عندما نتحدث عن الأزمات، ونحن في عز واحدة منها، كوفيد 19، نستحضر المؤسسات. فوحدها المجتمعات المؤطرة في مؤسسات تستطيع تجاوز الأزمات والتحديات المصيرية، وتكون حظوظها في النجاة وإعادة الانطلاقة من جديد أقوى كلما كانت هذه المؤسسات متجذرة في تاريخها الاجتماعي والسياسي وكلما كانت درجة مشروعيتها عالية، بحيث ينضبط لها الأفراد وتتمكن هي من ممارسة دورها القيادي. المجتمعات الممأسسة هي محمية أمام كل الأحداث، لها نوع من المناعة، ولها صمام أمان ومرجعيات. هذه المؤسسات هي التي تجعل الأفراد مجتمعين حول قيم مشتركة، وتجعلهم في لحظة الأزمات، يتعالون على اختلافاتهم وحتى خلافاتهم. ما يمنح هذه المؤسسات مشروعيتها وما يؤهلها للعب أدوارها التاريخية في حفظ المجتمع هو كونها تصبح جزءا مما يسميه إميل دوركايم بالوعي الجمعي (la conscience collective) أي مجموع المعتقدات والقيم والقواعد المشتركة بين الأفراد والتي تشكل نسقا مستقلا له حياته الخاصة. وبهذه الاستقلالية عن الأفراد وعن الظرفيات، تسمح المؤسسات للمجتمع بالاستمرارية وبالوحدة. في الثاني والعشرين من شهر نونبر عام 1962، اخترقت رصاصة رأس الرئيس الأمريكي جون كنيدي، ولكن الولاياتالمتحدة استمرت لإيمانها بمؤسسة الديمقراطية لا بسلطة الأشخاص، لم يحدث أي انقلاب عسكري ولا دعوات إقليمية للانفصال. بل أكملت الديمقراطية طريقها بثبات. أما في العراق وفي ليبيا، فبمجرد سقوط الزعيم، حتى تفكك البلدان وسقطت الدولة تحت قوة انبعاث النعرات القبلية والانتماءات العرقية، وتحولا إلى ساحة انتقامات وحرب الكل ضد الكل. نتذكر خطبة أبي بكر الشهيرة غداة موت الرسول، " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت". الأمر كذلك. الأزمات ظرفية، أما المؤسسات فدائمة. فكرة المؤسسة هي ما سمح للبشر، دون سواهم، بالانتقال من حالة الهمجية والفوضى إلى حالة المدنية، ومن حالة الإكراه إلى حالة القانون. هي بذلك تحمل تجليات الرقي الإنساني وتسم وجوده الحضاري. نحن اليوم في قلب حقبة عاصفة ، وصفها أمين معلوف سنة 2009 في أحد مؤلفاته باختلال العالم، وهي حقبة من المنتظر أن تشهد فيها الإنسانية العديد من الهزات والأزمات، المالية والاقتصادية والبيئية والقيمية. يكفي النظر إلى عدد الكوارث الطبيعية التي أعلنت بها الأرض عن غضبها، وإلى اطراد أعطاب الأسواق المالية وإلى الطبيعة الهوياتية للصراعات الاجتماعية والعالمية بما تحمله من رفض للآخر ونكران حقه في الوجود. هذه الاختلالات هي في عمقها تعبير عن استمرار حالة الهمجية، ضد الطبيعة وضد الإنسان، استمرار هيمنة أنانية المصالح وقيم اللاقانون والقوة. في ظل هذه الأزمات، تبقى المؤسسة ضامنة للتوازن وقادرة على جعل الناس، على اختلافهم، يلتفون، في لحظاتهم المصيرية، حول المشترك شريطة أن يكون لهذا الأخير ما يكفي من الرمزية ومن الحضور الذي يؤهله لهذا الدور. لا يتعلق الأمر بجعل المؤسسة أقنوما يُعبد، أو كائنا خارج السياق التاريخي وخارج دينامية المجتمع الذي أنتجها ومحيطها الخارجي الذي تؤثر فيه وتتأثر به. إن قدرتها على ضبط التوازنات وعلى قيادة الأفراد والجماعات تظل قائمة ما دامت المؤسسة نفسها تحمل قيم المساواة وسيادة القانون، وما دامت هي قادرة على ترسيخ أو تجديد منابع مشروعيتها وحضورها داخل الوعي الجمعي للناس. أكثر من ذلك، صارت دولة المؤسسات اليوم مدعوة إلى الاستثمار الإيجابي لكل أشكال الذكاء الجماعي التي صار يوفرها المجتمع من خلال كل فضاءات الاقتراح والترافع وحتى المساءلة الاجتماعية. استحضار كل هذه الشروط يجعل االدولة حاملة لمشروع التحديث المجتمعي ومساهمة في إحداث نقلة تاريخية في حياة مجتمعها. *أستاذ باحث