حين تضع الجائحة أوزارها، وحين تلتقط البشرية أنفاسها، وتتخلص من ثقل الفيروس، الذي جثم على تصرفاتها ردحا من الوقت. سيستيقظ العالم مذهولا بعد الأزمة ليكتشف حجم الدمار الذي خلفه هذا الزائر الغريب، في المجال الاقتصادي والاجتماعي وفي العلاقات الدولية. كثير من المهتمين يطرحون العديد من الأسئلة، يصب فحواها في التمظهرات الحقيقية التي ستسود العالم جراء البصمات المؤثرة التي ستخلفها جائحة كورونا. وقبل الخوض في هذا النقاش؛ لا بد أن نعترف أن العديد من الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، رغم اختلاف مشاربها، أكدت أن العالم - قبل الجائحة - كان يسير بخطى أكيدة، في ما يستقبل من الأعوام، نحو أزمة اقتصادية ومالية لم يسبق لها نظير في ما مضى من الزمن. لكن بحلول زوبعة كورونا انكشف الستار وذاب الجليد الذي كان يحجب عن الأعين حقيقة هشاشة الاقتصاد العالمي بكل ما يحمله من مسميات براقة يخالها البعض حقيقة، ليكشف اختبارها الجدي أنها لم تكن سوى سراب يخاله الظمآن ماء فكل المؤشرات توضح أن الاقتصاد العالمي مفلس (حجم الدين العام يتجاوز بكثير حجم الناتج الدولي الخام.) أضف إلى ذلك أن حجم الدمار الذي سيخلقه الوباء في العالم لم يسبق لأي حرب -مهما كانت ضراوتها - أن خلفته، اقتصاديا واجتماعيًا وسياسيًا. ولا أحد يمكن لحد الآن أن يتصور كل التداعيات التي ستنجم عن هذا الإفلاس، ومدى محدوديتها في الزمان والمكان. عالم بضوابط جديدة وحكامة أكثر إنصافا من المؤكد أن هذه الأزمة ستعصف بدول وتقوي أخرى. مما سيؤدي إلى تغيير ميزان القوى، وتحول السلطة والنفوذ، لينكشف من سيحكم العالم (القصد لا تتسع للخوض في التفاصيل) بخلق أقطاب اقتصادية جديدة. أقطاب يمكن أن تتكون من تلك الدول التي تمتلك مخزونا وفيرا للموارد الأساسية، وفي الوقت نفسه تبدو هي شديدة الحاجة إلى هذه الموارد (مثل بعض الدول الآسيوية والعربية. ) ولابد أن نشير إلى أن تحول مركز القوة الاقتصادية سيشكل كذلك تراجعا ملحوظا في العولمة. حيث أبانت هذه الأزمة، على أن اتفاقيات التعاون بين الدول، واتفاقيات التبادل الحر كانت فقط شكلية و"سامة" ولا تخدم المصالح المشتركة. والدليل على ذلك دول الاتحاد الأوروبي التي تخلت عن بعضها البعض. لهذه الأسباب ستضطر الدول لتقوية اقتصاداتها الوطنية، بعد الأزمة ومحاولة حمايته أكثر، لأن المبادلات العالمية ستعرف انكماشا، ولو على المدى المتوسط. وستنكب كل الدول على مراجعة تفكيرها في الطريقة الأنجع والمثلى لإعادة بناء هياكلها الاقتصادية. لكن هذه الفترة ستتطلب بعضا من الوقت. في ظل هذه الظروف، يبدو أن بوادر النظام العالمي الاقتصادي تشير إلى أن مركز القوة سيتغير، ولن تبقى الولاياتالمتحدةالأمريكية هي المركز الأساسي والمحوري للاقتصاد العالمي، لكون شعبها فقد الثقة في العولمة والتجارة العالمية، التي كان ينبني عليها الاقتصاد الأمريكي، والذي فشل في حماية الأمريكيين أنفسهم، أضف إلى ذلك أنه يشكو من ثقل مديونيته المتفاقمة عالميا. في الوقت نفسه أظهرت الصين قوتها وكفاءتها وصمود اقتصادها الذي كشفت، في عز الأزمة، أنه ينمو بوتيرة سريعة. لقد كشف هذا الوباء عن ضعف دول، كان الجميع يعتقد أنها الأنجح. بل ينزلها الجميع منزلة المرجعية المثلى، بل هي التي يجب الاقتداء بها في سياسات النمو الاقتصادي. والأدهى من ذلك أن الوباء كشف كذلك عن هشاشة الأسواق وضعف الحكامة وكفاءة المسؤولين بتلك الدول. مما يتيح لنا الفرصة لمساءلة هذه الأنظمة الديمقراطية بهذه البلدان عن مدى نجاعة خططها في تدبير و مواجهة الأزمات، من أجل حماية مواطنيها في مثل هذه النكبات.