لا يمكن أن نفصل وجود الإنسان وديناميته ونشاطاته عن الأرض، فمنذ أن خلق كانت الأرض المستقبل الأول لأنشطته البدائية كالقطف والقنص، فأنشطته الزراعية، ثم التجارية والصناعية. الأرض بالنسبة له وسيلة من وسائل الإنتاج تحقق له الأمن الغذائي وعبره الأمن الاجتماعي، هي أيضا تعبير جغرافي عن انتمائه وارتباطه بالمجموعة البشرية التي تشاركه العيش عليها، وذاكرة تختزن أحداثا ووقائع، ومخيالا يشتغل عبر الصور الذهنية المتواترة التي يتم تكوينها عنها، كما أنها ثقافة تضم طقوسا وممارسات وعادات ودلالات رامزة، بالإضافة إلى أنها نمط عيش يحيل على مجموعة من السلوكات الغذائية والمظاهر اللباسية والمحددات اللغوية وغيرها. كل هذه العناصر تجعلنا نقر بأن العلاقة بين الإنسان والأرض علاقة تفاعلية أزلية تتخذ أشكالا عدة، وتتحكم فيها آليات مختلفة. ومغربيا كانت ولا زالت الأرض منطلق صراع وموضوع سلطة وإكراه، ووسيلة من وسائل صياغة التفاوتات الطبقية وإنتاج الوجاهة. القبيلة كتنظيم اجتماعي، تعد الأرض بكل عناصرها السالفة الذكر إلى جانب الأصل المشترك أحد المحددات الأساسية لهويتها، ولا يمكن أن نذكر قبيلة ما دون أن يتباذر إلى ذهننا مجالها الجغرافي الذي يحددها ويمنحها أسباب الوجود. واستمرار القبيلة مرتبط أساسا بالأرض التي تمتلكها وتدبر شؤونها الاقتصادية والاجتماعية، وأي اقتطاع منها أو اجتياح لها هو إعلان عن ضعفها وبداية نهايتها. ولهذا تجد القبيلة تستميت في الدفاع عن أراضيها مستعينة في ذلك بالتحالفات التي تدخل فيها مع قبائل أخرى في إطار ما يسمى باللف أو الاتحادية، وتبحث في نفس الوقت على التوسع وضم أراض أخرى للرفع من قيمتها وقوتها وهيبتها. ولا يصح الحديث عن القبيلة كتنظيم اجتماعي معزول ومنغلق، حيث أنها تنتمي لتنظيم إداري وسياسي أكبر يحتويها وباقي القبائل الأخرى التي تشكل البلد، تنظيم يدعى المخزن أو الدولة، هذا المخزن الذي يحاول بسط نفوذه على كل البلاد وضبط تحركات القبائل المكونة لها وجعلها تقدم الولاء والطاعة. عبر هذه الإضاءة المقتضبة عن أهمية الأرض كمكون رئيسي من مكونات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يجوز لنا أن نتساءل عن موقع الأرض في العلاقة بين المخزن والقبيلة؟ وأن نحاول فهم الاستراتيجية المرتبطة بالأرض التي نهجها المخزن من أجل فرض نفوذه وقراراته؟ وأن نستكشف كيف اشتغل الاستعمار على الجانب العقاري للاستيلاء على أراضي الفلاحين؟ ثم نطرح السؤال عن مصير الأرض بعد أن تمت مغربتها بعيد الاستقلال؟ كل هذه تساؤلات تحاور مسار هوية الأرض خلال ثلاث محطات أساسية من تاريخ المغرب: ما قبل الاستعمار – فترة الاستعمار – بعد الاستقلال، تساؤلات نوضح من خلالها الآليات التي تم عبرها الاشتغال من أجل تملك الأرض وجعلها مصدر قوة ونفوذ وسلطة. المخزن، باعتباره نظاما قديما متوارثا بالمغرب، هو مجموعة من البنيات السياسية التقليدية، ونمط عتيق في الحكم يهدف إلى تنظيم الجيش وتأمين الاستقرار بالقوة وتطويع القبائل المتمردة والمحافظة على البنيات العقارية المخزنية وتوسيعها، ولم يكن له ليقوم بكل هذا لولا الاعتماد على نخبة من رجالاته ومقربيه لمراقبة القبائل وضبط دينامياتها وتحطيم كل أشكال