في الوقت الذي يقترب الميزان التجاري المغربي من "الانهيار" يأتي رقم معاملات المكتب الشريف للفوسفاط ليعطي التوازن المطلوب بفعل النمو الذي يسير عليه منذ سنة 2006. فما هو الدور الذي يلعبه الفوسفاط في تخفيف آلام الاقتصاد المغربي حينما تشتد الأزمات؟ وكيف وظف المرحوم الحسن الثاني هذه الثروة لإخماد الاحتجاجات الاجتماعية وتنظيم المسيرة الخضراء؟ ومن استفاد من الصناديق السوداء التي كانت عائدات الفوسفاط تغذيها؟ لنتابع. عندما كان الملك محمد السادس يدّشن بالجماعة القروية "المفاسيس" بإقليم خريبكة، بتاريخ 21 مارس 2012 أكبر مغسلة للفوسفاط في العالم، والتي كلف إنجازها استثمارا إجماليا قدره 2.5 مليار درهم، كان المغرب بهذا المشروع الضخم، يرسم لنفسه مكانة جديدة في الساحة العالمية من خلال التحكم المطلق في سوق الفوسفاط العالمي، في أفق سنة 2020 برفع قدرته الإنتاجية إلى 55 مليون طن بدل 35 مليون طن حاليا. أهمية هذا المشروع، تكمن في قدرة المغرب على التحكم الشبه المطلق في الأمن الغذائي العالمي، بفعل الأسمدة الزراعية التي تستخرج من الفوسفاط التي يملك المغرب 80 في المائة من احتياطيات العالم منه، كما يعتبر المصدر الأول للعالم لهذه المادة الحيوية التي يستخرج منها، أيضا، اليورانيوم المتعدد الاستعمالات. إدراك المغرب للقيمة الإستراتيجية للفوسفاط، في ضمان الأمن الغذائي العالمي، باعتباره مادة أساسية للإنتاج الفلاحي من خلال المواد الحيوية التي تُستخرج منه، وتساعد على إعادة بناء التربة الزراعية، جعلته يرسم لنفسه إستراتيجية بعيدة المدى من خلال برنامج تنموي صناعي بمبلغ مالي ضخم يقدر ب 115 مليار درهم حتى سنة 2020. ويدخل هذا البرنامج في إطار "إستراتيجية التميز الصناعي" التي تتوزع على ثلاث محاور رئيسية، وهي الريادة على مستوى المنتوج، والريادة على مستوى التكلفة، وكذا المرونة الصناعية من أجل الرفع من التنافسية، وذلك من أجل "خلق ثروة بلادنا ورفاهية مواطنينا"، يقول مصطفى التراب الرئيس المدير العام للمكتب الشريف للفوسفاط. قيمة الفوسفاط، في السوق الدولية، والأهمية التي أصبح يشكلها في دوران العجلة الطاقية العالمية، جعلت المغرب يوظف هذه المادة بشكل "حكيم" لضبط توازناته السياسية مع العديد من البلدان الإفريقية والآسيوية على وجه التحديد. في هذا السياق، وقع المكتب الشريف للفوسفاط٬ الذي يتوفر على أزيد من 140 زبون بالقارات الخمس٬ على العديد من الاتفاقيات التجارية والصناعية مع شركائه٬ في الهند وباكستان والبرازيل وبلجيكا وألمانيا وتركيا والنرويج والولايات المتحدة تهم الإنتاج والتوزيع والهندسة، وهي الاتفاقيات التي انعكست بالإيجاب على العلاقات السياسية لهذه البلدان مع المغرب خصوصا فيما يتعلق بقضية الصحراء بعد أن توقف "شر" الهند وباكستان في هذه القضية، مع بدأ تليين الموقف الأمريكي بهذا الخصوص. المصالح الاقتصادية التي نسجها المكتب الشريف للفوسفاط مع العديد من البلدان، جعلت المغرب يحض بمكانة هامة في الإستراتيجية الطاقية في العالم، خصوصا