الذين عاشوا سنوات السبعينيات في شمال المملكة قرب مدينتي مليلية وسبتة المحتلتين يتذكرون كيف كان الأسبان، على فقرهم الشديد، وخضوعهم المقيت لنظام فرانكو الديكتاتوي ، يتذكرون كيف كان يلجأ إليهم أهل الشمال و إلى تلفزتيهما الأنيقتين ، في وقت لم تكن المملكة المغربية تتوفر سوى على قناة يتيمة ،غارقة في سواد برامجها القليلة ، لكن بتعددية غريبة لأطياف ألسنتها اللغوية: عربية وفرنسية وانجليزية واسبانية وألمانية ..في حين كانت القناتان العموميتان TV1وtv2،بألوانهما الزاهية منذ ذلك الزمن أشد حرصا وتعصبا للسان والهوية الوطنية. فالإسباني ،كيفما كان مركزه وثقافته ،في الوظيفة أو الشارع ،ناهيك في التلفزيون لا يمكنك سماعه ينطق بغير لسانه القومي. ونحن بحكم الجوار والتقاط الصورة عنهم ما كان لنا أن نتابع برامجهم الإخبارية والحوارية والترفيهية بغير لسان الاسبانية ولا شيء غير الاسبانية.. واليوم ،وإن تعددت الفضائيات وتحررت السوق الإعلامية فصارت فيها المنافسة شرسة، وطلب الربح وتحقيق الإرادات المالية من أهم مرتكزات كل مؤسسة إعلامية فإن الهدف الاستراتيجي من وراء كل ذلك بالنسبة لهم لا بد أن ينصب في خدمة اللغة والثقافة الاسبانية .تماما كما فرنسا،همها هي الأخرى حماية فرانكفونيتها وترسيخ ثقافتها داخل فرنسا أولا، لاستشعارها بضعف "شخصيتها الفرنسية واضمحلال روحها" عند جل شبابها بسبب قوة هيمنة النموذج الأمريكي على مناحي الحياة لكثير من سلوكيات أبنائها .هؤلاء القوم –أي الاسبان والفرنسيون معا-لا يكلون ولا يملون من الترديد و التأكيد على أهمية هويتهم اللغوية والثقافية في تلفزاتهم العمومية، نطقا وكتابة، حتى يتمكن المتلقي من تشربها بالعين والسمع والشفاه، ما دامت الخطوط بأبجدياتها تتكلف بإظهار كل حرف وجملة و فكرة من هذه اللغة على مسطح التلفزة، إمعانا في ترسيخها في ذاكرة المتابع والمشاهد .. ونحن ماذا عنا ؟ كيف هي حال تلفزتنا الوطنية؟ كم لسان ولغات أقوام لا يربطنا بهم إلا تاريخ أسود، يرجع لعهود السيطرة البغيضة والهيمنة الاستعمارية المقيتة ،يصر بقايا الكومبرادور في هذا البلد على فرض الرأي النشاز في هذه المؤسسة الوطنية؟ المتمعن في مجمل ما يكتبه المتخصصون على أهم الصفحات المكتوبة من جرائد ومجلات، أو المواقع الإلكترونية الأكثر مشاهدة ومتابعة لمسألة دفتر التحملات التي أعدتها وزارة السيد مصطفى الخلفي، والتي صادق عليها مجلس الحكماء بالهيأة العليا للسمع البصري،بل وحتى من ردود الناس والقراء المتفاعلين مع الموضوع يقف على حجم اهتمام المغاربة بمستقبل تلفزتهم الوطنية والكيفية التي يريدونها أن تكون. من التعليقات التي استرعت انتباهي في خضم هذا الجدل الذي أثارته "بقايا دوغول"في المغرب الأقصى ما جاء على لسان مواطن مهاجر بإسبانيا.قال إنه مر على تواجده في هذا البلد أزيد من ثماني سنوات. زار خلالها شماله و جنوبه و شرقه و غربه و لم يحدث له أن رأى يوما يافطة واحدة أو إسما أو عنوانا بلغة غير اللغة الإسبانية. علما أن هذا البلد يعج بالمهاجرين المغاربة الرسميين الذين يصل تعدادهم إلى أزيد من مليون مهاجر. ومع ذلك لا تتوقع أن تخصص نشرة خبرية واحدة في اليوم أو الشهر أو في السنة حتى، بإحدى قنواتها الوطنية.. ولكن مع ذلك كله لا يتوفرون على قناة مغربية باسمهم ، في بلد يعترف بحق كل منطقة جهوية بإنشاء تلفزيونات خاصة.. بل حتى الخواص لا يسمحون للأجانب في تلفزيوناتهم بنطق أي لغة خارج نطاق اللغة الرسمية للبلاد . إنه الاعتزاز باللغة والثقافة والهوية عند هؤلاء الناس حتى النخاع ،حد التعصب .فهل من متعظ؟ ..