أبدع مسيحيو الشرق العربي شعار "الدين لله والوطن للجميع" ليفتحوا باب العيش المشترك في سلام من دون أن تنغص عليهم المناوشات العقدية طيب الحياة الإنسانية؛ وذلك لأن المبدأ هو أن يعيش أبناء الوطن الواحد سواسية كأسنان المشط أمام القانون، لهم نفس الحقوق وعليهم الواجبات نفسها، بصرف النظر عن عقيدتهم أو ديانتهم. وعلى هدى هذا الشعار عاش المغاربة اليهود، والمغاربة من عرب وأمازيغ. وكان المؤرخ المغربي روبير الصراف، والمؤرخ الفرنسي غيوم جوبان، وغيرهما، قد وصفا موقف الملك الراحل محمد الخامس المتمثل في رفض تسليم الرعايا المغاربة اليهود لألمانيا بالموقف الشجاع. لقد عاش اليهود المغاربة جنبا إلى جنب مع مسلمي المغرب في جو يسوده السلم والتعايش والحب، إلى أن تسببت اضطرابات وتغيرات شهدها العالم في الدفع بهم إلى مغادرة بلدهم الأم، المغرب. ولذلك عني المشرع المغربي بالإحالة على المكون العبري إلى جانب المكونات الأخرى المشكلة للهوية المغربية عبر التاريخ، فنتج عن ذلك ما جاء في تصدير ما جاء في تصدير الدستور المغربي الجديد أو المراجع لسنة 2011: "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة (...)، وغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية". وللنخبة المغربية اليهودية أيادي بيضاء على الأدب والفكر المغربيين، من ذلك مثلا المبدع إدمون عمران المالح، والروائي جاكوب كوهين، والمفكر والمحلل النفساني، أستاذ الرياضيات، دانييل سيبونيه..وغيرهم كثير، ومنهم أيضا المؤرخ، والخبير في مجالي تاريخ يهود شمال إفريقيا والعلاقات اليهودية الإسلامية، ميشال أبيتبول.. ولد في الدارالبيضاء سنة 1943، وهو أستاذ فخري بالجامعة العبرية بالقدس؛ وقد قضى سنوات طوال من عمره يدرّس في جامعات فرنسية عديدة مثل: جامعة باريس 4، وجامعة باريس 8، والمعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية، ومعهد العلوم السياسية في باريس. ويشرف حالياً على إدارة مشروع سلسلة "التاريخ المشترك" (Histoire partagée)، التابعة لمشروع علاء الدين (Projet Aladin) في باريس. في رصيد المؤرخ أبيتبول عشرات من المؤلّفات المترجمة إلى عدة لغات والمقالات حول إفريقيا والمغرب العربي والعلاقات اليهودية-العربية، منها "تاريخ نزاع- اليهود والعرب منذ القرن السابع"، وكتاب "تاريخ اليهود"... وحاز كتابه "تاريخ نزاع" جائزة "تيير" Thiers التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية لأهميته وطابعه الموسوعي، إذ استغرقت كتابته خمس سنوات، وقيل عنه إنه عبارة عن لوحة جدارية جامعة تحكي أولا عن فترة التعايش بين الطائفتين الإسلامية واليهودية، في جنوب البحر الأبيض المتوسط، التي تخللتها حالات ائتلاف واختلاف، وتبني الطرفين لمواقف متناقضة منذ القرن الثامن عشر تجاه الحداثة الزاحفة... ولا يتناول الكتاب بين طياته البعد الديني فقط، بل يقدم لنا تفسيرا تاريخيا حول أسباب إنهاء خمسين سنة؛ تأسيس دولة إسرائيل سنة 1948، لألفي عام من الوجود اليهودي على امتداد الأراضي العربية. اليهود والمسلمون والنزاع القديم: يؤكد ابن الدارالبيضاء أن هذا النزاع لم يكن وليد البارحة، فقد نشأ نزاع ديني بين العرب واليهود زمن النبي محمد عندما عارض اليهود رسالة الرسول ورفضوا اتباع أوامره. وانتهت الحرب بين النبي والقبائل اليهودية بقطيعة بين الديانتين. وهكذا أصبحت الكعبة قبلة المسلمين التي يولون وجوههم شطرها بدل القدس، واتخذوا يوم الجمعة عيدا لهم عوض السبت. بيد