وأنه يتوفر على ثلاثة أرباع احتياطيات العالم من الفوسفاط، وهو المادة الرئيسة لاستخراج اليورانيوم النووي المحدد الأساس للعديد من الصناعات العسكرية والطاقية التي يعتمدها العالم حاليا، وهي القيمة التي وظفها، مثلا، الوزير الأول عبد الرحمن اليوسفي عند زيارته للهند سنة 2000 لتغيير موقف هذا البلد العملاق من قضية الصحراء مقابل أن يبرم المغرب مع الهند العديد من الشراكات التي تخص إنشاء مصانع لمشتقات الفوسفاط التي تخص بالأساس الأسمدة التي تحتاجها الفلاحة الهندية لإطعام ملايين الأفواه الجائعة من الفقراء. هذا في الوقت الذي تم الضغط على روسيا، أيضا، بشكل كبير لتليين موقفها وجعله على الأقل محايدا مقابل عقد شراكات تخص المنتوجات الفوسفاطية. وإذا كان الفوسفاط المغربي، اليوم، يشكل عصب التوازن في الميزان التجاري المغربي، فهو أيضا شكل على مدى عقود دافعا رئيسيا لإخماد الاحتجاجات الاجتماعية التي عرفها مغرب الحسن الثاني منذ بداية السبعينات، كما أن مداخيله التي ارتفعت بشكل صاروخي في بداية السبعينات ساعدت الحسن الثاني، حينها، على التفكير بشكل جدي في تنظيم المسيرة الخضراء التي لولى مداخيل الفوسفاط التي شهدت حينها طفرة نوعية في الأسعار لما استطاع الملك الراحل الحسن الثاني تمويل وتغطية النفقات العسكرية للمسيرة الخضراء التي استرجع من خلالها الأقاليم الصحراوية من المحتل الاسباني. غير أن العديد من المعطيات التاريخية، تدعم المنحى الذي يقول أن مداخيل الفوسفاط التي تعد بملايير الدولارات لم توظف بشكل جيد في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للشعب المغربي بقدر ما أن هذه المداخيل استفادت منها الدولة من خلال تأسيسها العديد من الصناديق السوداء التي كانت تمتص عائدات الفوسفاط دون أن تُعرف وجهتها بشكل دقيق على مدار سنوات طويلة. ومنذ تأسيس المكتب الشريف للفوسفاط سنة 1920 على يد الجنرال الفرنسي ليوطي لخدمة أهداف الصناعة الفرنسية، كانت مداخيل هذه المادة الحيوية للاقتصاد الوطني والعالمي توظف بشكل كبير لتمويل الأهداف السياسية بدل تمويل الاقتصاد وتحسين الحياة الاجتماعية للشعب المغربي. ومع بداية السبعينات عرفت أسعار الفوسفاط ارتفاعا كبيرا في السوق العالمية، لأسباب متعلقة بمتغيرات في اقتصاديات بعض البلدان الكبرى المستهلكة لهذه المادة، وهو الارتفاع الذي جعل الخزينة المغربية من العملة الصعبة تتضاعف، بعدما أصبح الطن من الفوسفاط يساوي أزيد من 63 دولار بدل 13 دولارا للطن، وهو ما جعل الدرهم المغربي حينها ترتفع قيمته في السوق الدولية ويصبح منافسا للفرنك الفرنسي، مما جعل الملك الراجل الحسن الثاني يشعر ب"تخمة" مالية نظير عائدات الفوسفاط التي أصبحت تعد بالملايير في وقت وجيز، غير أن الملك الراحل وظف كل تلك العائدات التي كانت تصل إليه، لإخماد الأزمات السياسية التي عرفها المغرب بعد المحاولات الانقلابية التي تعرض لها لسنوات 1971 و1972 وأحداث سنة 1973، ولبسط سيطرته على الحياة السياسية والنقابية التي كانت تشكل له هاجسا