تحالفاتها، هذه النخبة التي شكلت نظاما قائما بذاته يتمثل في القائدية، فالقائد يعين من طرف المخزن لتحصيل الضرائب وتمثيله، ويتم اختياره من أعيان القبيلة ذوي النفوذ بعد أن يكون قد أدى مالا كثيرا له مقابل منصبه، سلطة القائد هذه تجعله يفرض على ساكنة القبيلة كل أشكال الامتثال للضغوطات الضريبية بالقوة، وبالتالي الاستحواذ على أجود أراضيهم، مما يدفع بهم إلى الرفض والانتفاضة. وهنا يتدخل المخزن عن طريق ما يسمى بالحركة المخزنية لردع المتمردين حيث يتم التعاون بين الحرْكة والقائد، فتتم الإاستعانة بالقبائل المجاورة أو بالفرق المحيطة بالفرقة المنتفضة لتطويقها إلى أن تخضع أو تف، وكأن الحرْكة تأتي بهذه الدورية لترميم شقوق التمثيل المحلي المخزني. ولمكافأة القبائل المساندة للمخزن في حركاته يتم منحها أراض من أجل الانتفاع لا التملك وهي ما تسمى بأراضي (الكيش)، ومن القبائل المغربية التي استفادت منها نذكر قبائل الشراردة بضواحي مراكش والرباط وفاس كما أشار إلى ذلك الدكتور عبد الرحيم العطري في كتابه تحولات المغرب القروي أسئلة التنمية المؤجلة، وقبائل اولاد دليم والشبانات وزيرارة بالمحيط القروي لسيدي قاسم كما جاء في أطروحة الدكتور محمد زرنين. وللإشارة فهذه الأراضي الجيشية لا زالت تعرف منازعات بخصوصها وخير مثال على ذلك سكان كيش الأوداية بالرباط الذين يطالبون بإنصافهم من هزالة التعويض الذي منح لهم جراء ترحيلهم من أراضيهم التي تحولت إلى حي الرياض، أرقى حي بالعاصمة حسب ما جاء أيضا في نفس المرجع السابق للدكتور عبد الرحيم العطري. استعان المخزن أيضا بالزوايا، وهي استعانة بالمقدس الذي يمتلك قوة التأثير والتوقير، وذلك للعب دور الوساطة بينه وبين القبائل، ولتدبير الصراعات والقيام بدور التحكيم بخصوص النزاعات التي كانت تقوم حول حدود الأراضي أو المراعي، وهذا لسد الخصاص الذي يتركه ضعف تمثيل السلطة المخزنية أو غيابها. الاستعانة هاته لا بد وأن يقابلها اعتراف رسمي بنفوذها وتكليفها بالقيام بوظائف رسمية لصالحه، وهنا يتم تطبيع العلاقة بين الزاوية والمخزن بمنحها ظهائر التوقير والاحترام وإهدائها أراض، وإعفائها من أداء الكلف المخزنية. وأراضي الشرفاء والزوايا تشكل حاليا حضورا وازنا في التركيبة العقارية الفلاحية. يتضح من خلال البنيتين العقاريتين السابق ذكرهما- أراضي الكيش وأراضي الزوايا – أن المخزن كان يراهن بشدة على مدخل اقتطاع الأرض كآلية لتنفيذ مشروعه المخزني الرامي لضبط المجال وبسط السيطرة، وذلك للقيمة الاقتصادية والاجتماعية والرمزية التي تمتلكها الأراضي بالنسبة له وللقبائل. الاستعمار الفرنسي بدوره لم يخرج عن القاعدة، فقد اتخذ من الأرض مدخلا رئيسيا لتنفيذ استراتيجيته العقارية التي ركزت على المقوم الفلاحي الذي يتميز به المغرب، بالنظر لشساعة أراضيه الفلاحية، لكن تعقيد البنية العقارية المغربية والمتمثلة في أراضي الكيش، وأراضي المخزن، وأراضي الجموع، وأراضي الزوايا والشرفاء، وأراضي الأحباس والملك الخاص، جعلت من الأمر مهمة صعبة، وهذا ما دفع بالمستعمر إلى التفكير في صيغة قانونية يتم بموجبها نزع الأراضي من الفلاحين، وقد تمثلت هذه الصيغة في عملية التحفيظ العقاري التي أحدثت بموجب ظهير