( 1 ) "" إن انتقاداتنا المستمرة للمشرفين على تدبير الشأن العام للأمة ، من سلطات عمومية وسياسيين وبرجوازيين ونقابيين وجمعويين وإداريين وإعلاميين ، ولسياسة الدولة عامة على المستويين الداخلي أولا والخارجي ثانيا ، التي تسوء سنة بعد أخرى منذ الاستقلال إلى يومنا ، هي ليست تحاملا مجانيا مرسوما وبعيدة عن أي نوع من المزايدات السياسوية أو المواقف الإنفعالية كما قد يبدو لبعض متقزمي الفكر والرأي . بل هي استنتاجات تحاليلنا – وإن كانت بدائية ورتيبة - لأوضاع بلادنا ، تستمد مقاييسها من عمق المجتمع حيث نلامس صورها في كل زوايا حياتنا ، ونابعة من صدق حبنا لأجدادنا وآبائنا وأولادنا وأحفادنا ووطننا بكل أركانه ، غايتنا في ذلك تحقيق الكرامة لشعبنا ووسيلتنا نبضات قلبنا وعصارة عقلنا وهي أضعف وأقوى ما لدينا . وهذا هو شعار رأينا لا نتوخى منه غير إسعاد حاضرنا ومستقبلنا واستمرار وحدة مغربنا . ( 2 ) قبل عقد من الزمن كان لحياتنا طعم ولون ومعنى : كنا نعتز بوطنيتنا وبقيمة وجودنا بين جيراننا وأشقائنا وأصدقائنا وأعدائنا . كنا نحس بشيء من الحب والدفيء في قريتنا ومدينتنا ومغربنا ، وبلذة مناسباتنا الوطنية والدينية وبتوالي فصول السنة الأربعة ... كنا على علم باستمرار حياتنا بحلوها ومرها ... كنا تعساء وسعداء . كانت الحياة في بلدنا شبه مهذبة ومنظبطة في سلوكها وممارستها ، ويسيرة التكاليف تستهوي المتمردين على عنف الحياة وأصحاب الذوق الرفيع وكل من يضطهدهم صخب العصر . فرغم عجرفة السلطة القائمة واستكبار قيادتها وقسوة حاشيتها ، ورغم الفساد الإداري والاقتصادي والإحتقان السياسي والاجتماعي كانت حياتنا سهلة في بساطتها ببركة ورحمة ربنا ، وحنكة وشجاعة حكامنا : فإسم الله كان مرفوعا وكتابه مقدسا وبيوته معززة وأخلاق نبيه مصونة فكان سبحانه لا يبخل على الصبيان والبهائم والطبيعة بخيره ورحمته الواسعة ، وكان حكامنا يخجلون من جوعنا المفضوح وتسولنا المقر ف وفساد أخلاقنا وأجسادنا المقيت ولا يرضيهم ذلنا بين الشعوب ، ويهابون الفتنة الشعبية . فعندما كان يستفزنا أعداؤنا أو يضيق حالنا وترتفع درجة حرارة الإحتقان الاجتماعي كان الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله يكتفي بالنقر على طاولته بأصبوعيه – من دون أن يكسرها بقبضتي يديه ويجحض عينيه ويبسق على مشاهديه ومستمعيه كما كان يفعل الأبطال الورقيون – معبرا عن غضبه على أقزام السياسة فيبتلعون ألسنتهم قبل أن ينهي خطابه ، وعلى الانتهازيين واللصوص ومصاصي دماء الشعب فترتعش أجسامهم وتكاد أن تنفلت أرواحهم من صدورهم ويهرولوا جميعهم ، يهود ومسيحيون ومسلمون حتى وإن كانوا نائمين في كنف السعادة السويسرية أو الكندية ، ليهدؤوا من روعته ويوفروا للشعب كل حاجياته المادية والمعنوية قبل أن يستفيق من نومه ... وحتى الأحزاب البرجوازية أو الإدارية – كما كنا نسميها على قدر سذاجتنا في تبعيتنا لتلك التي كنا نصفها بالشعبية بفصيلتيها ( اليسارية والإسلاموية ) بفعل التنويم المغناطيسي الذي كانت