كثر الحديث في الآونة الأخيرة على ضرورة إصلاح مرفق القضاء والعمل على ضمان استقلاليته كسلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية في إطار تنزيل مضامين دستور 2011 الذي أسس لبداية ربيع حقوقي جديد يعرفه المغرب، وقد سال مداد كثير وفتحت العديد من الأفواه في سبيل الحديث عن مظاهر استقلال القضاء في زمن كثر فيه الحديث أيضا عن أوراش الإصلاح. والحقيقة إن المتتبع لكل ما يقال يجد أن الحديث عن هذا الموضوع تحول إلى غاية لا مجرد وسيلة لثرجمة هذا الاصلاح المنشود، و يحس أن القائمين على هذا الورش المفتوح منذ زمن ليس ببعيد غير مدركين للواقع الذي أصبحت عليه المحاكم، وطبيعة العلاقة التي تربط فعلا جهاز القضاء بباقي السلط خاصة السلطة التنفيذية. فبدون الدخول في مقارنة لن تكون أبدا لصالح السلطة القضائية بين ظروف اشتغال السادة القضاة وبين الموظفين التابعين للسلطة التنفيذية يمكن الإشارة إلى العديد من المناسبات التي تظهر فيها صعوبة تحقيق استقلالية الجهاز القضائي في مواجهة السلطة التنفيدية على أرض الواقع، ذلك أن المنطق السليم يفرض أنه لا يمكن تحقيق استقلالية حقيقية في قرارات السلطة القضائية إذا لم تكن هذه الإستقلالية تترجمها استقلالية حقيقية في ظروف ووسائل إشتغال جهاز القضاء بشكل يجعل القضاة يحسون أنهم مستقلون فعلا وأن العلاقة بينهم وبين باقي السلط هي علاقة ندية واستقلال، لا علاقة تبعية واحتياج، وهي علاقة لا تمنع من إمكانية وجود نوع من التعاون. ويمكن أن نضرب أمثلة كثيرة عن العلاقة المركبة التي تجمع السلطة القضائية بباقي السلط والتي تجعل من كل خطاب عن الإستقلالية المنشودة مجرد كلام نظري مرسل بعيد كل البعد عن الواقع العملي الذي تشتغل فيه المحاكم. فعلى سبيل المثال لا يخفى علينا أن الكثير من القضاة يشتغلون في مناطق نائية تفتقر إلى البنية التحتية دون أن يكون لهم الحق في استيفاء تعويضات محترمة عن مصاريف التنقل خاصة إذا تعلق الأمر بجلسات المراكز أو الجلسات التنقلية ولا الحق في التوفر على الوسائل اللازمة للعمل في هذه الظروف. وفي كثير من الأحيان يضطر القضاة إلى الإستعانة بوسائل النقل التابعة إلى وزارات أخرى كوزارة التجهيز أو وزارة الداخلية، وذلك بتأطير من المسؤولين القضائيين بالمحاكم التي يعملون بها، وهي مسألة فرضتها الظروف المناخية أو التضاريسية للعديد من المحاكم، فبالنظر إلى صعوبة التضاريس أو قساوة المناخ يعجز القضاة عن التنقل إلى بعض المراكز بواسطة سياراتهم الخاصة إن كانوا يتوفرون على سيارة خاصة، كما أن السيارات التي زودت بها وزارة العدل بعض المحاكم لا تكفي لتغطية كل الجلسات التنقلية المعقودة خارج أسوار المحاكم، بل إن العديد من المسؤولين القضائيين يلجأون أحيانا للمماطلة والتسويف كلما أراد السادة القضاة استعمال السيارات المخصصة للمحاكم ويتذرعون بعدة ذرائع أهمها كون أن هذه السيارات غير صالحة للطرق غير المعبدة أو أنه لا توجد ميزانية خاصة للبنزيل أو لا يوجد سائق رهن إشارة المحكمة.. ويبقى الحل في مثل هذه الحالات هو أن يتصل المسؤول برئيس المجلس البلدي أو بأحد المسؤولين الجهويين في وزارة الداخلية أو التجهيز ليستعير منهم