أن العلاقة بين الديانتين الإسلامية واليهودية اتخذت مجرى آخر، فقد ساعد اليهود المسلمين في فتوحاتهم التوسعية، خاصة في ما يخص عمليات فتح ونشر العقيدة في المعاقل البيزنطية. وإذا كان الكاتب والباحث التونسي عبد الكريم العلاقي قال عن العلاقات التي جمعت بين يهود ومسلمي بلده إنها عرفت تناوب الفترات السعيدة والحالكة، فإن ميشال أبيتبول يرى أن وضعية هذه العلاقات مرت بالمراحل التالية: أولها المرحلة التي سبقت الاستعمار، ثم مرحلة الإمبراطورية العثمانية ومرحلة الاستعمار ومرحلة القومية؛ ويقول إن تونس عرفت تحررا وحداثة بين المرحلتين العثمانية والاستعمارية، ما جعل من يهودها موضوعا تعرض له العديد من مثقفي البلد المسلمين.. وعليه فإنه يقول إنه لا يمكن الجزم بمرور تونس بفترات تشبه ألوان رقعة الشطرنج: سوداء وبيضاء؛ بل إنها مرت بفترات رمادية كذلك ولما لا وردية. مغادرة يهود المغرب لعل ما يجعل المغرب استثناء اليوم، حسب المؤرخ المغربي الفرنسي، هو ارتباط اليهود المغاربة القوي ببلدهم الأم. وقد شهدنا في الخمسين سنة الماضية زيارة عشرات آلاف اليهود من أصول مغربية وأبنائهم ثم أحفادهم إلى المغرب. لقد كان ليهود المغرب دور بارز في التجارة البحرية، والصحراوية، وتجارة القوافل المغربية المتوجهة إلى السنغال؛ ولعل ما يدل على ذلك وجود المجموعات اليهودية في مناطق مغربية صحراوية مثل كلميم وسجلماسة. كما عرف عن فاس أنها مدينة احتضنت اليهود الفارين من الأندلس بعد سقوط الحكم الإسلامي. وشغل اليهود في المغرب مهنا عديدة في عدة مجالات منها معظم الحرف، والطب، والصناعة. ويرى ميشال أبيتبول أن مغادرة اليهود المغاربة لبلدهم المغرب لم تكن خيارا، ولكنه جاء نتيجة عدة تغيرات واضطرابات شهدتها الحقبة الاستعمارية، التي تزايدت غداة الحرب العالمية الثانية، وهو ما تسبب في تقلب العلاقات اليهودية الإسلامية؛ وهكذا تدخلت السياسة في موضوع العلاقات بين اليهود والمسلمين وأخذت بعدا سياسيا بظهور حركتي القومية العربية والصهيونية. وقد أكد مؤرخ العلاقات اليهودية الإسلامية أن الجالية اليهودية كانت تحظى بمواطنة كاملة في المغرب، وأن اليهود والمسلمين كانوا يتقاسمون في ما مضى حتى العادات الأكثر حميمية، كاللباس على سبيل المثال، ومنه الجلباب الذي لم يكن يميز بين أفراد الطائفتين. وبين أبيتبول أن تواجد اليهود في المجتمعات العربية مكنهم من الاستفادة من مكونات ثقافتها السائدة (كتأثر يهود الأندلس بالمفكرين المسلمين من أمثال الفارابي)، ومتعهم بحقوقهم الدينية باعتبارهم أهل ذمة، وهي حقوق لم يعهدها اليهود في أوروبا إلا بعد الثورة الفرنسية. كتاب "تاريخ المغرب": صلة رحم مع البلد الأم أصدر الكاتب ميشال أبيتيول سنة 2009 كتابه ''تاريخ المغرب''، وسلط من خلاله الضوء على الحضارة المغربية التي تشكلت خلال ثلاثين قرنًا من تفاعل التأثيرات الثقافية والدينية والإنسانية للإنسان المغربي على امتداد القرون؛ ويرى في كتابه هذا أن البلد كان أرضا خصبة لاستقبال واحتضان مجموعة من الهجرات والديانات والعادات والتقاليد. وحدثنا الكاتب ميشال أبيتبول عبر ال673 صفحة، التي يتشكل منها هذا المصنف التاريخي، عن أصول ساكنة هذا البلد الذي ظل إلى غاية العصر الحديث بلدا ذا طابع قاري يستوطن الأطلس، غير منيع التضاريس سهل البلوغ، لم يخلُ من السكان أبدا. ثم تناول المؤرخ بعد ذلك مغرب ما بين القرنين السابع والتاسع الميلاديين، وعالج محور ما نعته بالغزو العربي، وما أعقب ذلك