تطبيق الحدود الشرعية، الإسلام هو الحل، إقامة دولة القرآن، إحياء فريضة الشريعة،هذه العناوين والشعارات الدينية باتت، تستأثر بحصة الأسد في النقاشات السياسية والإعلامية للإسلاميين٬ مع خصومهم من القوى الليبرالية واليسارية والعلمانية،على ضوء الحراك الشعبي والسياسي الذي تشهده منطقتا شمال إفريقيا والشرق الأوسط. من أجل مناقشة هادئة، لبعض المفردات المثيرة للجدل في خطاب الحركات الأصولية، من قبيل:)تطبيق الشريعة ) و( إقامة الحدود الشرعية) وغيرها من المفاهيم الدينية،ارتأينا أن يتمحور نقاشنا في هذه المقالة حول مدخلين هامين وجوهريين. المدخل الأول: الإسلام والشريعة والحدود. المدخل الثاني : الإسلاميون والشريعة. فيما يتعلق بالمدخل الأول؛ بداية ينبغي الإقرار أن كنه الإسلام يتجلى بالضرورة في رحاب الشعائر والعبادات٬ وسائر القيم النسوكية والروحية؛ وهي الأساس والعماد،بل هي غاية الغايات في ملة الاسلام. يقول تعالى :( وما خلقت الجن والٳنس إلا ليعبدون)(1). أما الجانب المعاملتي من الإسلام، أوما يصطلح عليه عند علماء الأصول ب (الشريعة)٬ فيمكن تقسيمه إلى قسمين، القسم الأول : هو البعد الأخلاقي لرسالة الإسلام،ويستند هذا البعد بشكل أساس على الكثير من النصوص القرآنية والحديثية،كلها تَحُث ُّ وتَحُض ُّ على العدل والبر والإيثار والتآزر والتآخي والتسامح والمحبة.هذه القيم جملةً تتغيى غاية واحدة ألاَ وهي سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. لا مراء أن فهم رسالة الإسلام وتجسيدها سلوكيا على هذا النحو٬ لا يمكن ٳلا ٲن يشكل مصدرا للافتخار والاعتزاز لكل المسلمين؛ بمختلف أعراقهم ومذاهبهم في كل الأزمنة والأمكنة. أما القسم الثاني من الإسلام،فهو ما يسميه الفقهاء ب: (دائرة الحدود الشرعية )،وهي التي ما فتئت بعض الحركات الأصولية ومشايخها تلوح بتطبيقها فور استلامها للحكم أو استيلائها عليه. ويتم اختزال هذه الحدود عادة؛ في قطع يد السارق والسارقة ورجم الزاني والزانية وقتل المرتد والمرتدة وجلد شارب الخمر..الخ. لنتوقف قليلا لمناقشة هذه الحدود وذلك على المستويين الفقهي والتاريخي٬ على المستوى الفقهي: إن الغريب المدهش حقا هو أن أخطر هذه الحدود، أي قتل المرتد ورجم الزاني حتى الموت، لا يوجد لها أصل ولا فرع في القرآن الحكيم(!). حيث يقول الدكتور عبد الكبير العلوي المد غري في حكم عقوبة قتل المرتد:(إن المثير للاستغراب حقا هو ما نراه من إصرار على عقوبة القتل وتفصيل للجزئيات التي تدخل في حكم الردة في كتب الفقه ، بينما لم يتعرض القرآن الكريم لأية عقوبة مادية إطلاقا، واكتفى بالعقاب الأخروي..)(2).واحتج المد غري بقوله تعالى:( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة»(3). نعم، عندما لم يجد الفقهاء في القرآن الحكيم حتى ما يشبه دليلا يشرعن لهم قتل المرتد؛ لجأو- كما هي العادة -إلى بعض الأحاديث التي تبيح فعلا قتل المرتد٬مثل (من بدل دينه فاقتلوه)(4). و(من خالف دينه دين الإسلام فاضربوا عنقه)(5). بغض النظر عن أن العديد من الباحثين المتخصصين شككوا في سند ومتن هذه الأحاديث، وعلاوة على أن فرض الدين بقوة الإكراه وسيف العقوبات يتنافى تماما مع حكمة الإسلام؛ التي هي الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة ،فإننا لن نلتفت إلى هذه الأحاديث البتة٬ مادام بين أيدينا نصوص قرآنية واضحة وصريحة، تفند كل ما يمكن أن ينسب إلى رسول الرحمة والمحبة جملة وتفصيلا،وهي كالآتي أ-(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)(6). ب- (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي..الآية)(7). ج-(وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)(8). أما عقوبة رجم الزانية والزاني لا تختلف في جوهرها عن عقوبة الردة٬ إلا من حيث إفراطها في القسوة حد البشاعة والسادية،بحيث أن كل الأحاديث الواردة في باب معاقبة الزانية والزاني، تشترط إنهاء حياة المدان بالزنا عن طريق القتل بالأحجار أي الرجم،(..عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله {ص} رجم ماعزا الغامدية ولكننا لا ندري أرجم قبل آية الجلد أم بعدها)(9).كما هناك حديث آخر يقول:(..عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رجلا من أسلم أتى رسول الله {ص} فحدثه أنه قد زنى فشهد على نفسه أربع شهادات فأمر به رسول الله{ص}فرجم وكان قد حصن )(10). العمل بهذه الأحاديث في الحقيقية يتطلب قدرة هائلة واستثنائية من القسوة والتجرد من كل ما يتصل بقيم الرحمة والآدمية من صلة. قبل أن نستعرض الأدلة القرآنية التي تدحض هذه الأحاديث،لابد أن نُذَكر هنا بكوكبة من أعلام الفقه والعلم والفكر، الذين انتقدوا هذه العقوبة الهمجية بشدة؛منهم:الإمام فخر الدين الرازي،الشيخ محمود شلتوت،الأستاذ عبد الوهاب خلاف،الإمام محمدأبوزهرة،فضيلة الشيخ محمدالغزالي،الدكتور مصطفى محمود،الدكتوراحمد حجازي السقا، الدكتور احمد شلبي وغيرهم كثير.أما نصوص القرآن التي تفند أحاديث الرجم المفتراة على الرسول الأكرم؛ فهي كثيرة، منها .1قوله تعالى(الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخدكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر)(11).الملاحظة: كما ترون لا وجود للرجم في هذه الآية٬بل حتى كلمتي الزانية والزاني وردتا في هذا النص بصيغة التعريف، أي أن الله تعالى لم يفرق في العقوبة بين متزوج وعازب وشيخ مسن وشاب يافع .2(ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته انه لا يفلح الظالمون)(12). ألسنا معنيين بهذه الآية عندما نحتكم إلى أحاديث مشكوك في صحتها ونهجر النص القرآني قطعي الثبوت صريح الدلالة؟ .3(واللذان يأتيانها منكم فأذوهما ( فإن تابا ) وأصلحا فاعرضوا عنهما أن الله كان ثوابا رحيما)(13). لما يدعوا فقيه متشدد أو جماعة دينية موغلة في التطرف إلى قتل إنسان؛ بسبب خطيئة غريزية اقترفها٬ في لحظة من لحظات الضعف الإنساني، ألاَ ينتهكوا حق الإنسان في التوبة٬ الذي قرره الرؤوف الرحيم في هذه الآية ؟ أليست التوبة تجب ما قبلها كما هو مقرر في كتب الفقه؟ على المستوى التاريخي: من المؤكد تاريخيا حسب العديد من الأبحاث والدراسات التاريخية والأنثروبولوجية٬ أن كثيرا مما يسمى( العقوبات الشرعية )،كان يتم التعامل بها عند العرب في الجاهلية قبل الإسلام، بل موجودة أيضا في الحضارات البشرية القديمة، وخاصة المصرية والبابلية، قبل الإسلام والمسيحية واليهودية بآلاف السنين،إذ"قننت مدونة الملك البابلي حامو رابي (في القرن 18قبل الميلاد)،أول شريعة عرفتها البشرية׃القصاص الثأري.ترجم أحبار اليهود خلال الأسر البابلي، بعض موادها ونسبوها إلى موسى :(النفس بالنفس والعين بالعين والسن بالسن واليد باليد والرجل بالرجل والحرق بالحرق والجرح بالجرح والشج بالشج(سفر الخروج :الإصحاح21 الآيتان24و25 "(14). نحن إذن أمام ظاهرة بشرية لها امتداد متجذر وضارب في القدم. ومن هنا يمكن تفهم ومراعاة تطبيق بعض هذه " الحدود" حتى في صدر الإسلام،وخاصة المذكورة في القرآن الكريم،كحد السرقة والحرابة والقذف والقصاص. وهذا يقودنا إلى طرح السؤال التالي: لماذا لم يقطع الإسلام نهائيا مع هذه العقوبات الجاهلية القاسية ؟ وجواب هذا لاستفسار في نظرنا٬ يجد أهميته أساسا في أن أهم مبادئ الإسلام هو (سُنَّة التدرج) في الإصلاح و التغيير،إذ من الصعب جدا أن يغير الإسلام كل شيء جملةً واحدة، وبالخصوص إذا تعلق الأمر بالذهنيات والعادات والقيم، وخير مثال في هذا السياق هو مسألة الرق، فرغم أنه عادة جاهلية مشينة، تمس كرامة الإنسان في الصميم،لم يقطع معه الإسلام دفعة واحدة، بدليل أن بعض (كبار) الصحابة٬ كان عندهم موالي وعبيد وجواري. إنما الإسلام فتح باب التضييق على الاسترقاق، وبالتالي إلغائه تدريجيا٬ على اعتبار أن الإتجار في البشر يتعارض كليةًًًًً مع كرامة الإنسان، التي نص عليها القرآن بشكل قطعي و صريح ( لقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)(15). وتأسيسا عليه، وجب القول إن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى اجتهاد مؤسساتي وجماعي جريء، أي الاجتهاد الذي يشارك في بلورته علماء الدين والسوسيولوجيا والانثروبولوجيا والتاريخ، هذا النوع من الاجتهاد هو الوحيد الذي بمقدوره أن يحلل ويفكك البنيات الثقافية والاجتماعية والنفسية التي نزلت النصوص الدينية على ضوئها .على أن يتم ذلك في سياق ماراكمته البشرية من من معارف ومكتسبات وقيم كونية وإنسانية، وهذا طبعا لايتعارض و روح سماحة الإسلام. الإسلاميون والشريعة. أما إخواننا –في المواطنة- في تيارات الإسلام السياسي، وخاصة من صار منهم يوظف شعار(تطبيق حدود الشريعة)كأصل تجاري مربح في أسواق الانتخابات، والصراع على السلطة، نؤكد لهم بلغة السياسة ما يلي:إذا كان مشروعكم المجتمعي هو اختزال الإسلام في قطع الأيدي والأرجل والقتل والرجم والجلد،والحجر على الحريات وفرض الوصاية على الفنون والإبداع..، فلن تجنوا لأوطانكم سوى العزلة الدولية، ومزيدا من التخلف والتشرذم، والعنف السياسي والطائفي، وربما حروب أهلية-لاقدرالله-. وأنا هنا لن أتحدث عن تخوفات وهمية،بل عن تجربة حكم معاشة،وهي تجربة إسلاميي السودان. نعم، عندما قام الجنرال عمر البشير والشيخ حسن الترابي بالانقلاب العسكري للاستيلاء على الحكم بالقوة سنة 1989،كان الذي بررا به آنذاك اغتصابهما للسلطة هو تطبيق الشريعة ،وبعد23 سنة من الحكم الشمولي الديني٬ كانت النتيجة هي: التخلف على جميع المستويات،الاستبداد وقمع الحريات، حروب أهلية وطائفية مدمرة، تقسيم السودان إلى دولتين،( في انتظار دولة ثالثة: دولة دارفور)،عزلة وحصار دولي خانق،وأخيرا صدور مذكرة الاعتقال في حق رموز النظام السوداني٬ من طرف محكمة الجنايات الدولية٬جراء ما ارتكبوه من جرائم بشعة في دارفور . والسؤال المطرح اليوم هو :كم نحتاج من الوقت ياترى حتى يدرك الاسلاميون أن الشعوب المتحررة لن تسمح مرة أخرى بعودة حكم الوصاية والتسلط تحت عباءة الدين؟ (٭) باحث مغربي هوامش: (1) سورة االذا ريات/ الآية56 (2) عبدالكبير العلوي المدغري،الكتاب: الحكومة الملتحية/ص153/ الطبعة الاولى/منشورات دار الأمان (3)سورة البقرة/ الآية 217 (4)صحيح البخاري/الحديث6922 (5) فتح الباري 12/239 (6) سورة يونس /الآية99 (7)سورة البقرة الآية/259 (8) سورة الكهف/ الآية 29 (9) صحيح البخاري /باب رجم الحبلى (10) صحيح البخاري/ج:6/ص2498 (11) سورة النور /الآية2 (12) سورة الأنعام/ الآية21 (13) سورة النساء/ الآية 16 (14) عن مقال للعفيف الأخضر، منشور بالإنترنت تحت عنوان:هل تعدم الجزائر الإعدام؟ (15) سورة الإسراء/ الآية70