يؤرق حكمه، كما عمل على إطفاء "نار" الاحتجاجات التي عرفتها الدارالبيضاء سنة 1981. وفي الوقت التي كان الشعب المغربي ينتظر أن تعود ملايير الفوسفاط بالإيجاب على حياته اليومية، عمل الحسن الثاني على تحصين أجهزته الأمنية والاستخباراتية وأجهزة الدولة بهذه العائدات مع تنظيم المسيرة الخضراء التي كلفت ملايين الدولارات للإعداد اللوجستيكي لها. ومع توالي السنوات، على هذا المنوال، بدأت تتشعب صفقات الفساد التي عرفها المكتب الشريف للفوسفاط مع نهاية الستينات إلى أواخر السبعينات حيث استفادت العديد من الأسماء المقربة من القصر من العديد من الامتيازات التي تخص عائدات الفوسفاط، ومن بينها كريم العمراني الذي تولى بداية 1958 إدارة المكتب الشريف للفوسفاط بالنيابة، قبل أن يصبح مديرا عاما لOCP سنة 1967 لتحمله الأقدار بعد ذلك إلى رئاسة الحكومة المغربية مع بداية السبعينات. وعند التدقيق في المشاريع التي يملكها كريم العمراني بعد إدارته للمكتب الشريف للفوسفاط، اتضح أنه لوحده يقود ما يزيد عن 300 شركة في ملكيته، وهو ما يوضح بجلاء المبالغ الضخمة من عائدات الفوسفاط التي سمح الحسن الثاني بتمريرها إلى المقربين منه مقابل الولاء الأعمى له لضمان الاستقرار لحكمه في عز سنوات الانقلابات العسكرية عليه. غير أن الحسن الثاني، عاد نهاية السبعينات وبداية الثمانينات ليقوم بتقويم هيكلي للاقتصاد المغربي، ويعيد ترتيب الأولويات، خصوصا بعد أثقلت ميزانية إعمار الصحراء الموازنة العامة، وهو ما جعل الراحل الحسن الثاني يحول المكتب الشريف للفوسفاط سنة 1975 إلى مجموعة تضم مختلف الفروع المتداخلة في الإنتاج الفوسفاطي، مما هيكل المجموعة وساهم في تدعيم عائداتها، وتحسين مردودها على الاقتصاد المغربي خصوصا بعد المخطط الخمسي الذي أعده ما بين 1973 و1977. لكن، ومع نهاية السبعينات، عادت أسعار الفوسفاط لتنخفض بشكل كبير لتنحدر من 63 دولار للطن إلى أقل من 30 دولارا، بفعل عدم تحكم المغرب في السياسة التسويقية لهذه الثروة، مما أدى إلى أزمة اقتصادية خانقة للمغرب حيث توقفت الاوراش الكبرى التي اعتمد عليها الحسن الثاني لامتصاص البطالة المتفاقمة، كما أن الدولة المغربية وجدت نفسها مثقلة بالجسم الإداري الضخم والغير منتج التي نمى وتوسع بفعل "البحبوحة" المالية التي وجدت الدولة المغربية نفسها فيها من مداخيل الفوسفاط. هذه الوضعية استمرت وانعكست على مستقبل المجمع الذي وجد نفسه مثقلا بالديون التي تمتص اغلب الأرباح والمداخيل التي يجنيها من السوق الدولية، كما تدهورت العائدات الإجمالية المُحصل عليها، بعد أن أصبح الفوسفاط المُحول في الخارج أغلى ثمنا من سعره كمادة خام، وهو ما جعل الحسن الثاني يفكر جديا في القيام بتصنيع وتحويل الفوسفاط قبل تصديره، عبر استثمارات ضخمة في المجال. طموح الحسن الثاني، قابله العديد من المشاكل، التي أعاقت تحقيق الاستثمارات المرجوّة، إلى أن جاء الملك محمد السادس إلى الحكم سنة 1999، ليبدأ المجمع الشريف للفوسفاط "تلميم" ديونه المتراكمة، و"الحد" من