إذا كان من المسلم به أن القضاء وظيفة سيادية في المجتمع تختلف عن باقي الوظائف العامة ومطوق بقدسية وجسامة الرسالة التي يحملها، فإن أداء المرفق القضائي لهذه المهمة مرهون ولا شك بقدرته على التأقلم مع الأزمات الطارئة -كمثل هذه الظروف التي يعيشها العالم اليوم-ومواجهة آثارها السلبية بما تجود به قريحة واجتهاد ذوي الشأن والاختصاص وما تسخره الدولة من إمكانيات ووسائل وآليات مناسبة لتحقيق هذه الغاية الفضلى. وفي ظل الوضعية الوبائية الراهنة لجائحة كورونا وقد أرخت بظلالها على كل مناحي الحياة متسببةًّ في تعطيل أو توقف الكثير من الخدمات التي تقدمها المرافق العامة وما فرضه واقع الحال من التقيد بمحاذير الوقاية والسلامة العامة. ومن هذا المنطلق، يمكن القول بأن تفشي فيروس كورونا لم يشكل مصدر تهديد للصحة العامة فحسب، وإنما أثر بالنتيجة وبشكل كبير على السير العادي للمرافق العمومية للحد الذي يمكن أن يحول دون ضمان مبدأ الاستمرارية في تقديم خدماتها إلى العموم. ولم يكن المرفق القضائي بمعزل عن تأثيرات هذه الوضعية، لذلك تم الحرص على اتخاذ مجموعة من التدابير التي تروم من جهة الحفاظ على الصحة العامة للعاملين داخل المحاكم وعموم المرتفقين، ومن جهة أخرى تقديم خدماتها الضرورية والمستعجلة بوتيرة عادية وفق منهجية مبتكرة وخلاقة. حري إذن بالقضاء وهو الموكول مهمة الفصل في الخصومات والمؤتمن على رعاية وصيانة الحقوق والحريات وتحقيق العدالة ابتكار أساليب ومقاربات وتجريب خيارات جديدة تحفظ استمرارية المرفق القضائي وتسهم قدر الإمكان في ترشيد الزمن القضائي. إن تملك هذه الرؤية لم يكن غائبا عن نظر مكونات العدالة في بلادنا، إذ انبرت منذ بداية هذه الجائحة للبحث والاجتهاد جاعلة في صلب انشغالاتها كيفية تدبير هذه المرحلة الخاصة مسترشدة في ذلك بالتوجهات العامة التي تفتضيها حالة الطوارئ الصحية، وما فرضته من تقييد على حركة التنقل وضرورة الالتزام بمجموعة من الإجراءات والتدابير الكفيلة بالمحافظة على الصحة والسلامة العامة. وهو ما سعى المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة ووزارة العدل إلى تأطيره من خلال العديد من الكتب والدوريات والمناشير الموجِّهة لكيفية تدبير الإدارة القضائية بتوازٍ مع اتخاذ عدد من الإجراءات المواكبة، والتي يستشف منها الرغبة في تحقيق معادلة متوازنة قوامها السلامة والأمن الصحي قبل كل شيء وضمان تقديم الخدمات الضرورية والمستعجلة في المرحلة الأولى، والانتقال بعدها بتدرج إلى مراحل أخرى من فتح المحاكم ومعالجة القضايا. وقد نتجت عن هذه الوضعية بالضرورة آثار قانونية وقضائية لم تكن معهودة قبل هذه الجائحة لتصبح لا غنى عنها في تصريف العمل القضائي وتدبير الإدارة القضائية وبما يكفل إنتاج خدمة قضائية مبتكرة تناسب حجم التحديات المطروحة. ولا ينبغي بالمقابل أن يكون هذا الانشغال الذي عبرت عنه مختلف مكونات العدالة حبيس الظروف الاستثنائية أو الأزمات، ولئن كانت تشكل حافزا لذلك إلا أن المقاربات المنشودة يتعين أن تكون حصيلة تفكير عميق وحصيف يجمع من حوله مختلف الشركاء والفاعلين حتى يتحقق التوافق بشأن مخرجات هذا التفكير وتهيأ أسباب التنزيل الفعلي لمرتكزات ورش الإصلاح والتحديث التي وضع دعائمها وحدد توجهاتها الكبرى ميثاق إصلاح منظومة العدالة. ومما لا شك فيه فقد أماطت هذه الظرفية الخاصة النقاب عن كثير من العيوب والنقائص التي يشكو منها المرفق القضائي؛ ومن بينها التأخر الكبير على مستوى تنزيل المحكمة الرقمية، كما أن مكونات العدالة تجد نفسها اليوم أمام تبعات الأزمة التشريعية المرتبطة إما بعدم إخراج العديد من القوانين إلى حيز الوجود (قانون المسطرة المدنية، قانون المسطرة الجنائية...)