عندما حطت قدماي - في بدايات التسعينيات من القرن المنصرم- الديار الأوروبية للاستقرار فيها، كان للجالية الإسلامية على العموم مكانة وسمعة تختلفان كثيرا عن مكانة وسمعة اليوم. كان المسلم إلى حد ما، عنصرا يثير العطف والشفقة في المجتمع الغربي. كان في نظر عموم الناس، ذلك الشخص غير المتعلم القادم من بلد متخلف فقير، يسكن في حي متواضع ويقيم بأسرته الكبيرة في مساكن قديمة. فلم يكن من اللياقة ولا من اللباقة التعرض للمسلمين بقول السوء وهم الفئة المستضعفة التي تحتاج للإعانة والمساعدة داخل المجتمع الأوروبي الغني والمتحضر. لا أحد كان يجرؤ على التهكم أو السخرية بهم علنا في وسائل الإعلام بأشكالها المختلفة وإلا فسيشار إليه بالبنان كإنسان قاسي القلب عديم الشعور. أما الآن، وبعد مضي حوالي عشرين سنة على تلك المرحلة الزمنية التي تبدو الآن موغلة في القدم، فقد تغيرت الصورة كثيرا. فصورة المسلم في أوروبا ابتداء من الحادي عشر من سبتمبر، قد بدأت شيء فشيء تتحول من صورة حمَل وديع مستضعف إلى صورة ثعبان قاتل يتواجد في حديقة منزلك رغما عنك دون أن تعرف كيف تتخلص منه. وما عليك إلا أن تتعايش مع الفكرة الرهيبة التي تنتابك من حين لآخر فتقض مضجعك وتفسد عليك سكينتك. هذا الهاجس المفزع يتم تشكيله وتظخيمه عن طريق سياسة الترهيب التي تتبناها الأحزاب اليمينية واليمينية المتطرفة، والتي تنشرها باستمرار لكسب تأييد الناخب الأوروبي وبنجاح مدوٍّ في أحيان كثيرة. حتى أن كلمتيْ إسلام ومسلم أصبحتا مرتبطتين في أذهان رجل الشارع الأوروبي بالتخلف والعدوانية والإرهاب والقتل والتدمير واحتقار المرأة و اليهود وكل الديانات وكل البشر... المسلم والإسلام أصبحا في الغرب مرادفين لكل ما هو مقرف ومنحط. هكذا وفي ظرف عقدين من الزمن أو أقل. لقد ابتكر اليمين واليمين المتطرف هذه السياسة العدائية المكشوفة اتجاه الإسلام والمسلمين ليحقق أهدافا آنية وأخرى مستقبلية. أهداف قريبة المدى وأخرى بعيدة أبعد من كوكب زحل. الأهداف الآنية تتمثل بكل بساطة في الفوز بالانتخابات الجهوية والبرلمانية. وبالتالي التأثير في صناعة القرار لصالح المنهج اليميني واليمين المتطرف والحد مما يعتبرونه تغلغلا للإسلام في أوروبا وبالتالي إضعاف تواجده العلني إلى أقصى ما يمكن. أما الأهداف البعيدة فهي إلى جانب سيطرة طويلة على دواليب الحكم والاستمرار في تشويه صورة الإسلام والمسلمين بشكل تدفع الأجيال الناشئة والمقبلة للنفور منه وعدم التعلق به، هناك أيضا الغاية الطموحة البعيدة المدى التي تروم إخفاء قسريا للإسلام كواقع على الأرض إن لم يتسن اجتثاثه اجتثاثا. فماذا تحقق لهم من ذلك وماذا لم يتحقق؟ نعم لقد تمكنوا حتى الآن من تهويل وترويع الكثير من الأوروبيين بخطاب كاريكاتوري يضخم عيوب المسلمين لتصبح عيوبا عملاقة غير قابلة للتقويم. واستطاعوا تشويه ملامح الديانة الإسلامية إلى درجة أصبحت تبدو في الشارع الأوروبي مثيرة للتقزز والاشمئزاز عند الكثيرين. تنضاف إلى ذلك النجاحات الانتخابية التي حققوها في عدة دول أوروبية بحيث رسخت وجود اليمين المتطرف كواقع لايمكن تخطيه أو القفز عنه. بل تعدى ذلك في بعض الدول إلى الدنوِّ من قمة هرم السلطة والمشاركة أحيانا