غشت 1913م، وقرار إنشاء المحافظة العقارية سنة1914م، وكان هدفها أساسا إرغام الفلاحين على التنازل عن أراضيهم الغير المحفظة، بحيث كانت معظم الأراضي التي يملكها المغاربة غير مسجلة ولا تستند إلى وثيقة قانونية خصوصا بالبوادي التي كانت تعرف نزاعات تقوم بين الأهالي حول الأرض الزراعية، لا تحكمها سوى الأعراف والتقاليد الموروثة. تطبيق عملية التحفيظ العقاري سيجعل الكثير من الفلاحين المغاربة يفقدون أراضيهم، وذلك لعجزهم عن تسديد نفقات التسجيل أو لعدم توفر الشروط التي تتطلبها عملية التحفيظ، حيث أن سند الملكية الذي تطالب به المحافظة العقارية لم يكن بمقدور الساكنة القروية أن تدلي به لعدم توفرها عليه، ولكون امتلاكها للأراضي امتلاك جماعي عرفي تضمنه بنية القبيلة أو (اجماعة)، وقد اعتمد الاستعمار بدوره على نظام القايدية لتعضيد مشروعه الاستيلائي على الأراضي ومساعدته على ذلك، حيث حافظت سلطات الحماية على دور القياد وأعطتهم امتيازات واسعة وربطت مصالحهم وآفاقهم بالوجود الاستعماري وتوسعه، فتغاضت عن الابتزازات للأراضي والأموال وأعمال السخرة التي يقوم بها هؤلاء في حق آهالي البادية، كما هو الشأن في حالة الكلاوي وغيرهم، إذ كان يسخر العمال لاستغلال أراضيهم، ولا يدفع لهم أجرا، ويستولي بطرق مختلفة على جزء من الأراضي الجيدة بجنوب المغرب. سنة 1916م، عرفت إنشاء لجان للاستيطان كان دورها تسهيل توزيع الأراضي على المزارعين الأوروبيين، وإسكان عائلات فرنسية بالبوادي المغربية، وتسليمها أراض زراعية ورعوية لتستغلها في إطار ضيعات وتعاونيات وشركات تستفيد من تشجيعات الحماية الفرنسية ومن تدفق الأموال من مجموعة من المؤسسات المالية الفرنسية، وعلى رأسها بنك باريس الذي يمثل الرأسمالية الفرنسية. خلال هذه الفترة الاستعمارية عرفت هوية الأرض مسارا آخر، فبعد أن كانت في يد القبيلة تدبرها بطرقها التشاركية الجماعية، وبيد المخزن يتصرف فيها بمنطق فرض السلطة والهبة عبر تحركاته وحركاته في ربوعها، انتقلت السيطرة عليها إلى يد المستعمر الذي جعل منها ورقته الرابحة من أجل تنفيذ مخططاته الرامية للاستحواذ على الخيرات الطبيعية، وبسط سيطرته الإدارية والاقتصادية. بعيد الاستقلال، ومع بداية ستينيات القرن الماضي قامت دولة الاستقلال في عهد الملك الحسن الثاني بعملية استرجاع الأراضي التي استولى عليها المعمر في إطار عملية عرفت بمغربة الأراضي، حيث تم استرجاع 320 ألف هكتار من أراضي المعمرين من أصل أكثر من مليون هكتار، وتم إسناد تدبيرها إلى شركتين عموميتين هما صوديا وصوجيطا بين سنتي 1972/1973، وبقي مصير مئات الآلاف من الهكتارات الأخرى غير معروف. جاء مشروع مغربة الأراضي الزراعية في عهد حكومة عبد الله إبراهيم الشجاعة، ضمن مخطط زراعي كان الهدف منه توزيع الأراضي المسترجعة على الفلاحين الصغار عن طريق تحويل ملكية الأراضي الزراعية لفائدتهم في أفق تقليص الفوارق الاجتماعية بالبوادي، وتكوين التعاونيات الفلاحية القادرة على استيعاب الآليات والتقنيات الزراعية الحديثة والعاملة على تأطير الفلاحين، وإصلاح أراضي الكيش والجموع، ثم خلق سياسة زراعية مستقلة بغية الرفع من مستوى النمو الاقتصادي للبلاد، وكذلك النهوض بطبقة من