( دول الاتحاد الأوروبي نموذجا.) وفي المقابل أبانت دول مثل كوريا الجنوبيةوالصين - التي تعتبر دول الحق والقانون أكثر مما هي ديمقراطية - عن كفاءتها وعلو كعبها في مواجهة وتدبير الأزمة. كل هذا يؤكد أن هذه الأزمة لابد أن تنجم عنها تحولات جذرية ( اقتصاديا واجتماعيًا وسياسيًا ). كما أنها ستعصف لا محالة بالبعض، وتتيح الفرصة للبعض الآخر ليطفو على السطح، لينطلق بقوة في مساره التنموي. في ظل هذه الأزمة، سيعرف العالم نظاما وحكامة جديدين وستتراجع العولمة ولو على المدى المتوسط، لأنها أبانت عن وجهها اللاأخلاقي واللا إنساني. لا يمكن للعالم ان يسير الا بحكامة عادلة منصفة وإنسانية تحكمها قيم اخلاقية (سنعود بالتفصيل لهدا الموضوع) تحترم سيادة الدول. بما ان الحكامة لها ارتباط ونيف بالتنمية بشكل عام، سيضطر العالم بعد الدمار الى تخليق الحكامة واعادة النظر في أساليبها. اقتصاد بملامح أكثر إنسانية عادلة الأكيد أن الاقتصاد العالمي سيعرف لاحقا شللا في شبكات التوزيع، والتموين مما سيؤدي إلى ظهور تغييرات جوهرية، في موازين القوى الاقتصادية. أمر سيدفع كثيرا من الدول والحكومات إلى الاهتمام الكلي بإعادة بناء اقتصادها الوطني، وترتيب الأولويات الملحة التي تسد الحاجيات الضرورية لمواطنيها، دون اللجوء إلى استيراد تلك المواد من جهات أخرى. بالنسبة لبلدنا المغرب؛ والذي يعتمد اقتصاده على الاستهلاك، فإن قطاع التجارة (بكل أنواعها) والسياحة سيعرفان خسارة كبيرة. يضاف إليهما قطاعي النسيج والألبسة والسيارات، وبما أن الاقتصاد الوطني مرتبط بشكل كبير بالاتحاد الأوروبي، فإنه سيتأثر كذلك بانخفاض النمو الاقتصادي بهذا الاتحاد، وهو الشريك الاقتصادي الأول للمغرب: تكتل السوق الأوروبية بالنسبة للمغرب 58% من الصادرات، 70% من واردات السياحة، 68% من تحويلات المغاربة بالخارج. في ظل هذه الظروف الطارئة، سيعرف النمو الاقتصادي الوطني تراجعا كبيرا ليصبح معدل النمو0,2% فقط بدل معدل 3,3% الذي كان مأمولا. ففي قطاع التجارة مثلا، سيعرف تبادل المواد انخفاضا يمكن أن يصل الى 20% مما سيسبب خسارة تقدر ب 2,6 مليون طن كل شهر ابتداء من 14مارس (عن CFG بنك.( سيسبب إغلاق الحدود في شل سلسلة التبادلات والتموين، مما سيوثر بشكل مباشر على سلسلة الإنتاج داخل الشركات. (التجارة الخارجية تشكل 32% الناتج الداخلي الخام. ) نظرا لأهمية قطاع السياحة في الاقتصاد الوطني، ومدى تأثره بالأزمة، فإن الخسارة المرتقبة في هذا القطاع، يمكن أن تصل الى 34,1 مليار درهم من رقم معاملات القطاع، حيث سيفقد هذا الأخير 6 ملايين سائح (مندوبية الاتحاد الأوروبي بالمغرب). مما سيؤثر بشكل مباشر على قطاع الطيران (فقدان حوالي 4,9 مليون زبون، المصدر نفسه. ( قطاع السيارات الذي يعتبر من بين القطاعات المشغلة في البلاد، علق أنشطته بشكل