من معاناة الأمازيغ جراء سوء معاملة الأمويين لهم وانخراطهم في ثورات الخوارج. وانتقل إلى تناول فضل إدريس الأول، الذي جاء المغرب باحثا عن ملجإ يأوي إليه، في إنشاء أول مملكة شريفة في المغرب؛ هذا البلد الذي عرف بثقافته المتعددة المشارب، والتي جمعت بين اليهودية، والوثنية، والمذاهب الشيعية، والموساوية، والمالكية، والاعتزالية؛ وركز على فضل الإسلام في التقريب بين المناطق وساكنتها من خلال توحيد اللغة، وترسيخ مفهوم السلطة السياسية المركزية في البلد، وتبني سياسة التجارة العابرة للصحراء. وانتقل المؤرخ بعد ذلك إلى تناول فترة حكم المرابطين وتحقيقهم نسج الوحدة بين المغرب والأندلس على المستويين السياسي والديني، ما جعل التثاقف بين الطرفين يسع منطقة الصحراء الإفريقية الكبرى كذلك؛ واعتبر أن الإمبراطورية الموحدية اضطرت إلى تحمل أولى تبعات التراجع السياسي والعسكري للإسلام في البحر الأبيض، ورغم اضطرارها لمجابهة حركات الاسترداد والحروب الصليبية إلا أنها أفلحت في إحداث تنظيمات إدارية، وجبائية، وعسكرية، واقتصادية، وثقافية ذات أهمية قصوى. أما الدولة المرينية، فيرى المؤرخ أن حكمها كان قد أتى في زمن حصل فيه تباعد بين ضفتي المتوسط وأخذت فيه التأثيرات الاقتصادية، والسياسية، والثقافية على جانبي الصحراء الكبرى اهتماما أكبر. ومعلوم أن الصحراء مفتاح حكم المغرب. واعتبر أبيتبول حكم المرينيين إحياء للنموذج الإسلامي المغربي. لقد سمح البلاط المريني وبعده الوطاسي في ذلك الوقت باحتواء بعض الممارسات الاحتفالية كتخليد ذكرى المولد النبوي، وانتشار تقليد العناية بالأولياء والمقابر والأضرحة، واعتبر كل هذا جزءا من التجديد الروحي والثقافي الذي شهده المغرب، والذي تزامن مع الفكر المهداوي الذي نشأ في عهد الدولة السعدية. واعتبر الكاتب أن أحمد المنصور استفاد من إنجازات أخيه عبد المالك، وأن فترة حكمه مثلت أعظم فترة للدولة السعدية؛ وكان المنصور تخلى فيها عن الجهاد وغزا فيها السودان وفرض نفسه كأول ملك حداثي بالمغرب؛ بيد أن مماته وصراعات أبنائه أطفآ بريق جل إنجازاته، وهو ما جعل البلاد تتخبط في الفوضى. ولعل ظهور الدولة العلوية ارتبط بنفس مناخ الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والدينية وما لازمها من تفكك داخلي وضغط أوروبي على السواحل مثلها مثل الدولة السعدية. أما مرحلة حكم المولى إسماعيل، والتي عرف عنها أنها كانت طويلة الأمد، فقد اعتبرها الكاتب قاعدة لترسيخ بنيات الدولة، إذ أسس المولى إسماعيل جيشا جديدا، وحكم البلاد بيد من حديد، بينما عني على المستوى الخارجي بترسيخ هذه البنيات عبر حقب المد والجزر التي شهدتها العلاقات مع أوروبا والإمبراطورية العثمانية. وكأن التاريخ يعيد نفسه، فقد عرف المغرب، بعد ثلاثين سنة من وفاته تحولات ديمغرافية واجتماعية أبرزها تراجع سكاني خطير وتفقير مريع للبلاد والعباد وكذا سيادة انعدام الأمن في ربوع المملكة. ولم يستعد البلد استقراره إلا مع السلطان سيدي محمد بن عبد الله، الذي لقب بالشريف وأمير المؤمنين المجاهد، وأعاد تكوين جيش جديد، وشجع الجهاد البحري، واعتمد في موارده على التجارة الخارجية وتصدير الحبوب، وشيد ميناء الصويرة، ووقع جملة من المعاهدات التي فتحت الباب للقناصل والوكلاء التجاريين للاستقرار بالمغرب. أما حكم المولى سليمان، الذي تزامن مع الحروب الأوروبية وانعكاساتها، فقد عرف تراجع التجارة الخارجية، وتكلل بتحصين الموانئ، ووضع حد للجهاد البحري..