تمارسه علينا بصورها البطولية المزيفة – كانت لا تبتلع إلا نصفنا وتترك لنا نصف حياتنا ، بلسان ثقافتنا كانت " تتكل وتوكل " . ورغم ظغوط أعداء قوميتنا وضغينة حساد وحدتنا الترابية ومكر مفسدي وحدتنا الوطنية ، وجشع السلطويين والبرجوازيين والسياسيين المارقين ، وضعف مواردنا وقسوة طبيعتنا ، والأزمات الاقتصادية العالمية المفتعلة ... كانت أسعار المواد الأساسية لاستمرار حياة الطبقة الشعبية - ولست أدري لماذا نسمي الفقراء والبؤساء من الشعب بصالحهم وطالحهم وهم السواد الأعظم من المواطنين بالطبقة الشعبية وكأنهم هم الشعب وغيرهم دخلاء . وفي حقيقة الأمر هذا هو المعنى الصحيح للتسمية لكون مبدعيها ، الذين جعلوا منها حدود العار بينهم وبين الشعب انسجاما مع فكرهم العنصري الذي سبق وأن أثبتناه في عدة مقالات ، مغاربة بالإسم فقط ) قلت كانت تلك الأسعار لا تخدش كرامة المرأة والطفل ولا الرجل : فثمن الدقيق الشعبي ( العادي ) كان لا يتجاوز ثلاثة دراهم والسكر أربعة وزيت المائدة ستة وزيت الزيتون ثمانية أو تسعة ، والطماطم درهما أو درهمين والبطاطس درهمين أو ثلاثة ، والقطاني أربعة أو ستة ، والأسماك الشعبية خمسة أو عشرة دراهم واللحوم الحمراء ما بين ثلاثين وأربعين درهما ... وكانت فرص الدخل البسيط متوفرة ، وأجور الموظفين والعمال تلامسها الزيادات من حين لآخر ولو بنسبة ضعيفة . كان الدخل بسيطا لكنه متوفر ويضمن استمرار حياة أسرة ، كانت خمسون درهما تشبع أفرادها وعشرون تقنعهم وبركة ربنا موجودة ... وظواهر التسول المخجل والسرقة المعاشية وصراع الجياع على صناديق القمامة ، والتشرد المؤلم والدعارة المهينة والشذوذ المخزي والتمرد الأخلاقي كانت تحارب بشكل أو بآخر أو تحاصر ولو في دوائر ... وظاهرة الجفاف كانت لا تطول إلى حد اليأس ... مع كل هذا وذاك كنا نسخط على أوضاعنا بكل معانيها قبل نومنا وعند استيقاضنا ، بعد خروجنا وقبل دخولنا من ولبيوتنا . نعم كنا نبكي على تلاشي أحلامنا وضياع غايات وجودنا : كنا نتحسر على تدهور مستوانا المعيشي ونتذمر من انحدار نظامنا التعليمي والعلمي ، وتعفن جسم تطبيبنا وإداراتنا ، وتخلف إعلامنا وأفول ثقافتنا وتاريخنا ... كنا نتهامس فيما بيننا بالعين والقلب حول اغتصاب حرياتنا وكرامتنا . وقبل وبين وبعد النور والظلام كان لنا آمال في اتساع دائرة الأول وتقلص مساحة الثاني ، كنا نتوسل لربنا بعد الصحور وقبل الإفطار بأن يحسن أوضاعنا الروحية والمعنوية والمادية . لكن بعد عشر سنوات من قيام نظام التناوب المشؤوم على الحكم والنهب ، المتفق عليه وعلى أدواته بين كل المتآمرين ، ماتت آمالنا في حناجرنا ولم يعد لأحلامنا المتلاشية وجود حتى في أرشيف ذاكرتنا . وعدنا لماضينا ، الذي طالما دعونا له بالفناء المبين ، نجتر ذكراه وإن كان مريرا. فبإسم الديموقراطية الفريدة التي لم ينعم بحريتها وعدالتها أي مجتمع بشري غيرنا تناسلت الأحزاب والنقابات التخربية في الجسد الوطني كخلايا السرطان تعددت عناوينها ومناهجها وتوحدت غاياتها ، وأنجبت