الحكامة الجيدة، واستكشاف فضاءات جديدة للاستقلالية، في اتجاه جامعة أكثر إنتاجية، تكون في مستوى رهانات التنافسية الدولية، وذلك، بناء على مشاريع يتم تقويمها، في إطار علاقة تعاقدية مع الدولة. في هذا الصدد، تنتظر الجامعة المغربية تحديات كبرى ترتبط بتطوير البحث العلمي والابتكار، بوصفهما قاطرة للنمو الاقتصادي والتنمية. وهو خيارضروري، وليس مجرد ترف فكري، وإن تعلق الأمر بمجتمع يعاني من نسبة عالية من الأمية، ومن ضعف جودة التعليم الأساسي. لذا، تظل تنمية البحث العلمي هدفا في متناول بلد كالمغرب؛ وذلك بالعمل على ثلاث واجهات أساسية: • توسيع القاعدة العلمية للبلاد، من خلال تعبئة المزيد من الباحثين المغاربة، داخل الوطن وخارجه، بل وتعبئة الباحثين الأجانب أيضا، عبر محفزات علمية ومادية، حول مشاريع وطنية للبحث العلمي. • مد القنوات والجسور مع المراكز العالمية للابتكار العلمي، ومواكبة حركية الكفاءات العلمية والتقنية عبر مختلف أرجاء العالم، بإبرام شراكات ذات قيمة مضافة عالية مع مراكز البحث الدولية، على أساس مبدأ الفائدة المتبادلة. • توطيد أو إطلاق مبادرات موجهة للبحث والابتكار، تستهدف مجالات محددة وذات قيمة مضافة، بتعاون مع النسيج المقاولاتي، من قبيل البيوتكنولوجيا والنانوتكنولوجيا، والاقتصاد الرقمي، والطاقات المتجددة والصحة والبيئة...، وتسهيلها عن طريق آليات تشجيعية من قبيل: تدابير ضريبية ملائمة، عقود برامج، رأس مال اُخمطر، حاضنات للمقاولة داخل المؤسسات الجامعية... ت. جبهة القضايا الأفقية: يتعلق الأمر بالقضايا التي ما فتئت معالجتها تتأجل إلى اليوم. وهي قضايا من شأن إيجاد حلول ملائمة لها، أن يكون له أثر حاسم على جودة المنظومة، وتهم، أساسا: • انخراط المدرسين وتثمين مهنتهم: وذلك بحفز المدرسين، وترسيخ مسؤوليتهم وتدقيق مهامهم في اتجاه مهننتها، باعتبارهم الفاعل الأساسي في إنجاح العملية التربوية. وتتمثل الإجراءات اللازم اتخاذها في هذا الشأن في بلورة تعاقد للثقة بين المدرس والمدرسة، بتقديم أجوبة جديدة لمشاكل الغياب غير المبرر والدروس الخصوصية المؤدى عنها، واستعمال القطاع الخاص لمدرسي القطاع العمومي. • الحكامة القائمة على ترسيخ المسؤولية: إن اللاتمركز، وتوضيح المسؤوليات وتدقيقها، وتعميم ثقافة وآليات التقويم، تعد مقومات ضرورية لإرساء نظام لقيادة المنظومة، يقوم على ترسيخ المسؤوليات لدى الفاعلين فيها. ويتمثل الهدف في إعادة تنظيم المنظومة التربوية في إطار مؤسسات متوسطة الحجم، تسمح بالمعالجة الناجعة للمشاكل. وتتمثل الخطوة الأولى في الاتجاه نحو لاتمركز ترابي ووظيفي، يتيح تخويل الاستقلالية الإدارية والبيداغوجية للمؤسسات التعليمية، مع احتفاظ للإدارة المركزية بتدبير الجوانب الاستراتيجية المرتبطة بتوزيع الموارد، وتحديد التصورات المتعلقة بالمناهج والبرامج، والتنشيط، والتقويم، في حين تمنح للمؤسسات المزيد من الموارد، بإدارة تربوية ومجالس للمؤسسات أكثر نجاعة وفعالية. أما الخطوة الثانية، فتتمثل في نهج لامركزية تهدف إلى إشراك أقوى وأوسع للجماعات المحلية في حياة المدرسة، من خلال شراكات مستدامة مبنية على مبدأ القرب؛ تضطلع بموجبها الجماعات المحلية بمسؤوليات جديدة على مستوى البنايات والتجهيزات والصيانة وأمن المؤسسات التعليمية. مما من شأنه أن يسمح للمدرسة بتركيز الاهتمام على مهامها التربوية والثقافية، وغيرها من الأنشطة المندمجة. • التحكم في اللغات: يتعين على المنظومة نهج مقاربة جديدة للرفع من كفايات إتقان المتعلمين للغة الوطنية وللغتين أجنبيتين، على الأقل. في هذا الصدد، تقتضي تقوية اللغة العربية، في المقام الأول، بذل مجهود خاص يتجه نحو تحديث طرق تدريسها وتطوير آليات معيارية لتقويم مستوى التحكم فيها بانتظام؛ وكذا تركيز الجهود على إعداد مخطط موجِّه للتحكم في اللغات الأجنبية، يُعنَى بتجديد تقنيات تدريسها وإتقان الكفايات التواصلية؛ الكتابية والتعبيرية، واعتماد برامج لتعميق تكوين المدرسين في اللغات، وتقوية الدعم التربوي في هذا الشأن. كما يتعين تمكين أكبر عدد من التلاميذ من تعلم الأمازيغية، التي