من السبل النضالية التي يرفضها كل ذي فكر حضاري هي منهجية العنف في حل القضايا السياسية والإقتصادية والاجتماعية. لكن الموضوعية و الإنصاف يحتمان علينا الانتباه إلى كون العنف وليد اليأس و اتساع هوة التناقض بين فئات المجتمع. فالمواطن اليائس عندما تستنفذ، كما يعتقد، لديه كل الأساليب المشروعة لتحقيق مطالبه، التي تبقى مطلبا لا أكثر، يلجأ لما يراه، حسب اعتقاده، الخيار الأخير و الوحيد. و لسنا هنا بمقام الدفاع عن العنف فنحن ننبذه و نكفر به لقناعتنا العميقة بجدوى النضال المشروع رغم طول طريقه و صعوبتها. كما أننا لا نحاول اكتشاف أمريكا من خلال هذه الأسطر لعلمنا المسبق بأن هذه حقيقة مكشوفة للجميع. فما نستهدفه هو تذكير أولي الأمر("فذكر إن نفعت الذكرى..") بأن القمع لا يستأصل العنف، و لو أنه قد يحقق انتصارا ظرفيا عليه، لأن الفكرة تبقى قائمة في الأذهان. و نتوخى أيضا توجيه كل من استحوذ عليه اليأس إلى الاعتصام بالسبل الشرعية في النضال من أجل الحقوق المشروعة لأنها تحرج الجهات الرسمية و لا تضفي على أساليبها الإقطاعية مشروعية. كما أن المنهاج الشرعي للمطالبة بالحقوق لا يُستنفذ أبدا. و يمكننا سرد مثال معروف لدى الجميع و هو مقاومة غاندي للأنجليز. إن في نهج هذا الرجل الوطني الفذ تكمن العبقرية و المدنية و القوة الحقيقية. إن الهراوة سلاح الضعفاء أي أداة من لا حجة لهم و لا دليل. "" إن مشكل كل المستضعفين يكمن في تفرقتهم و تشتت شملهم فذاك علماني و الآخر سلفي و الثالث اشتراكي و الرابع لبيرالي. و كل واحد من هؤلاء حامل لمشكاة يعتبرها نور الهدى و يدعي امتلاك العصا السحرية لحل كل مشاكل البلاد: سياسية و إقتصادية و اجتماعية. و الواقع أن لا أحد قادر على تحمل المسؤولية بمفرده. كما أن الحقيقة التي لا مناص منها هي أن اختلاف الآراء مثله مثل اختلاف أصابيع اليد الواحدة فكل منها له حجمه و دوره و مهمته و في مجموعها تجعل اليد قادرة على العمل و الكتابة و العزف..إلخ. لذا فإننا نرى أن كل من يقول باختلاف الجوهر إنما يضع الإديولوجية فوق أي اعتبار و هذا سبيل عقيم. إذ أن كل المجتمعات التي سبقتنا في هذا الدرب، أي الإديولوجية أولا،خرجت من دهاليز الاضطهاد و القمع لتقع تحت وطأة دكتاتورية النظرة الأحادية و هي أشد مما كانت فيه. إن غاية الجميع تحقيق العيش الكريم للمواطن و بناء المجتمع المدني المتحضر أي دولة القانون و الديمقراطية فلماذا لا نتفق؟ لماذا نرفض العنف؟ إن المواجهة العنيفة لا تؤدي إلا إلى الهزيمة حتى في تلك الحالات التي قد تتوج فيها بما قد يسمونه نصرا، نظرا لما يخيم، كنيجة لها، على البلاد من غمام داكن ينزف مطرا أحمر من جهة و لما يفقده المجتمع من حرية تعبير و تعددية الفكر بسيطرة النظرة الأحادية عليه يعتبرها أصحابها حقيقة مطلقة و كل ما خالفها عداء ظاهر وجبت مناهضته. بمعنى تصبح الدنيا ذات حلتين إحداها بيضاء و الأخرى سوداء أما باقي الألوان فلا وجود لها. هذا ما حصل مع الثورة الفرنسية و هذا ما وقعت فيه روسيا باندلاع ثورة أكتوبر و هذا ما لم تسلم منه إيران المعاصرة. و لا حاجة للحديث عن الصين و كوريا الشمالية و الفيتنام و أفغنستان لأن الصورة المؤلمة هي