في الساعة التي نزلت فيها إلى سجنك صعد خصومك إلى كراسي مناصبهم فرحين متهللين يهنئ بعضهم بعضاً، ويغمز بعضهم لبعض. أنت سجين وهم طلقاء، أنت معذب وهم منعمون، أنت مستوحش منفرد في سجنك لا أنيس لك فيه ولا سمير، وهم مؤتنسون بالعيش في قصورهم وضيعاتهم، بين نسائهم وأولادهم وصحبهم وخلانهم، أنت مكتئب حزين يتقاسم قلبك همان، هم نفسك، و هم قومك. ولكن هل أنت على ذلك شقي؟ وهل هم على ذلك سعداء؟ لا... لقد كانت لهم أمنية أن تغيب عنهم فيغيب اسمك وذكرك وضوضاؤك. ولكن شيئاً من ذلك لم يكن. فالنفوس ثائرة، و الهتاف باسمك يملأ الآفاق، والدعاء بثأرك يلاحقهم في كل مكان يسيرون فيه، و عيون الحقد و البغضاء تضرب حولهم نطاقاً نارياً لا سبيل لهم إلى التفلت منه و الخروج من دائرته. فأنت الحر الطليق، وهم الأسرى المسجونون. أنت تعيش من فضيلتك وشرفك، ومن رضاك عن نفسك واغتباطك بأداء واجبك، ومن راحة ضميرك واستقراره. وهم يعيشون من وساوس صدورهم وخوفهم على تلك اللقيمات التي هي كل ما ظفروا به من حياتهم أن تهب عليها عاصفة من العواصف، فتطير بها، و من شبحك المخيف الذي لا يفارق مضاجعهم. لا سجن في الدنيا غير سجن النفس، ولا حرية فيها غير حريتها. فما سجنك الذي تعيش في جوه المكتئب وبين جدرانه المتقاربة المتدانية بمانعك من أن تطير بنفسك العالية الخفاقة في ما تشاء من الآفاق و الأجواء. وما فضاؤهم الرحب الفسيح بمسعفهم إن حاولوا الهروب من صرخات الأمة التي تدوي في آذانهم، فهم دائماً فارون مطاردون كأنهم مجرمون، لا عمل لهم في حياتهم سوى أن يسائلوا أنفسهم أين يعيشون، و كيف يعيشون؟ آه يا سيدي لو تيسر لك أن تراهم لرأيت قوماً معذبين متألمين، لا يهنأون في نوم و لا يقظة. قد ضاقت بهم الحيل، و تشعبت بهم السبل، و انتشرت عليهم الآراء و الأفكار، يسألون أنفسهم ليلهم ونهارهم، ألا يستطيع هؤلاء الناس أن يرضوا منهم بدون عودتك؟ و عودتك موتهم الأحمر، و شقاؤهم الأكبر. يشترون أقلام فقراء الكتاب و ضعفائهم، ليكتبوا لهم ما يحط من شأنك و يرفع من شأنهم، لكن القلم لا يجد لذة المراح و الجولان إلا في ميدان الصدق و الاعتقاد. و لقد تحدثهم نفوسهم أحياناً بالتخلي عن تلك المناصب الشقية سأماً و ضجراً، و لكن يعلمون أن الأوان قد فات، و أن الأمة لن تغفر لهم ذنوبهم و أنهم لا يستطيعون أن يجدوا في فضاء الأرض بطولها و عرضها ظل حصاة يلجأون إليه من نقمة الأمة و غضبها. فمثلهم كمثل الفتاة الهاربة من بيت أبيها إلى بيت خليلها، يلحقها الندم، و تضيق بها ساحة العيش، فتود لو رجعت إلى بيت أبيها الأول و لكن لا تستطيع. سيدي، لا شيء في هذه الدنيا الزائلة بقادرٍ على أن ينسينا أيامك الغر البواسم، ولا أن ينزع من بين قلوبنا مرارة الحسرة على فراقك، و اللهف إلى لقائك، فمتى يجمع الله بيننا و بينك؟ لا أوحشت مساؤك من شمسها *** و لا خلا غابك من أسده و السلام. *أستاذ مساعد في علوم الطاقات المتجددة بجامعة بازل بسويسرا [email protected]