تعد تراثا مشتركا لجميع المغاربة، وبلورة إطار عمل وطني واضح يحدد وضعها في المنظومة التربوية. • التوجيه التربوي وإعادة التوازن بين المسالك: من أجل ملاءمة أفضل للمدرسة وحاجات المحيط الاقتصادي، يتعين مراجعة وظيفة التوجيه داخل المنظومة، وإعادة التوازن بين المسالك وتحديد الكفايات الواجب اكتسابها من قبل المتعلمين، في السلكين الثانوي والعالي. فعلى مستوى المسالك، يتعلق الأمر بعكس مجرى تدفقات نظام التوجيه، في اتجاه الرفع من نسب التوجيه نحو المسالك العلمية والتقنية. وبالنسبة للكفايات، فيتعين التركيز على إكساب المتعلمين مهارات النقد والمبادرة والحركية الثقافية والاقتصادية، ولا سيما عبر تشجيع التدريب بالوسط المهني والجمعوي. ومن أجل ذلك، يمكن أن ينطلق العمل بمجهود استكشافي، على المستوى الجهوي، لمهن وحرف المستقبل، وبمباشرة عملية التوجيه ابتداء من السنة الثانية من الإعدادي، فضلا عن تقوية هذا النظام برفع عدد مستشاري التوجيه، وبتفعيل الشبكات المحلية للتربية والتكوين. 6. من أجل تعاقد لتجديد الثقة في مدرسة للجميع، وتعزيز تقدمها: إن الفرصة المتاحة اليوم لتجديد مدرستنا يجب أن تستثمر في اتجاه الدخول في زمن جديد؛ زمن الفعل والنتائج الملموسة، وهو ما يمر، بالضرورة، عبر المزيد من التعبئة حولها، وتوفير الوسائل اللازمة، وتقوية انخراط الأسرة التربوية في مشاريع تنميتها. ولكي تكون التعبئة ناجعة، وجب تنظيمها وتحديد آلياتها وأهدافها بشكل أدق، حتى تصبح مهمة طبيعية ضمن النشاط العادي لمديري المؤسسات التعليمية والفاعلين المحليين والإدارة الترابية والمجتمع المدني. من هذا المنظور، ستتوافر كل أكاديمية، وكل نيابة، وكل مؤسسة، على بنك للمشاريع والمبادرات المفتوحة على الشراكة والتعبئة، على نحو يمكنها من التجاوب مع كل فكرة خلاقة، أو مشروع مبتكر. ومن المؤكد أن «التعبئة من الأعلى » ستكون أكثر فعالية إذا نجحت في تحقيق نوع من الانسجام لتَمثُّل المؤسسة التعليمية، وتنظيم النقاش العمومي حول المدرسة، وجعل الفضاءات المؤسساتية المحلية للتشاور والتعبئة، )مجالس التدبير، وجمعيات آباء التلاميذ بالخصوص(، أكثر فعالية. كما أن دعم المدرسة يرتبط بتمكينها من الوسائل الضرورية لنجاحها. ففي مختلف أرجاء العالم، تتطلب الإصلاحات تكلفة ضخمة تتحملها الدولة والمجتمع. وبالنسبة للمدرسة المغربية، فإن هذه التكلفة جد هامة، بالنظر إلى التحديات التي تواجهها، ولاسيما تحدي تدارك التأخير والانخراط في مسار الجودة والامتياز. ولا حاجة للتأكيد على أن الاستثمار في تربية أبنائنا وفي تكوين شبابنا يعد السبيل ا أ لمثل لتهيئ غد أفضل لبلادنا. في هذا الصدد، يتعين توجيه المجهود المالي الإضافي عبر آلية خاصة للتمويل والبرمجة، في شكل صندوق خاص أو قانون إطار. ومن شأن هذه الآلية استقبال التمويلات العمومية الإضافية، وكذا مساهمات مختلف الشركاء الخواص والمؤسسات المانحة، في إطار ميزانية الدولة، قبل نهاية الدورة التشريعية الحالية. وستُتيح هذه الآلية، بتركيزها، أساسا، على الأوراش ذات الأولوية المتعلقة بالتعليم الإلزامي، رؤية أكثر وضوحا في البرمجة، ومرونة أكبر في التدبير، وتقويما أفضل للنتائج. كما أنها ستشكل رافعة لاستقطاب المزيد من الموارد المالية وتنويع مصادرها. في مقابل هذا المجهود المالي، ينبغي تقوية ترشيد الموارد من طرف القطاعات الوصية على المنظومة، المدعوة إلى استغلال الموارد وإمكانات عقلنة التدبير المتوفرة. وأخيرا، فإن إنجاح مشروع مدرسة للجميع يستدعي إرساء تعاقد جديد مع هيئة التدريس، أساسه الثقة في المدرسة المغربية، وتعزيز سبل تقدمها؛ ذلك أن الأسرة التربوية ما فتئت تثابر، وفي ظروف صعبة أحيانا، على إنجاح أجيال توجد في عهدتها. ويمكن أن ينتظم هذا التعاقد حول دينامية حوار اجتماعي بناء بين مختلف الأطراف المعنية، قوامه ضمان حق التلاميذ في تعليم ذي جودة، وتجديد مهنة التدريس في اتجاه مهننتها وتثمينها، مع التعاقد على أهداف محددة وقابلة للتقويم والتطوير، من شأنها أن تجعل هيئة التدريس تضطلع بدورها الحاسم في إنجاح الإصلاح العميق لمنظومة التربية والتكوين.