سيارة المصلحة رباعية الدفع لنقل الهيأة القضائية لمكان الجلسة التنقلية، وهو ما يحدث بشكل متكرر إذ يتنقل السادة القضاة تحت ضغط إكراهات الواقع إلى جلسات المراكز على نفقة السلطة التنفيذية وبوسائلها الخاصة. وقد أصبحت هذه الصورة أكثر ترسخا بعد اقرار قضاء القرب حيث أضحى القضاة مطالبون بالانتقال إلى جماعات قروية عديدة تبعد أحيانا بمئات الكيلومترات عن مراكز عملهم لعقد جلسات قضاء القرب، مع العلم بأن الدولة لم توفر لهم بعد الوسائل اللازمة لعملهم لا من حيث وسائل التنقل ولا من حيث مقرات عقد الجلسات، إذ يضطر القضاة في كثير من الأحوال إلى الانتقال إلى الجماعات المذكورة على متن سيارات المنتخبين أو ممثلي السلطة وبعض الأعيان، بل وعقد جلساتهم أيضا بمقرات الجماعات بشكل قد يوظف مفهوم قضاء القرب الذي كان الهدف منه هو تقريب القضاء للمواطنين لأغراض أخرى سياسية وانتخابوية ضيقة. الصورة الثانية لصعوبة استقلال جهاز القضاء عن باقي السلط أسوقها من واقع بعض المناسبات الرمزية التي قد تتطلب من المحاكم تنظيم احتفاليات خاصة إما في الأعياد الوطنية أو في باقي المناسبات كحفلات تنصيب المسؤولين القضائيين، ففي كثير من الحالات يتفضل السيد العامل أو الوالي أو رئيس الجماعة أو بعض أعيان المنطقة بتنظيم هذه الحفلات على نفقاتهم الخاصة أو بمعنى أدق على نفقات الأجهزة التي يمثلونها وهو ضرب لمبدأ الاستقلالية التي تتشدق العديد من الجهات بالحديث عنها، لأن السلطة القضائية تبدو في هذه الحالات وكأنها ولظروف وإكراهات اقتصادية تمد يدها و"تتسول" المعونات من باقي الأجهزة التابعة لباقي السلط، بل ولا ترد يد لامس من مانحي المساعدات.. وهو ما يؤكد أن كل ما يقال أو يكتب عن مفهوم السلطة أو الاستقلالية يبقى مجرد تنظير بعيد كل البعد عن أرض الواقع.. الصورة الثالثة أسوقها من خلال البحث في طبيعة العلاقة بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية بعد المصادقة على الدستور الجديد، وأحب في هذا الصدد أن أطرح السؤال التالي: هل ثمة بوادر للتغير والتحول في طبيعة العلاقات التي تربط وزارة العدل والحريات خصوصا بالجسم القضائي، وهل استوعبت هذه الوزارة الآفاق الجديدة التي أسستها مواد الدستور الجديد للسلطة القضائية لا من حيث الاعتراف لها بالاستقلالية في مواجهة باقي السلط، ولا من حيث الاعتراف لمكوناتها أي للقضاة بمجموعة من الحقوق في مقدمتها الحق في التعبير وتأسيس جمعيات مهنية مستقلة عن السلطة التنفيذية؟ إن مرور سنة على المصادقة على الدستور الجديد تكشف وجود واقع لا يرتفع يتجلى في كون السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل والحريات لم تستوعب بعد المستجدات التي كرسها الدستور الجديد في الشق المتعلق بالسلطة القضائية وهو ما ظهر في العديد من المناسبات كان من بينها يوم 20/08/2011 الذي تم فيه بشكل سافر خرق أول حق كرسه الدستور الجديد للقضاة وهو الحق في تأسيس جمعيات مهنية تمثلهم، إذ لم تستسغ جهات عديدة في مقدمتها السلطة التنفيذية، فكرة قيام قضاة بخلق إطار جمعوي مهني مستقل تماما عن وزارة العدل وبدون مباركة هذه الأخيرة، فسعت هذه الجهات في محاولة يائسة إلى