هوامش الفساد التي يعرفها. وفي سنة 2006 استعدى الملك محمد السادس على عجل الرجل الذي فاوض الشركات الكبرى لتفويت الترخيص الثاني للهاتف النقال بالمغرب، وجلب لخزينة الدولة مبلغا لم تكن لتحلم به قط. 1.2 مليار دولار، إنه المبلغ الذي وصل إليه مصطفى التراب مع إحدى الشركات الكبرى للاستفادة من الرخصة الثانية للهاتف النقال بالمغرب، قبل أن يتوارى عن الأنظار بعد "احتجاجه" الغير معلن على خوصصة جزء من اتصالات المغرب لإيمانه أن القطاع الذي يربح الملايير كل سنة لا يمكن خوصصته بتلك الطريقة، على الأقل. استدعاء محمد السادس لمصطفى التراب سنة 2006 لتولي تدبير المكتب الشريف للفوسفاط، كانت بمثابة المنعرج الحاسم الذي سيقلب القيمة الفوسفاطية التي يزخر بها المغرب، والتي تمثل 4 في المائة من الناتج الداخلي الخام. أول ما قام به مصطفى التراب هو طلب عرض دولي من أجل إجراء عملية افتحاص لمالية المكتب من طرف مكاتب استشارية دولية ومعترف لها بالنزهة والدقة في نتائج تقاريرها، وهي التقارير التي بينت بعد ستة أسابيع من الافتحاص إلى أن عملية تدبير الفوسفاط المغربي كانت تشوبها العديد من الخروقات، منها أن المؤسسة لم تكن تتوفر على أرشيف محاسباتي، كما كانت لا تخضع لمحاسبة تحليلية أو لمساطير إجرائية في إبرام الصفقات التجارية، كما أن العديد من أرقام الإنتاج قد تم النفخ فيها بطرق غير شرعية. هذا في الوقت الذي بلغ العجز في صندوق التقاعد الداخلي إلى 28 مليار درهم. عملية الافتحاص، هذه، أرست لأول مرة مبدأ الشفافية في تدبير ثروة المغرب بعيدا عن أي ضغوط سياسية ودونما تضخيم للعديد من المعطيات المتعلقة بالإنتاج و الاستثمارات. كما قام مصطفى التراب، بإدخال الحقبة المحاسباتية للمؤسسة التي تحولت إلى "هوليدينغ" سنة 2008. وأرسى أسس إستراتيجية للتصنيع والاستثمار وتنويعه، مع مقاربة جد محكمة لتسويق الفوسفاط ومشتقاته، ومتابعة السوق الدولية والتحكم فيها، مع عقد شراكات بملايين الدولارات مع العديد من الشركاء الدوليين لتنويع التصدير، وكذا التقليص من التكاليف والتحكم فيها، كما هو الحال مع الأنبوب الأرضي لنقل الفوسفاط من مواقع الإنتاج إلى التصدير والذي وسيوفر على المكتب ما بين 7 و8 ملايين دولار في الطن الواحد من نفقة النقل. استراتيجية مصطفى التراب جعلت المغرب يضاعف من مداخيله لأكثر من أربع مرات من العملة الصعبة، كما أصبح المتحكم المصيري لسوق الأسمدة الفلاحية في العالم، وهو ما يعني أن المغرب يتحكم بشكل مباشر في الأمن الغذائي العالمي، مما انعكس على وضعه ضمن الخارطة الدولية للبلدان المؤثرة في العالم. اليوم، والمكتب الشريف للفوسفاط يحتفل بسنته 92 على تأسيسه، يضم أزيد من 1000 مهندس من بين 20 ألف عامل بشكل مباشر و40 ألف عامل بشكل غير مباشر يعملون بالمكتب، ووصل رقم معاملاته السنة الماضية إلى 15.2 مليار درهم، ليصبح الجالب الأول للعملة الصعبة ويعطي التوازن المطلوب في الميزان التجاري المغربي المُختل، وكل هذا بفضل رجل اسمه مصطفى التراب. [email protected]