نفسها. تعددت الإديولوجيات و الجوهر واحد إن أي فكر عنيف، مهما كانت حلته الإديولوجية، ينبني على مبدأ واحد و هو الكراهية و العداء للآخرو بالتالي تقسيم المجتمع إلى معسكرين: من هم معنا و من هم ضدنا و لا وجود للحياد. هذا ما نص عليه لينين و هي نفس الفكرة التي نجدها عند صاحب "جاهلية القرن العشرين". لذلك تجد أصحاب الإديولوجيات – يسارية أو يمينية – يعملون على التمييز بين من هم معهم و من هم ضدهم باستعمال مصطلحات خاصة بهم في المخاطبة. فالشيوعيون يستعملون كلمة "الرفيق" بينما اختار القائلون بجاهلية المجتمع مصطلح "الأخ" و لما كانت هذه الكلمة متداولة بين عامة الناس فإنهم أضافوا طريقة خاصة بهم في التحية و هي "السلام على من اتبع الهدى" و بالطبع الهدى هو جماعتهم أو تيارهم و بمعنى آخر إنهم يتمنون السلام لبني تيارهم لا لغيرهم. إذا رغم اختلاف النظرة الفلسفية، ظاهريا، لأولائك أو هؤلاء ففي عمقها و جوهرها هي زاوية واحدة منبثقة عن الكراهية و العداوة للآخر. كما أن هذه الإديولوجيات المختلفة تلتقي في طموحها إلى استئصال التعددية و فرض نظام دغمائية الإيديولوجية الواحدة باسم الحرية و الديمقراطية. هذه حقيقة عايناها في الاتحاد السوفياتي السابق و تعيشها إيران اليوم مرورا بأفغنستان طلبان (و لا يعني هذا أننا مع نظام كرزاي). أثناء صراع الإديولوجيات تغيب حقيقة بسيطة عن ذهن الخصوم السياسيين و هي أن الشعب لا يهمه من السياسة إلا تحقيق الحياة الكريمة و هذا يعني أن المشكل إقتصادي و ليس فلسفي. ما دام الأمر كذلك فإمكانية توحيد الصفوف متواجدة و حاضرة في المجتمع. كل ما يتوجب علينا هو التوقف لوهلة نتجرد خلالها من دغمائية الإديولوجية لنتبصر فيما يعرضه الآخر. ساعتها سنكشف أنه هناك نقاط عديدة تجمعنا و لا يفرق بيننا سوىالفروع. فالغاية المشتركة هي دولة القانون و العدالة الاجتماعية و الديمقراطية على أي حال هذا ما يجهر به الجميع أما ما قد يخفونه فالله وحده عليم بذات الصدور. الديمقراطية الديمقراطية في أصلها اليوناني تعني سلطة الشعب أي أن المجتمع برمته يشارك في تسيير أموره. و الشعب هو فئات متباينة في نظرتها الفلسفية و مكانتها الإقتصادية. لذلك الديمقراطية تشترط التعددية في الفكر و تنبذ الانفرادية بالقرار. فالديمقراطية ترتكز على نسبية الحقيقة و تبتعد عن فرض رؤية فئة أو جماعة على أخرى. هكذا عرفنا الديمقراطية و هكذا اعتنقناها و هكذا نريد نهجها و الحكم الأخير فيها يرجع للمجتمع عامة. إن المغرب مجتمع ديمقراطي في جذوره إذ تميز، منذ قبل التاريخ، بنظام قبلي طبعته عدالة القرار المبنية على احترام الرأي الآخر. و هذا تجلى فيما يعرف ب"الجماعة" التي كانت تتمتع بحرية كبيرة في اتخاذ القرارات أما الشيخ أو القائد فكان موكول له دور الحكم نظرا لما كان يتمتع به من احترام عند الجميع. لذلك ففي رأينا المغرب ليس في حاجة لاقتباس نظام سياسي عادل لا من الغرب و لا من المشرق ففي بنية مجتمعنا التاريخية ما يسد الحاجة. و ختاما نقول أن الديمقراطية هي التعبير عن رأينا بكل حرية و لكن مع الإصغاء لما يقول الآخر و احترامه. و الديمقراطية هي حب الوطن و الشعب فردا فردا لأن كلاهما ليسا مفهومين مجردين.