هذا في الوقت الذي يطلع علينا متغربون متنكرون لهوية وطنهم . يحقرون ثقافته الأصيلة ويستعرون من لغته العربية الفصحى .في حين يستميتون في الدفاع عن التبعية العمياء لفرنسا شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى و إن دخلت خالتهم فرنسا جحر ضب لدخلوا معها . و لا أعلم إن كان في وطننا الحبيب الذي ينصص دستوره في ديباجته على أنه بلد إسلامي حر و مستقل و ذو سيادة، ولغته العربية هي اللغة الرسمية للدولة(الفصل 5 من الدستور) ،لا أعلم إن كان فيه من الجالية الفرنسية أو الاسبانية،إن افترضنا جدلا أن هناك جالية بالمعنى الحقيقي كما هي جاليتنا تعد بالملايين في أوروبا، غير تلك التي "تغربت"طوعا من أبناء جلدتنا ولم تؤمن يوما بانتمائها لهذا الوطن دينا ولغة وثقافة .قلت، لا أعلم بوجود جالية أجنبية ترغب في مشاهدة تلفزتنا لمعرفة ما يجري من الأحداث ،في زمن انفجار البث الإعلامي وانفتاح السماء على مصراعيها أمام الناس بلا قيود. فإلى من يتوجه هؤلاء المتغربون،أمثال سليم الشيخ وسميرة سطايل ،حين يصرون على فرنسة مؤسسة هي ملك للمغاربة جميعا؟ هل يعتقد هؤلاء أن ثمة مغربيا حرا أصيلا متعدد الثقافات و متقننا للغات يرضى أن تتحول مؤسسة كالتلفزة الوطنية ، التي هي في حكم المؤسسات ذات السيادة ، يرضى أن تهان فيه لغة القرآن والوطن والأصول والجذور والتاريخ ولغة الدستور في قلب تلفزته؟ اللغط المثار من قبل هذه العصابة القليلة من المتغربين في عقلهم ، الفرانكفونيين باعتراف عصيدهم ،(أنظر المقال الذي كتبه أحمد عصيد في الصباح بتاريخ 21ابريل ) الموالين لجهات خارجية تأتمر بأوامرها وتنتهي بنواهيها.هذه الجهات لا يمكن أبدا أن تكون نابعة من رحم هذا الوطن ، و خادمة لمصالحه العليا ..اللغط بوح فاضح من "الجبهة الأمامية"للمستعمر الفرنسي القديم الجديد. و قول صريح بأنها رافضة لتلكم الإصلاحات التي يرغب فيها الجميع ، مهنيون ومستخدمون في القطب العمومي ،إنسجاما مع رغبة الشعب المغربي في الحصول على إعلام تكون له هوية نابعة من تاريخه ولغته وتقاليده ودينه،وليس كما أدعى السيد الشيخ و"سيطايله" في خرجتيهما الإعلاميتين والفاقدتين لواجب أداء التحفظ لموظفين، هما بقوة القانون تحت إمرة الوزارة الوصية ورهن إشارة رئيسهما المباشر السيد مصطفى الخلفي. ولحسن حظ هذه البلاد أن تتواجد ثلة من المتنورين والعقلاء ،من أساتذة جامعيين و من أبناء المهنة نفسها مهنة في الإعلام والصحافة، ونقابيين تطلعوا إلى دمقرطة الإعلام وتحريره من ربقة أقلية مستبدة لا نعلم كيف نبتوا بين ظهرانينا ،وموظفين حكوميين سامين سبقوا أن تحملوا مسؤولية هذه الوزارة ، لحسن الحظ أن يتواجد هؤلاء ليقولوا كلمة الحق في الخرجة الإعلامية الفاشلة للسيد سليم الشيخ ومديرة مديرية الأخبار سميرة سيطايل . ومن الردود التي ننوه بها كثيرا في هذا الصدد كلمة السيد العربي المساري وشهادته بأن هناك حملة مدروسة تقوم بها جهات ما ضد مصطفى الخلفي. وكلمة السيد نورالدين مفتاح في المقال المنشور في المساء في بحر الأسبوع الماضي ،الذي أكد فيه أحقية السيد الخلفي في تنزيل رؤيته الإصلاحية للمنظومة الإعلامية استنادا إلى الشرعية الممنوحة من قبل الناخبين الذين وضعوا ثقتهم في حزبه.أما الإعلامية المخضرمة فاطمة الإفريقي فترد على الأطروحات المخوفة من رغبة السيد مصطفى الخلفي الساعية إلى جعل القانتين "متطرفتين"متسائلة :متى كانت هاتان القناتان "تقدميتان"؟..من جهته أكد السيد حسن طارق عضو المكتب السياسي للإتحاد الاشتراكي أن مصطفى الخلفي ،إذ يقوم بما يقوم به فإنه يمارس مهامه كوزير..