من صلبها جمعيات حقوقية وتنموية لابتلاع البشرية . واستنسخت حكومات ضخمة بلا روح ولا عقل ، غاية أعضائها السلطة المخزنية والإغتناء المطلق ، " تفانت " في خدمة وطنها حيث " حققت " إنجازات عملاقة في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية حسب ادعاءات مهندسيها المنصرفين والقائمين . قبل وبعد الانتخابات التشريعية الأخيرة كان كل مرتزقة السياسة يذرفون لعابهم الذئبوي ويلوحون براياتهم البيضاء لإخفاء أنيابهم الفتاكة : فالذين كانوا على عتبة الانزلاق إلى خارج حلبة التنويم أو الإستوزار كانوا يتسابقون على تعظيم إنجازاتهم الضخمة ويلحون على ضرورة استمرارهم في مواقعهم ليتموا مخططهم الجهنمي حتى يجهزوا على ما تبقى من حياة الشعب . أما ألئك الذين كانوا على عتبة الانزلاق إلى داخلها فكانوا يطالبون بحقهم في التناوب على الحكم والنهب ليثبتوا قدرتهم على تخريب الوطن دفعة واحدة . وسيرا على نهج شعارنا نود أن نتصفح جميعا المنجزات العظيمة التي يتبجح مهندسو الحكومات المستنسخة وأركانها بتحقيقها في إطار حكم التناوب المشؤوم : بداية سوف لن نستدل بشهادات رقمية ونسبوية لبعض المنظمات الدولية المتخصصة في مراقبة الممارسات الديموقراطية والحريات العامة والخطط التنموية في دول العالم الثالث والتي رتبت بلدنا ، بعد آخر نشرة أصدرها المؤشر المركب للتنمية البشرية ، من بين الدول الضعيفة جدا – كما ألفنا ترتيبنا المذل الدائم في كل الميادين ( السياسية والاقتصادية والاجتماعية ) – وهو ترتيب مخجل ومقر ف لا يرضي حتى كلابنا وقططنا المتشردة . ورفضنا لمثل هذه الأدلة قائم على قناعتين : - أولا لكون هذه المنظمات والمؤشرات وضعت آلياتها وأهدافها الدكتاتوريات الدولية وتستمد مقاييسها من الفكر العنصري البرجوازي العالمي . - ثانيا لكون آليات هذه الهيآت لم ولن تكن محايدة وصادقة بحكم مرجعية قيامها وبعد ممارساتها عن عمق الواقع المعاش للشعوب . لذا سنعتمد في تحليلنا لأحوال بلدنا – كعادتنا – على ما اكتسبناه ونكتسبه من ممارستنا لحياتنا اليومية بالصوت والصرة في عمق أوضاع مجتمعنا التي أول من يعلم بحقيقة جزئياتها هم ألئك الذين يتجاهلونها بإصرار وترصد ويحاولون إخفاءها على الرأي العام الدولي بصور مزيفة لمجتمع فاضل يعيش في كنف السعادة الشاملة بفضل إنجازاتهم العملاقة ومشاريعهم العظيمة المنزلة من وحي الخيال المغربي الفريد . لنبدأ أولا من مسلمات حياة كل الشعوب ومقدمة آلام شعبنا بتساؤلات نرفعها – وإن كانت مملة – إلى أول وزير أول ( المنصرف ) لنظام التناوب المشؤوم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي وطاقمه العتيد وإلى آخره القائم الأستاذ عباس الفاسي وفريقه الأسري ، وهي تساؤلا ت لا تقبل بإدغام حقيقة أجوبتها على شاشة التلفزة وأمواج الإذاعة كما اعتاد وزراؤنا : - الأسرة المتكونة من ستة أفراد ، وهو معدل أفراد الأسر المغربية الشعبية ، التي تعتمد في عيشها على دخل واحد أو دخلين على أكثر تقدير والذي لا يتجاوز خمسين درهما في أحسن