مؤقت منذ بداية الأزمة في معامل رونوPSA./ قطاع النسيج والألبسة عرف شللا شبه تام، بسبب إغلاق الحدود وتقليص الواردات خصوصًا، القادمة من الصين. الشيء نفسه ينطبق على قطاع الصناعة الغذائية الذي يعتمد في إنتاجه على استيراد (وتصدير) مجموعة من الموارد الأولية. كل هذا أدى إلى انخفاض مؤشر المعاملات على مستوى بورصة الدارالبيضاء. إلى حدود كتابة هذه السطور فإن السوق المالي الدولي يحتاج إلى ضخ أكثر من 2,6 تريليون دولار. وللتصدي لهذه الأزمة بادر المغرب مبكرا باتخاذ تدابير استباقية واحترازية، من أجل محاصرة تداعيات الوباء. وكبح حدة انتشاره. وبذلك أقدم على تعبئة كل قدراته، واستنفار طاقات جميع مؤسساته. وكان في مقدمة المبادرين صاحب الجلالة محمد السادس، الذي أعلن عن خطوة أساسية ومفصلية، تتجلى في إنشاء، صندوق لتدبير الجائحة وهو الذي يوجه ويتتبع عن قرب، وفي كل وقت، سبل مواجهة الأزمة. ولابد من التأكيد على أن الشعب المغربي بكل فئاته قد برهن مرة أخرى - كما كان دوما - على تشبعه بقيم التضامن والتكافل في مثل هذه الأزمات، بمساهماته التلقائية والسخية في صندوق تدبير الجائحة. وهذا الإجراء المحوري، تلته إجراءات أخرى منسقة ومتلاحمة. تمخضت عنها نتائج مميزة انتزعت اعترافات حكومات وهيئات دولية. تم خلق لجنة اليقظة الاقتصادية. والتي شرعت في أخذ بعض التدابير الأولية للتخفيف من آثار الأزمة من: الناحية الاقتصادية: (عدم أداء مستحقات الضمان الاجتماعي للشركات، تأجيل القروض البنكية بالنسبة للشركات الصغيرة والمتوسطة. ) الناحية الاجتماعية:( بالنسبة للمقاولات التي تعرف صعوبات، أو التي أوقفت نشاطها، يمكن لعمالها الاستفادة من تعويض 2000درهم شهريا.) الناحية الضريبية:( بالنسبة للمقاولات التي يقل رقم معاملاتها عن 20 مليون درهم. يمكن أن تستفيد من تأجيل أداء الضرائب الى شهر يونيو.) هذا الوباء أعاد الناس إلى الصواب. بل الى رشدهم ليتوقفوا عن شراء الكماليات وتلك الأشياء غير الأساسية، وغير الضرورية للحياة. أصبح الفقير والغني في ميزان واحد يواجهان سويا المصير نفسه يواجهان الخطر المحدق بهما (لا المال ولا الجاه ولا السلطة قادرة على حماية صاحبها من التعرض للوباء). وبدأ الناس يعرفون ويدركون جيدا المعنى الحقيقي للحياة. فقد أبانت الأنظمة الحالية، خصوصًا المبنية على السلطة والقوة، فشلها في تدبير الأزمة. كما برهنت هذه الأزمة على فشل مجموعة من النظريات (فكرة تحتاج الى إسهاب في مقال آخر). مجمل هذه الأنظمة مبنية أساسًا على الربح والمصلحة الشخصية، مع غياب شبه كلي للجانب الإنساني والاجتماعي والأخلاقي في آليات تدابيرها. وتعطي الاتفاقيات الدولية أكبر دليل على التهافت نحو الربح السريع والمتوحش، مع تجاهل العمق الإنساني ضمن منهاج وفلسفة العولمة. ومن المؤكد أننا سنعود الى النقاش بعد الأزمة. وبعد أن علما كورونا أن العالم حقا قرية صغيرة. بأفراحها وأتراحها. بل وبأوبئتها. فقد علمنا الوباء أننا نحتاج في معاملاتنا التجارية الى استحضار أهمية هذه القيم والمبادئ الإنسانية، التي يجب أن تتحلى بها المنظمات بكل مشاربها. لتضع نصب أعينها مسؤولية اجتماعية تراعي الإنسان في كل مخططاتها. نعم الإنسان، مهما كان لونه أو شكله وأينما كان في أي رقعة من هذا العالم الذي أكد فيروس غير مرئي أنه عالم صغير جدا. ختاما أليست هذه النازلة قضاء ”الهيا" يتغيى إعادة ترتيب مجرى الأمور، لتعود إلى طبيعتها الحقيقية؟ ألم يضع هذا الوباء البشر في كفة واحدة؟ ليعلن أن المساواة هي القاعدة الأصلية في المعاملات البشرية. إذ لا فرق بين غني وفقير. ولا أسود وأبيض. ولا كبير وصغير. ولا مسلم ويهودي ومسيحي. كورونا صرح بلغة صامتة أن الصحة والرغبة في الحياة أمران متلازمان لا يعادلهما لا مال ولا جاه. فكثيرا - ونحن في خضم متاهات الحياة - ما نضحي بسلامة صحتنا على حساب أشياء تافهة، لا وزن لها ولا قيمة، كلما قارناها بطهارة العقل وصفاء البدن. لقد اتضح الآن وبجلاء، غباء مجموعة من الشركات. كتلك التي تسوق مشروبات غازية سامة. أو وجبات سريعة مميتة. هي تروج السموم من أجل ربح اجتبته على حساب جثت مواطنين أبرياء. تبين خلال هذه الأزمة أن قيم التضامن والتآزر، هي أسمى قيم الإنسانية التي يوصي بها ديننا الحنيف. كبسط يد العون للفقراء واليتامى مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا.. وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما ). أضف إلى ذلك أن الحجر الصحي أبان عن فوائد جمة نذكر من بينها: ✓ حاجتنا إلى مواد أساسية تضمن مسار حياتنا السليمة دون الإغراق في طلب الكماليات. ✓ الاعتراف بأهمية الترابط الأسري باعتبار أن الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع. وصلاحها هو صلاح المجتمع بأكمله. أما الجهل بقيمها الأخلاقية، أو إهمالها، فهومن باب إهمال المجتمع. وقد ألح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في كثير من الأحاديث، عن ضرورة إعطاء الأهمية القصوى للتربية والترابط الأسريين، نذكر من بينها ما ورد في الحديث النبوي الشريف: (خيركم خير لأهله. وانا خيركم لأهلي). ويبقى أن نقول بأن المفهوم الحقيقي للعمل، هو التعاون والتآزر ومساعدة الآخرين خصوصا المحتاجين. فلو سادت هذه القيم النبيلة في أرجاء المعمور، وترسخت في أذهان كل الفاعلين، لتجنبنا طوفان هذه الكارثة. ولكبحنا وتيرتها السريعة في الانتشار. لكن للأسف طغت حسابات المصلحة الشخصية والهرولة نحو الربح، على حسابات الإنسانية الصرفة. إنه تذكير إلهي: (وذكر، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ( إنها فرصة ما بعدها فرصة. ودرس ما بعده درس، يدعو العالم ليستعيد إنسانيته المفقودة. ويشعر الحكومات أن الاستثمار في الإنسان هو الحل. والاستثمار الحقيقي في الإنسان لن يكون إلا بتعليم ( لا يفرق بين الغني والفقير ). تعليم مبني على القيم والأخلاق. قبل أن يكون حصصا لحشو المعارف والمهارات في أذهان المتعلمين. وختاما يحق لنا أن تتساءل جميعا: أليست هذه الهبات المتدفقة من بعض الأغنياء، لفائدة المحتاجين هي زكوات ( جمع زكاة) قد صرفوا النظر عن إخراجها في وقتها المناسب. ولنا منذ الآن أن نعترف أن المرحلة التي ستتلونهاية كورونا ستكون هي الأصعب والأكثر تعقيدا. وإلى ذلك الحين، نقول: " لكل مقام مقال ". *أستاذ التعليم العالي بجامعة القاضي عياض مدير مختبر البحث حول الممارسات الجديدة للتسيير رئيس منتدب مؤسسة ورززات الكبرى للتنمية المستدامة.