لم تغِب شجون وأْدِ تجارب "الصّحافة المستقلة" في مطلع الألفية الثالثة بالمغرب، والجيل الذي كان ضحيّة أمله فيها في التّسعينيات وما بعدها، وأمنيات "مغرب ديمقراطي مستقلّ"، عن ندوة نظّمتها لجنة التضامن مع الصحافي سليمان الريسوني، وتجدّد فيها مطلب متابعته في حالة سراح، وأكد فيها جلّ الصحافيين والحقوقيين المتدخّلين على أنّ مطالبهم ليست ترجيح كفّة طرف على طرف، بل ضرورة تحقيق نزيه دون معاملة تفضيلية أو تمييزية بناء على أساس مهنيّ أو اختيار جنسيّ. وقالت هاجر الريسوني، صحافية ابنة شقيق الصحافي المتابع في حالة اعتقال، إنّ هذه هي الضربة الثالثة غير المتوقّعة لجريدة "أخبار اليوم"، بعد اعتقال مؤسِّسها توفيق بوعشرين، واعتقالها هي السنة الماضية. وأضافت: هذه من بين التضييقات التي مسّت الجريدة من ضُرٍّ نتيجة الجائحة مثل باقي الجرائد، مع صعوبة حصول صحافيّيها على معلومات من المؤسسات العمومية، قبل أن تستدرك مصرّحة: نحاول أن نكون أوفياء لقرائنا، وأن نستمر على نفس الخط التحريري، ونحاول الاستمرار وأن نبقى في الساحة. وتذكر المتحدّثة أنّ سبب وصف اعتقال سليمان الريسوني ب"الانتقامي والتعسّفي" كونه قد "اعتُقلَ دون استدعاء"، علما أنّ "المدعي تحدّث في تدوينة عن حادثة في سنة 2018، دون أن يذكر اسم الشخص الذي اعتدى عليه"، لينشر موقع إلكتروني بعد يوم من ذلك التّدوينة، ويذكر أن الريسوني هو المستهدَف منها، كما نشر بعد ذلك قائلا إن الريسوني يبدّد مال الجريدة في سهرات خاصة، وتمّ الاستماع للمدّعي بناء على تدوينة، ليُعتقَل سليمان الريسوني دون استدعاء في اليوم التالي، ويبقى في حالة اعتقال إلى اليوم، دون أن يتخابر بشكل نهائي مع محاميه، مع ما رافق ذلك من تشهير قبل الاعتقال وبعده، في ملفّ لا توجد فيه قرائن قويّة ضدّه، وهو ما يفسّر إحالته على قاضي التّحقيق. وتعليقا على من يقول إنّ ملفّ اعتقال الصحافي الريسوني مثل باقي الملفّات، تردّ هاجر الريسوني بقول: لِمَ يتمّ التشهير به إذن دون المواطنين الآخرين الذين يعتقَلون بمثل هذه التهم؟ ثم تزيد: لو كان يريد المشتكي فعلا ألا يُستغَلّ ملفّه، فليرفع دعوى مدنية ويقدم قرائنه، لا أن يستمرّ في هذه المحاكمة التي حرّكتها النيابة العامّة. بدورها، استحضرت فتيحة أعرور، حقوقية، مبدأ "براءة المتّهم حتى تثبت إدانته"، ووضعت ملفّ الصحافي الريسوني في سياق "مجموعة من المتابعات؛ مثل ملفّ هشام المنصوري الذي كيلَت له تهم كبيرة، وملف توفيق بوعشرين الذي نصّبت فيه الدولة نفسها مدافعة عن حقوق النساء، قبل أن تبدّل موقفها تماما في قضية هاجر الريسوني وتصير رِجعية بشكل كبير جدا وتنتهك حقّها في الجسد، وحرمته وكأنّنا في "داعش"، ثم بسرعة قصوى صرنا ندافع عن الأقليات الجندرية، بعد معاناتهم من الانتهاكات في حقوقهم". ثم زادت الحقوقية معلّقة: "في هذا تناقض خطيرة، ونية انتقامية واضحة"، وفق تعبيرها. وذكرت الحقوقية، التي سبق أن اشتغلت بالإعلام، أنّ الصحافة المستقلّة في المغرب كانت تعمل في حقل بدأ يضيق في سنة 2001، قبل أن يُغلَق سنة 2002. ثم أضافت: الا يوجد تغيير كبير في النية المبيتة لاستهداف الصحافة المستقلة؛ لكن مررنا من إغلاق منافذ الإشهار إلى السرعة القصوى بجرائم متمحورة حول الجنس، مما يشتت الجسم الحقوقي والإعلامي. واسترسلت أعرور قائلة: "الجزائر تمر بنفس الشيء، لكن النظام الجزائري لم يلجأ إلى اتهام الصحافيين بأنهم مغتصبون وهزّهم نفسيا وجعلهم أشخاصا خطيرين، بل يتّهمهم بالمس بأمن الدولة مباشرة؛ ولكنّنا مع الصورة السيئة للمرأة المغربية في الخارج، نصور الآن الرجل المغربي كإنسان مغتصب غير سوي، في جرائم تريد أن تدمّر الشخص، وهي سيف ذو حدين يعطي صورة سيئة جدا عن بلادنا، (...) ويثير الاشمئزاز ويؤلم كثيرا". ومع تأكيدها على الدفاع عن حقوق "مجتمع الميم"، أضافت المتحدّثة: "الطرف الآخر الذي يعتبر نفسه متضررا حقوقه مضمونة، ويتخابر مع دفاعه، دون أن يوجد تكافؤ؛ فالمشتَكي في منزله ويجمع أدلته ويتواصل مع دفاعه، والريسوني مُعتَقَل دون وجود ضرورة للاعتقال الاحتياطي