الظروف بحكم البطالة المتفشية في مجتمعنا ، كم يلزمها في مصروفها اليومي لاستمرار حياتها ( من مسكن وكهرباء وماء وطعام ولباس ، دون التطبيب والتعليم ) علما أن أسعار الدقيق الشعبي قد ناهزت عشرة دراهم وزيت المائدة خمسة عشرة درهما والسكر المسحوق سبعة دراهم والطماطم والبطاطس لا تقل عن خمسة دراهم والقطاني خمسة عشرة دراهم ... ونستثني الأسماك واللحوم باعتبارها من الكماليات حسب رأي وزرائنا . - أسأل وزراء حكومات التناوب المشؤوم ، الذين يدعون من دون استحياء أنهم أنزلوا نسبة البطالة من سبعة عشرة في المائة إلى تسعة ، عن سر أفواج الشباب العاطل الذي يبتز آباءه ويذيقهم الأمرين وتكتظ به المقاهي ، ويتعاطى لمختلف الممارسات المقرفة : من تسول وتشرد والاقتتات من صناديق القمامة ، وسرقة وإجرام ودعارة وشذوذ جنسي ، وانتحار بين أمواج البحر وفي أحضان الإرهاب والتهريب ... هذه كلها ظواهر مقيتة ومحبطة كانت قبل عشر سنوات مخجلة وتحارب أو تحاصر ، وأصبحت اليوم عادية ومعتادة كطلوع الشمس وغروبها في ظل الخير العميم الذي ننعم برخائه وشموليته بفضل الإنجازات العملاقة التي تدق مطارقها مسامرا في رؤوسنا بالليل والنهار ، والمشاريع التنموية العظيمة التي تعمي بصيرتنا بخيالهاوبصرنا برمادها . - أسأل وزراء حكومات التناوب المشؤوم ، عن أسباب انهيار نظامنا التعليمي والعلمي العمومي ( الشعبي ) وانقراض المدرسة والجامعة العموميتان والإطار التربوي الوطني الأصيل ... وهزالة المستوى التعليمي والثقافي والتكويني لأطرنا وشبابنا ولشعبنا عامة . - أسأل نفس الوزراء عن مسببات تعفن المؤسسات الصحية العمومية والخصوصية واندحار خدماتها الشعبية التي لا تحتاج للتشريح ... تساؤلات لا حدود لها تتكدس بالتصوير البطيء أمام وزراء التناوب المشؤوم – المنصرفين والقائمين – رغما عن أنفهم حول استفحال الفساد المعلن والمخفي في الإدارات العمومية وشبه العمومية ، وتهريب المال العام ، وتهاون وتخاذل الأجهزة الأمنية في حماية المواطنين ومصالحهم ، وتزوير وجه الديموقراطية ووأد الحريات العامة وتعويضها بحريات الفساد الأخلاقي والسياسي والاقتصادي والإعلامي ، وخنق نبل القضاء ، وتزييف الدين والتاريخ ... فماذا تغير من حياة شعبنا في بؤسه خلال عقد من التناوب ، يا وزراؤنا المحترمين ؟؟ تساؤلات علقمية ستظل قائمة حتى وإن دفن حكامنا صراخ الشعب كله بباطلهم ، وستتعاظم أدواتها ومرارتها ما دامت ثقافة الكذب والغش والتحايل والتنصل والنهب معششة في عقولهم ومكاتبهم ، وينشروها بالمجان في عقليتنا ... تساؤلات ستبقى أجوبتها في صدقها شامخة فوق منبر الحق ولن يسقطها الباطل مهما تجبر حتى يذل : لقد باع فتح الله ولعلو وفريقه ، ومن سبقوه ، الدولة بتاريخها وثرواتها ولم يترك لعباس الفاسي وعائلته غير بناية البرلمان وصومعة حسان وصناديق القمامة ، وطار بحقائبه إلى حيث طار أسلافه الميامين وسيطير خلفاؤه الراشدون ، لا محالة ، ويبقى المغرب بلا روح يتمرغ في دموع أبنائه . محمد المودني . فاس ( مارس 2008 )