بيد أنه ترك مغربا ضعيفا عسكريا وأمنيا بعد انهزامه أمام التمردات الأمازيغية التي فتكت بحكمه. وبعد ذلك ينتقل المؤرخ إلى تناول انعكاس التحولات المتلاحقة في أوروبا القرن التاسع عشر، على مبدأ التوازن القائم بين العالم الإسلامي وأوروبا؛ وهي الفترة التي شهدت توالي الهزائم العثمانية ووصول نابليون إلى مصر، واحتلال الجزائر، وتعرض الموانئ المغربية للهجوم الفرنسي والإسباني. وهكذا كان على المولى عبد الرحمان إحياء التجارة الخارجية بسبب وهن الجيش، وضعف الأسطول أمام البحريات الأوروبية، فوقع مجبرا مجموعة من الاتفاقيات. أما الغزو الفرنسي للجزائر فأقحم المغرب في صراعات دبلوماسية ومناوشات حدودية انتهت بهزيمة إسلي، وتغير موقف السلطان من حركة الأمير عبد القادر، وبقبول إصلاح الجيش من لدن الفرنسيين الذين سرعان ما انتبهوا لازدياد نفوذ بريطانيا بسبب من حرب تطوان ونتائجها.. كما عرف البلد تدخل القناصل والممثلين الدبلوماسيين في شؤونه، والضغط عليه لإدخال إصلاحات هيكلية تهم المجالات العسكرية والإدارية، وهو الأمر الذي نجح الداهية دريموندهاي في تحقيقه. وبعد وفاة السلطان اعتلى العرش بعده المولى عبد العزيز، وكانت هذه بداية نهاية "المغرب العتيق". وكان مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي طوق المغرب على جميع الأصعدة، واعتلى المولى عبد الحفيظ العرش باعتباره سلطان الجهاد، ولكنه عجز عن الحد من المد الاستعماري، وأجبر على التوقيع على وثيقة الحماية، وتخلى عن العرش لفائدة مولاي يوسف. الاحتلال الفرنسي أو رداء الحماية ثم جاءت مرحلة الاحتلال الفرنسي للمغرب، ولإيمان المقيم الفرنسي الأول، ليوطي، بخصوصية المغرب بالمقارنة مع كل من الجزائروتونس، حافظ على أصالة المخزن بقيادة السلطان واختصاصاته التقليدية. كما فتح ليوطي الطريق أمام الاستثمار الاقتصادي الاستيطاني الموجه من لدن المؤسسات المالية الفرنسية، وحال دون غزو البلد بأفكار التغيير القادمة من أوروبا. وستحاول الحماية الفرنسية أن تشل سلطة المخزن وتحل محله تماما، إذ بعد تعيين محمد بن يوسف، وإصدار الظهير البربري، عرفت الحركة الوطنية معارك شد وجذب طويلة مع سلطات الحماية، كان أبرز محطاتها خطاب طنجة ومؤتمر أنفا، ونفي السلطان، وتدشين المواجهة بين القصر والإقامة العامة، التي مهدت الطريق لعمليات جيش التحرير وتضحيات الشعب المغربي التي قادت إلى استقلال البلاد. وبعد ذلك انتقل المؤرخ إلى عرض عودة السلطان محمد بن يوسف من المنفى، وشد الحبل بينه وبين حزب الاستقلال، وضعف مختلف القطاعات الاقتصادية للبلاد، وانهيار العملة، ومخلفات خطف فرنسا أعضاء جبهة التحرير الجزائرية على متن طائرة مغربية. وختم المؤرخ المؤلف بالحديث عن الأحداث التي حفرت الذاكرة في عهد الحسن الثاني، كسنوات الرصاص، والصراعات السياسية مع الأحزاب المعارضة، والمحاولات الانقلابية، وكذا ما سماها الانطلاقة الجديدة مع المسيرة الخضراء، وما أعقب كل ذلك من توجهات سياسية، ونهج اقتصادي ومالي، لينهي مؤلفه بالحديث عما أطلق عليه "التحدي الإسلامي"، أي الصراع بين إمارة المؤمنين والجماعات الإسلامية المعارضة. وخلاصة القول، فقد ركب المؤرخ المغربي رهان تقديم تاريخ شامل لبلاده، وبلاد مسقط رأسه والطفولة، والحنين، ونجح في رهانه. ذلك أن الكتاب ارتدى رداء المصنف، وقدم صورة متكاملة، وإن بدت أحيانا تنحو نحو التلخيص، لثلاثين قرنا من تاريخ هذه المملكة المغربية الشريفة. وبعد، هل يمكن أن ينسى المواطن أصوله؟.