، أو تعثر قوانين أخرى كقانون التنظيم القضائي. وهنا، يمكن للمرء أن يتساءل عن كُلفة هذا التأخير على مسار الإصلاح المنشود، وعن تأثيراتِه المؤكّدة على الأمن القضائي والقانوني، وأيضا ما هي الحلول الممكنة لمعالجة إشكالية هدر الزمن القضائي، وماهي مستويات اعتماد الحكامة الجيدة لترشيد أمثل للطاقات والإمكانيات البشرية والمادية العاملة في مرفق العدالة، وأي إدارة قضائية يمكنها مواكبة حجم هذه التحديات. وكما يقال، فالأزمات غير المتوقعة تحتاج إلى حلول غير متوقعة.. لذلك، فقد أبانت جائحة كورونا الحاجة المثلى للاجتهاد وابتكار أفضل الحلول القابلة للتطبيق، مما يعني أن باب الاجتهاد على سواء على مستوى تدبير الإدارة القضائية أو ضمان انسيابية الخدمات القضائية يتعين أن يظل مفتوحا ليس فقط من خلال الانفتاح على وسائل التكنولوجيا الحديثة واستعمالاتها المختلفة في الإجراءات والمساطر القضائية، وإنما أيضا من خلال تغيير بعض المفاهيم والإجراءات أو جعلها أكثر مرونة لتتجاوب مع مختلف الظروف وبما يخدم في المحصلة تحقيق العدالة. وإذا ألقينا نظرة على اعتماد تقنية التخاطب السمعي البصري مع المعتقلين في المحاكمات الزجرية لوقفنا على مشهد لم يكن مألوفا في الجلسات بشكلها التقليدي المعروف أنها مطوقة بالكثير من الأعراف والطقوس المرعية الضاربة في التاريخ. فهذه التقنية لم تعوّض فقط الوجود المادي للمتهم بمثوله "الافتراضي" أمام الهيئة القضائية، وإنما يبدو أنها تؤسس لقواعد جديدة غير مألوفة من قبل في التدبير القضائي "التقليدي" للجلسات بما يتطلبه هذا التدبير من وحدة في الزمان والمكان وحضور فعلي لأطراف الخصومة القضائية. إن هذه المحاكمات، بغض النظر عما يحيط بها من مؤاخذات، لا يمكن لأي دارس إلا أن يقف عند الأثر الذي أحدثته والذي يمكنه أن يمهد لخلخلة الكثير من المفاهيم؛ فمفهوم الجلسة مثلا صار يشمل الفضاء الذي يقع فيه المتهم المعتقل، وقد يمهد ذلك لتغيير المقتضيات القانونية التي تؤطر قواعد سير الجلسات، أو تلك المتعلقة بنقل وإحضار المعتقلين، بل حتى مدلول قاعة الجلسات سيفقد معناه التقليدي الضيق ليستوعب مجالا أوسع، قد يشمل في المستقبل ليس فقط مكان وجود المتهم وإنما باقي الأطراف من خصوم وشهود ودفاع. وفي الختام، يحق أن نتساءل ما هي الدروس التي يمكن لمكونات العدالة استخلاصها من جائحة كورونا؟ وكيف يمكن استثمارها بعد زوال هذا الوباء؟.. الأكيد أن المرفق القضائي وجد نفسه أمام امتحان الاستمرارية، ونجح فيه إلى حد بعيد؛ غير أنه بقدر ما أفلح تضافر جهود مكونات العدالة في تحقيق هذه الغاية، ولئن كانت مستويات التقييم حولها لا يتصور أن تكون بالضرورة محط إجماع من قبل جميع الفاعلين، إلا أن الحقيقة الثابتة أن الأزمة أكدت من جديد أنه لا مناص ولا مندوحة من تنزيل مقاربات تستجيب لحاجات المرفق للتطور والتحديث والرفع من النجاعة القضائية. ولعل واحدا من أهم تلك الدروس التي يتعين استخلاصها ه أن مرفق العدالة بحاجة مستمرة ودائمة إلى الاجتهاد والمبادرة الخلاقة ليس فقط لجعله يواكب حتمية التحديث والعصرنة التي يفرضها عالمنا اليوم، وإنما الاجتهاد المقصود هنا أيضا هو مدى استفادته من منظومة تشريعية قادرة على استيعاب مثل هذه الظروف الخاصة. كما أن الحاجة ماسة كذلك إلى إدارة قضائية تتمتع بقدر من الابتكار والمرونة المحمودة، على مستوى المفاهيم والممارسة العملية. * منتدب قضائي بالنيابة العامة لدى محكمة الاستئناف بالناظور