نظرا لإغلاق الحدود". ثم زادت: "ليس هذا تحيّزا، بل إنّ سليمان الريسوني شخص انتُهِكَت حقوقه على جميع المستويات، في غياب دليل قاطع وفي غياب شهود، وفي غياب تلبّس، ونحتاج معجزة حقيقية لتحقيق نزيه يكشف ما حدث". وتوجّهت الحقوقية أعرور في مداخلتها إلى مجموعة من المدافعين عن حقوق المثليّين و"مجتمع الميم" بشكل عام: "من العار أن نقبل الرّهان على نظام مبني على الهيمنة الذكورية، لأنه سينقلب عليك غدا وستخسر الحقوقيين". كما ذكرت في سياق التعليق على القضية أنّ ما يطالب به الحقوقيون هو "العدالة"، قبل أن تجمل قائلة: "قد توقفون الزهور؛ ولكنكم لن توقِفوا زحف الربيع". من جهته، قال محمد حفيظ، أستاذ جامعي وصحافي سابقا، إنّه كان يتمنّى "ألا نضطر كل مرة إلى مواجهة مثل هذه القضايا في المغرب"، وزاد: "لِمَ لم يتوصّل الريسوني باستدعاء وكانت كلّ ضمانات مثوله أمام الشرطة موجودة؟ علما أنّ طريقة الاعتقال تطرح مجموعة من الأسئلة. وسليمان إلى حدّ الساعة بريء ولا يمكن التعامل معه كمجرم ضُبِطَ في حالة تلبّس، وكأن عدم اعتقاله سيبدِّد به أدلة، ولسنا في حاجة إلى الطّريقة الاستعراضية التي اعتُقل بها". وزاد حفيظ قائلا: "في الوقت الذي يوجد فيه سليمان الريسوني بين يدَي القضاء، يتعرّض للتّشهير، وآلمني أن يكون مصدر هذا السلوك خارجا من قبيلة الصحافيين". ثم تحدّث عن "مجموعة من ملفّات المتابعة في سياق تراجع في الحقوق والحريات"، هو سياق شباب حراك الريف الذين لهم مطالب اجتماعية واقتصادية، سيّسها فاعلون حزبيون باتّهاماتهم، وقال: "هل نريد بعد عشرين أو ثلاثين سنة أن نتحدث عن ضحايا كما تحدثنا من قبل؟ (...) ونحن معنيون بحماية سليمان الريسوني، الذي تضرّر كثيرا في الاعتداء المعنَوي، قبيل توقيفه وبعده، ومسؤولية هذا تتحمّله الجهة التي يوجد بين يدَيها". ويرى محمد حفيظ أنّ "من يقف وراء هذا التراجع لا يريد أن يستفيد من التّاريخ"، علما أنّ "السياق التراجعي في تاريخ البشرية لا المغرب فقط"، وبعد إثنائه على حكمة بيان الصحافيين بعدم تضامنه مع أحد على حساب أحد، قال المتحدّث: من الكافي أن يلزم كل صحافي في هذه القضية الموضوعية والحياد، ويكتفي بهما، دون اصطفاف. علما أنّه لا يمكن أن ينتَسِب إلى الصحافة من هو ضد حقوق الإنسان، كما لا يمكن أن يكون الطبيب ضد الحياة، لأنّه من المفترض أن يناضل من أجل استمرارها. يرى علي لمرابط، صحافي، أنّ ما حدث لكل من سليمان الريسوني وهاجر الريسوني وتوفيق بوعشرين وهشام المنصوري يمس الدمقرطة في المغرب، وزاد: "هذه الحقيقة، فهم يقومون بما يريدونه"، ثم أضاف قائلا: "قلتُها منذ خمس وعشرين سنة، وأقولها الآن: المغرب لا دواء له، مع الأسف، والدواء الوحيد هو الصراخ، وإذا صرخت في المغرب لن ينتبه إليك أحد"، على حد قوله. كما عبّر حسين المجدوبي، صحافي وكاتب، عن تضامنه المطلق مع الصحافيين المعتقلين توفيق بوعشرين وحميد المهداوي ومحمد الأصرحي، وترحّم على فاضل العراقي بالتأكيد على أنه "واحد من روّاد الصحافة المستقلّة"، قبل أن يذكر أنّ اعتقال الصحافي سليمان الريسوني "اعتقال سياسي بالأساس، لأنه صار مزعِجا". وذكر المجدوبي أنّ "عملية التشهير بالصّحافي سليمان الريسوني لا تؤثّر، لأن الرأي العامّ يعرف بشهادة التقارير الدولية المتطرقة إلى مثل هذه المحاكمات، ووضع هذه المتابعة في سياق سلسلة من الاعتقالات بالمغرب، ثم استدرك قائلا: فقط كانت في الماضي تهم سياسية مع الحجر الشهير على علي المرابط، والآن تهم أخرى". مستحضرا في هذا السياق ملفّات من قبيل ما ذكره تقرير أممي من "الاعتداء على حقوق بوعشرين بشكل كبير للغاية"، و"قضية هاجر الريسوني التي شنّت فيها وسائل الإعلام الدولية حملة، اضطرّت معها الدولة إلى إصدار عفو استثنائي". وذكر المجدوبي أنّ تجربة "الصحافة المستقلة"، التي يفضّل تسميتها "الصحافة الحرّة"، قد ف"شلت في المغرب لأنّه ليست لنا أي أجندة ديمقراطية، مثل الاتحاد الأوروبي، فمحيطنا عبارة عن دول فاشلة"، وزاد: "التشهير موجود منذ عقود، ولكن منذ سنتين أخذ منحنى لا أخلاقيا يسيء إلى الوطن".