وأد هذه المبادرة من خلال منع الجمع العام التأسيسي لنادي قضاة المغرب في أول امتحان تتعرض له بنود الدستور الجديد. وهي المحاولة التي باءت بالفشل أمام اصرار القضاة على عقد جمعهم المذكور بالشارع العام الذي سيبقى شاهدا على غياب إرادة سياسية حقيقية للاعتراف للقضاة بهذا الحق. دون أن ننسى الخرجات الاعلامية اللافتة للسيد وزير العدل والحريات في مواجهة أعضاء الجمعية المهنية لنادي قضاة المغرب، إذ لم يتوانى سيادته على إشهار سلاح واجب التحفظ في مواجهة قضاة النادي أكثر من مرة وتهديدهم بإمكانية إحالتهم على المجلس الأعلى للقضاء في حال قيامهم بتنفيذ الأشكال التعبيرية التي قررتها جمعيتهم المهنية للدفاع عن استقلالية السلطة القضائية، بل واعتراف الوزير نفسه أنه يتحسر رفقة من أسماهم ببعض "الحقوقيين" على اخراج وزارة العدل من تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية معتبرا ذلك نوعا من التسرع. دون أن ننسى تراجعه عن الوعد الذي قطعه على نفسه غداة توليه منصب الوزارة بضمان حق نادي قضاة المغرب في المقر والدعم المالي الذي تمنحه الدولة بهذا الخصوص، كمحاولة لمساومة النادي على مواقفه ومبادئه. وهناك حالات ومظاهر كثيرة أخرى تؤكد أننا بعيدون كل البعد عن اعتبار القضاء سلطة فعلية، وبأن جانبا كبيرا من القضاة مقتنعون بأنه في ظل الظروف التي يشتغلون فيها من الصعب أن يخطر ببالهم ولو للحظة يسيرة أنهم يمثلون سلطة، خاصة مع ضيق ذات اليد منذ اليوم الأول للتعيين، وقلة الضمانات الحقيقية والملموسة الممنوحة لهم حماية لاستقلاليتهم.. الشيء الذي يتأكد من خلال عشرات القصص المتكررة للاعتداءات التي بات القضاة يتعرضون لها من طرف جهات عديدة، فضلا عن الاعتبارات التي تحكم المسار المهني للقضاة أنفسهم والغموض الذي يلف المعايير المعتمدة في تنقيلهم أو تعيينهم أو حتى في تأديبهم، دون أن ننسى المعايير المعتمدة في تنقيطهم من طرف بعض المسؤولين. إلى جانب مسلسل التضييق الذي بات يستهدف مؤخرا القضاة المنخرطين في نادي قضاة المغرب كامتحان جديد لكل المعنيين بالتنزيل المسؤول والفعال لدستور 2011، وهي حيثيات تتراكم وتؤكد أننا لا زلنا بعيدين عن وجود سلطة قضائية مستقلة، كما تدفع للاعتقاد بوجود جيوب مقاومة كثيرة تحاول التدخل إما علنا أو بشكل خفي من أجل تعطيل كل المبادرات الهادفة من أجل بناء صرح هذه السلطة القضائية المنشودة. وما يزكي هذا الاعتقاد الطريقة التي تتعامل بها الجهات المكلفة بالإصلاح مع ملف إصلاح منظومة العدالة من مماطلة وتسويف تصل إلى حد اللامبالاة، والرغبة في إقصاء الفاعلين الرئيسيين في مجال العدالة ومحاولة الاستئثار بإدارة الحوار تحت عدة مبررات تبدو غير مقنعة، الشيء الذي يؤكد أن طريق إصلاح منظومة العدالة بالمغرب لا يزال طويلا، ولا تكفي سنة واحدة من إقرار الدستور الجديد لتقديم أدلة ملموسة على وجود بوادر حقيقية للتغيير. وإن كانت ثمة بعض مؤشرات ايجابية بدأت تنمو مع ظهور نادي قضاة المغرب كفاعل جديد على الساحة القضائية والحقوقية بالمملكة. مؤشرات تنبني على اعتقاد بات صميما لدى القضاة مفاده أن استقلالية السلطة القضائية تنتزع ولا تعطى. *عضو نادي قضاة المغرب