في تسيير دفة الأمور. هذا كله تحقق بالفعل. ولكن للميدالية وجهان. فبسبب الخطاب اليميني المتطرف الذي يجمع كل المسلمين -متشدديهم، معتدليهم، علمانييهم وملحديهم- في سلة واحدة، فقط لكونهم ينحدرون من أصول عربية أو مسلمة، أصبح المسلمون هم أيضا يعتبرون أنفسهم- شاءوا أم أبوا- بالفعل مسلمين ولا شيء غير مسلمين. فالشباب الصاعد الآن من أصول مسلمة وبسبب انتشار المناخ غير المتسامح مع كل ما هو إسلامي، أصبحوا واعين وفي وقت مبكر باختلافهم عن محيطهم الذي لا يكن لهم في نظرهم الاحترام المطلوب. ومن ثم يبدؤون في البحث الجاد عن هويتهم الإسلامية الأصلية والتشبث بها بقوة وبمغالاة في أحيان كثيرة وإظهارها علنا مُتَحَدِّين بذلك من يعتبرونهم مستهزئين ساخرين بهم وبهويتهم. فظهرت فجأة الوجوه الملتحية بين الشباب المسلم، في الكليات والمدارس العليا. وازداد استعمال ما يسمى بالقميص الأفغاني والسروال العربي حتى في الشارع العمومي. كما أن الحجاب بالنسبة للشابات والنساء المسلمات أصبح في حالات كثيرة هو القاعدة وبدونه الاستثناء. لا بل تعدى الأمر ذلك إلى ظهور البرقع حتى على مقاعد الدراسة الثانية وفي ساحات الحرم الجامعي. إنه التحدي الواضح رغم الصعوبات والعراقيل والقوانين التي لا ترحم ولا تتساهل. ولعل بعض المنظرين الغربيين كانوا على حق عندما كانوا يحذرون على الدوام من مغبة محاربة الإسلام بشكل علني. ففلسفتهم كانت مبنية على صناعة جيل مسلم قادر على محاربة ما يسمونه بالتطرف الإسلامي من داخل فضاء الإسلام. فالتاريخ كما يعرفه الجميع، أثبت مرارا أن الإسلام يبدي حتى في أحلك ظروفه، مقاومة شرسة للتصدي لمن يحاول تكسيره. فكم من مرة على مر العصور، بدا فيها الإسلام لغير المسلمين لقمة سائغة لمحوه ومحو آثاره ولم يفلحوا؟ مرارا وتكرارا تكون تلك الهجمة هي الدافع الرئيسي لأن يستجمع الإسلام قواه ويوحد إرادته من أجل الصمود والدفاع عن وجوده. قد تدوم المقاومة عشر سنين أو مائة عام أو أقل أو أكثر. لكن التاريخ أثبت غير ما مرة أن التهديد الحقيقي لوجود الإسلام لا يقصم ظهر الإسلام أبدا، وإنما بالعكس تماما. فذلك يكون عاملا على تقوية عضلاته ومنحه في آخر المطاف الانتصار الحاسم الذي يدهش أعداءه ومهاجميه. فهل يُكسر تهديد العلمانيين وعلى رأسهم منظِّرهم وكبيرهم أحمد عصيد، شوكة الإسلاميين في المغرب ويوقف مدَّهم الحالي وطموحهم في قيادة سفينة السلطة لعشرات السنين القادمة؟ شخصيا أعتقد كل الاعتقاد أن التهديد العلماني المعلن حاليا لن يضعف الإسلاميين ولن يزيحهم جانبا، بل بالعكس تماما. لن يزيد هذا العداء غير المبطن الإسلام والإسلاميين إلا قوة ونفوذا وعظمة. فكلما طال التهديد والوعيد كلما تشبث المسلمون بعقيدتهم وتصلبت عضلاتهم وأبانوا عن رغبة جامحة في الدفاع عن عقيدتهم والاستماتة في ذلك. فالسيد عصيد في الحقيقة إذاً، نعمة من نعم الله التي لا تحصى على الإسلام والمسلمين. على يده ويد من معه، ستتوحد كلمة الإسلاميين أكثر فأكثر وسيزداد استعراضهم غير المحتشم لهويتهم في الشارع وفي غيره من الأماكن العامة. كما سيزداد تنظيمهم ورغبتهم في الدفاع عن وجودهم ولو بالضرب بيد من حديد على من يعتقدون أنه يشكل تهديدا لوجودهم ولعقيدتهم.