المقاولين المحليين، ووضع الأسس لرأسمالية وطنية، هذا إلى جانب التحكم في الاقتصاد الوطني، وخلق استقلالية اقتصادية، ومحاربة التبعية للخارج، كما هدفت عملية المغربة تشجيع المستثمرين المحليين وتمكينهم من تحسين موقعهم في السوق المالية. لم تقف دواعي عملية المغربة عند هذا الحد، فقد جاء في خطاب الحسن الثاني آنذاك، أن هذه المبادرة تهدف بالأساس إلى مساعدة الطبقات الفقيرة، وخلق طبقات وسطى أكثر نشاطا، وأن امتلاك الأرض حق للمواطنين وحدهم، كما أن الهدف الأسمى منها-أي المغربة- هو توزيع عادل للثروات المحلية، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع المغربي. وإذا كان هذا الرأي يبدو رأيا طموحا ذا أهداف تنموية محضة، فإن بعض الباحثين يرون أن عملية المغربة لم تكن لها سوى دوافع سياسية، حيث بات على نظام الحسن الثاني تصفية التركة الاستعمارية، من أجل تقوية الأعيان القرويين، الذين يعتبرون الأشد وفاءا ودعما له. فتصفية التركة الاستعمارية على مستوى الأراضي لم تكن تتم بدوافع تنموية، إنما كانت ترتهن إلى الشروط السوسيوسياسية التي مر منها المغرب أنذلك، فالأعيان القرويون كانوا حاسمين مرة أخرى باصطفافهم إلى جانب الملك الحسن الثاني الذي استعان بهم وبمكانتهم من أجل دعم مشروع حكمه الذي كانت تهدده القوى الوطنية والبورجوازية الحضرية، وبالتالي لن يتم إرضاؤهم من أجل القيام بدورهم في القرى إلا بتوزيع الأراضي عليهم، عكس ما كان يتم التهييء له من قبل حكومة عبد الله ابراهيم. لقد كان المدخل العقاري مرة أخرى حاسما من أجل تسكين المصاعب المؤقتة وإعادة نوع من التوازن إلى النسق السياسي المغربي عشية الاستقلال، حيث المنافسة كانت محتدمة حول سلطة صناعة القرار، فكانت الأراضي الزراعية كرأسمال مفيد جدا لتدجين بعض النخب، ولتثبيت أسس الحكم خصوصا أن الظرفية طبعها الصراع على قيادة الدولة، وعلى كيفية بناء مشروع الاستقلال. وإلى حدود الآن لا زالت الأرض تمنح لمن يخدم الدولة ويقوم بدور المدافع عنها وعن شروط قيامها. فالقضية الشهيرة التي عرفت ب "خدام الدولة" أثارت ضجة وجدالا سياسيا واجتماعيا كبيرا حول استفادة وزراء وأمناء عامين لأحزاب سياسية ومستشارين للملك وموظفين سامين وأجانب من قطع أرضية ذات مساحة تفوق 3000 متر لكل واحد منهم بأثمان جد هزيلة، في حين أن بسطاء وفقراء الشعب المغربي خصوصا القرويين منهم يعانون من عدم امتلاك ولو شبر من الأرض يستطيعون من خلاله تأمين حياتهم، والعيش بكرامة. من خلال هذا السرد الكرونولوجي لهوية الأرض ومكانتها الكبرى ضمن النسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في تاريخ المغرب، يتضح وبجلاء أنها تعد محورا أساسيا للحكم وبسط السلطة، وآلية فعالة من آليات إنتاج النخب، وامتلاكها هو حيازة لرأسمال رمزي يساهم في التأثير على القرارات، وجلب الامتيازات، وربط شبكة علاقات قادرة على توفير الحماية السياسية. متى إذن تصير الأرض مدخلا للعدالة الاجتماعية؟ ومتى يمكنها تحقيق المساواة الطبقية؟ ومتى تصبح أداة إنتاج يمتلكها الجميع لتحقيق رفاهية الجميع؟ ومتى يمكننا الحديث عن أرض الله للجميع؟ *طالب باحث بماستر سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس