حظيت إشكالية الدولة في المغرب باهتمام خاص من طرف الاقتصاديين المغاربة، اهتمام فاق في بعض الأحيان الاهتمام الذي حظيت به من طرف نظرائهم العاملين في مجال العلوم السياسية. ويرجع هذا الاهتمام إلى العوامل التالية: - الظرفية الداخلية التي تميزت بعد لاستقلال بالتدخل الكبير للدولة في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية الوطنية. - صراع الفعاليات السياسية. وهكذا ضمت الأحزاب المغربية، وخاصة أحزاب المعارضة كحزبي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتقدم والاشتراكية، العديد من الأكاديميين والأساتذة الجامعيين المتخصصين في فروع الاقتصاد. فقد درس الرعيل الأول من الاقتصاديين المغاربة في فرنسا، وبالأخص في جامعات كانت معروفة بتوجهاتها الماركسية، كجامعة كرونوبل أو جامعة ليل بفرنسا. - تأثر بعض الأكاديميين الاقتصاديين المغاربة بالمدرسة الماركسية وتفريعاتها الثالثية، والتي كانت تركز على التقسيم الدولي للعمل وعملية التراكم الرأسمالي والتبعية، أي الاهتمام بشكل عام بما سمي الدول الطرفية. فقد انحرف هؤلاء الأكاديميين عن المسار الماركسي التقليدي أو الماركسي الأمريكو-لاتيني، والذي كان لا يرى في الدولة إلا بنية فوقية أو حلقة لخدمة الرأسمال العالمي، ما أدى إلى عدم اهتمامه بتاريخ الدولة أو الخصوصية التاريخية لكل دولة على حدة. ورغم التأثر الكبير بالمقولات الماركسية والأفكار الاقتصادية التي كانت تتبناها هذه المدارس، فقد تميز الاقتصاديون المغاربة بإدراكهم المبكر، ليس فقط لأهمية دراسة الدولة المغربية، بل أيضا لخصوصيتها التاريخية، والتي تتجسد من خلال قدمها وعراقتها السياسية، وكذا من خلال دورها الكبير في التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية المغربية؛ ما حدا بالكثير منهم إلى الاهتمام برصد تطورها التاريخي، وخاصة في منتصف القرن 19. وقد انصب اهتمام هذه الكتابات على دراسة هذا التطور من خلال رصد علاقة الدولة بمختلف الأنماط الاقتصادية التي عرفها المغرب. وهكذا نجد أن هناك اتجاها ربط الدولة بنمط إنتاج فيودالي، واتجاه آخر قرنها بنمط إنتاج رأسمالي. 1- الدولة ونمط الإنتاج الفيودالي انطلق الباحث إدريس بن علي في أطروحته "مغرب ما قبل الرأسمالية" من أن المغرب عرف نمط إنتاج فيودالي من نوع خاص ساعد على تبلور المخزن وتحديد وظيفته السياسية، كما أدى أيضا إلى أزمته البنيوية. - المخزن كتجسيد لتحالف طبقي يؤكد بن علي أنه في إطار السيرورة التاريخية التي عرفت انهيار الحكم المريني وصعود الأسرة السعدية والعلوية إلى الحكم تنظمت الطبقة الحاكمة من خلال خلقها جهازا للدولة. وتتجسد هذه الطبقة في كل أولئك الذين يمارسون السلطة أو يستطيعون التأثير في الحكم، مستفيدين من المزايا والمكاسب المادية المترتبة عن ذلك. وتتشكل هذه الطبقة خاصة من الشرائح التالية: - الفيودالية العقارية - الأرستقراطية التجارية - الفيودالية الدينية (كالأشراف، شيوخ الطرق، العلماء). أما وحدة هذه الطبقة فتنعكس من خلال البيعة التي تعتبر بمثابة تكريس قانوني للتضامن بين الأسرة الحاكمة والطبقة السائدة؛ في حين أن المخزن يعتبر بمثابة إطار لنشاط مختلف هذه الشرائح. كما أن ما يميز هذه الشرائح كطبقة حاكمة هو توارث المناصب السياسية. وهكذا يستشهد الباحث بأوبان، الذي يرى أن نظام الوراثة هو روح النظام السياسي المغربي؛ حيث نجد دائما أن كبار الملاك العقاريين هم الذين يعينون كقواد وشيوخ، وأن عائلتين أو ثلاث عائلات هي التي تمد المخزن في منطقة ما بما يحتاجه من رجال للسلطة. لكن رغم اعتماد المخزن على هؤلاء الفيوداليين فإن ذلك لا ينفي تمتعه بنوع من الاستقلالية، وهذا ما يفسر في رأي بن علي الموقف المتناقض للمخزن؛ فهو من جهة يعتمد على الفيوداليين في تحقيق هيمنته، لكن في الوقت نفسه يقوم بإضعاف أو إقصاء أولئك الذين قد يشكلون خطرا عليه. فضعف المخزن يدفعه إلى التزام الحذر إزاء أي منافسين محتملين أو إلى القضاء على بعض الفيوداليين الذين أصبحوا أقوياء أو العمل على خلق خلافات بين الأقوياء منهم من أجل إضعافهم والتحكم فيهم. لذا فإن المخزن، كممثل عن هذه الطبقة الحاكمة، يعكس طابع الخلاف المحتدم بين فئات هذه الطبقة، ويعيش أيضا على هذه الخلافات؛ وهذا ما يجعل العلاقة بين السلطة المركزية والقوى الجهوية في تغير دائم. - الوظيفة السياسية للمخزن تتمثل هذه الوظيفة في اقتطاع الضرائب واستخدام العنف، فهناك ترابط بين العمليتين بحكم أن المخزن قام بالأساس على الفتح؛ وبالتالي فهو يعامل بلاد المخزن كبلاد فتحت عنوة. والضرائب التي تدفعها القبائل تعتبر بمثابة جزية أو ضريبة حرب. ولعل هذا المنطق هو الذي جعل المخزن يميز بين رعاياه الخاضعين للضرائب. فهناك إعفاءات ضريبية تتمتع بها بعض الشرائح (كالأشراف وقبائل الكيش والارستقراطية المخزنية والتجار...)، بينما ينوء فلاحو قبائل النائية من ثقل الضرائب وعبئها. وهذا التمييز الضريبي هو الذي يجعل العديد من القبائل ترفض دفع الضرائب لتدخل في عداد بلاد السيبة؛ ما يحرك بالتالي الأداة القمعية للمخزن. فالمخزن يتكون من جهازين رئيسيين: - جهاز إداري يتكلف بجمع الضرائب (شيوخ، قواد، أمناء). - جهاز قمعي يتكون من الجيش. وهناك تلازم بين الجهازين، إذ إن المخزن لا يمكن أن يتوفر على قوة عسكرية إلا بضمان وسائل تمويلها؛ هذا التمويل الذي لا يتأتى إلا من جمع الضرائب. - الأزمة البنيوية للمخزن ترجع هذه الأزمة إلى العوامل التالية: أولا: التناقض بين جوهر السلطة وإمكانيات الدولة فالسلطة السياسية، في منظور بن علي، تتميز بأنها سلطة مطلقة وأوتوقراطية من ناحية الأسس الفكرية والسياسية التي تقوم عليها، لكنها سلطة محدودة من ناحية إمكانياتها، ما يؤدي إلى حدوث تناقض بين مبدأ السلطة وحدود إمكانياتها. ويفسر بن علي هذا التناقض كما يلي: "من ناحية المبدأ تتميز السلطة بأنها سلطة مطلقة لكنها لا تتوفر إلا على إمكانيات محدودة. فالطابع المطلق للسلطة مرتبط أساسا بالشروط الخاصة باستمرارية هذه السلطة. وهكذا، فبمجرد الانتهاء من الاستيلاء على الحكم، يتم اللجوء إلى القوة كوسيلة للاستمرار؛ وبالتالي فالحكم يعتبر في نظر الحاكم ملكية خاصة يحرص على ممارسته بدون شريك. أما المبدأ الثاني الذي يستند إليه الحكم فهو الأوتوقراطية؛ بحيث يعتبر الحكم حقا إلهيا. لكن الحكم الذي لا يعرف حدودا في مبادئه يعرف مع ذلك حدودا في إمكانياته. وحدود هذه الإمكانيات ترجع بالأساس إلى طبيعة التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية: فالاقتصاد الزراعي يعجز عن توفير الوسائل التي تمكن الدولة من ممارسة هيمنتها، إضافة إلى استمرار البنيات القبلية". ثانيا: الصراع بين السلطة المخزنية والسلطة القبلية يرى بن علي أن هناك تناقضا بين البنية القبلية والبنية المخزنية، يرجع إلى التعارض بين الفكر المحلي ومركزية الدولة. وقد أدى هذا التناقض إلى عدم التطابق بين الاحتياجات التي تتطلبها دولة مركزية وقوية وبين الإمكانيات التي توفرها القوى المنتجة. هذه الإمكانيات يتم التصارع عليها بين المجتمع المخزني والمجتمع القبلي، غير أن عدم الحسم في هذا الصراع جعل كلا من المخزن والقبائل يعملان على تأمين مجال نفوذهما. وتقوي كل مجال على حساب آخر يكون رهينا بميزان القوى وبأهمية إمكانيات المخزن. ثالثا: بلاد السيبة - بلاد المخزن إن حدود إمكانيات المخزن وعجزه عن مد نفوذه إلى كامل التراب الوطني يؤدي إلى وجود ما يسمى بلاد المخزن وبلاد السيبة؛ فرغم المحاولات التي قام بها المخزن في مراحل تقوي سلطته، سواء في عهد المنصور السعدي، المولى إسماعيل، سيدي محمد بن عبد الله، والمولى الحسن الأول، فإنه لم يستطع القضاء على النمط السائد لأغلبية السكان القرويين. وكانت النتيجة أن القبائل، وخاصة سكان الجبال، لم يكونوا يؤدون الضرائب للسلطة المخزنية أو يستقبلون موظفي المخزن. وحتى عندما يحاول المخزن التدخل في مجالهم فهم يقاومونه للحد من توسعه. وعموما فإن مختلف هذه العوامل جعلت المخزن يعاني من أزمة بنيوية استمرت إلى عهد الحماية؛ إذ بدخول الاستعمار إلى المغرب تمكنت السلطة المركزية من توحيد البلاد سياسيا وإداريا. وفي هذا كتب إدريس بن علي ما يلي: "لقد نجحت الدولة الاستعمارية حيث فشل المخزن، أي استيعاب ما سمي بلاد السيبة من طرف بلاد المخزن. وبتحويله المركز إلى منظم رئيسي للمجتمع حقق الاستعمار تغييرا ذا نتائج يوازي امتدادها حلل الدولة -الوطن في أوربا. ونظرا لقوته التكنولوجية والعسكرية ووسائله للمواصلات والإعلام وإدارته تمكن الاستعمار من جعل الدولة مركزا لكافة السلط ونجح حتى في تحقيق إدماج وطني. منذ ذلك الوقت نجد الدولة في كل مكان، إذ اكتسحت المجال الاجتماعي وحاولت مراقبة عملية إنتاج المجتمع. فقد أعطت الدولة الاستعمارية للهيمنة الإيديولوجية والمشروعية التقليدية الوسائل التكنولوجية والإدارية الضرورية للدعم المؤسساتي للمخزن". وعموما فقد تجلت مزية هذا الطرح في المحاولة المتكررة للتأكيد على خصوصية الدولة بالمغرب، سواء على مستوى بنيته التحتية أو على مستوى بنيته الفوقية. لكن هذا لم يمنع من تبني الباحث لمقولات ماركسية ترتبت عنها عدة استنتاجات أثرت في تحليلاته. فتبني مفهوم نمط الإنتاج الفيودالي وتطبيقه على حالة المغرب (ما قبل المرحلة الرأسمالية) هو إقبار لكل خصوصية تاريخية للدولة بالمغرب؛ إذ إن هذه الأخيرة لم تكن لديها العلاقات نفسها التي كانت تربط مثلا الملكية الأوربية بفيودالييها. وقد انتبه بلمليح إلى هذا المعطى فأشار إلى أن الحكم السلطاني يختلف في علاقاته مع القوى الجهوية المغربية مقارنة بالعلاقات التي كانت بين الملكية الأوربية ونبلائها. كما أن وضعية الأرض في أوربا الإقطاعية تختلف عن الوضعية التي كانت لها في المغرب ما قبل الاستعمار؛ إذ تختلف العلاقة التي كانت تربط بين الإقطاعي والقن عن العلاقة التي كانت بين القائد والفلاح. ورغم محاولة الباحث تحليل الصراع الذي كان دائرا بين السلطة المركزية والقبائل، وخاصة قبائل السيبة، فقد كان غالبا ما يقع في التشبيه (analogie) بين الدولة الإقطاعية في أوربا والدولة المخزنية بالمغرب، سواء تعلق الأمر بميكانيزمات السلطة أو أزمة الدولة: - ففي ما يخص ميكانيزمات السلطة يعمد الباحث إلى التأكيد على أن "الدولة، ما قبل الاستعمار، على غرار دول أوربية في القرون الوسطى، كانت السلطة فيها تستمد من التحكم في الأشخاص وليس من التحكم في الأرض؛ وأن الانتماء إلى جهاز الدولة يرتبط بأهمية العلاقات الزبونية والشبكية العلائقية التي يتوفر عليها كل شخص". - أما في ما يخص أزمة الدولة، فإن الباحث يقرن بين الضعف البنيوي التي كانت تعاني منه الدولة الإقطاعية في أوربا والدولة المخزنية في المغرب، ما حدا بالأسر الحاكمة إلى اللعب على تأجيج الخلافات الهامشية والتناقضات الثانوية بين (الأمراء/القواد)؛ وذلك لضمان استقرار الحكم. بالإضافة إلى ذلك من حق المرء أن يتساءل عن طبيعة الأنماط الاقتصادية التي كان يعرفها المغرب قبل تبلور نمط الإنتاج الفيودالي ومدى تأثيرها في طبيعة الدولة المغربية وتطوراتها. فالمغرب، حسب رأي الباحث، كان يتوفر على طبيعة ملائمة، لا توجد في باقي الدول المغاربية، سهلت إمكانية بروز دولة اعتمدت بالأساس على السهول الأطلسية؛ وذلك منذ ظهور دولة البرغواطيين حتى قيام العلويين. هذا التساؤل سيسلط الضوء على عمليات التعامل التي كانت للمغرب مع منظومته المتوسطية، سواء عن طريق التبادل التجاري أو عن طريق الغزو أو الغزو المضاد. ورغم اختلاف التسميات التي يمكن أن نطلقها على هذا النوع من الإنتاج (نمط الإنتاج الضرائبي حسب تعبير سمير أمين أو اقتصاد الغزو حسب تعبير الجابري)؛ فلا شك أن هذا النمط ساهم كثيرا في تقوية الدولة بالمغرب وأثر بشكل كبير على تطورها. وإذا سلمنا بوجود هذا النوع من نمط الإنتاج أو أنماط أخرى؛ فلا بد من التساؤل عن الكيفية التي تم بها الانتقال من هذا النمط إلى نمط الإنتاج الفيودالي الذي عرفه المغرب بعد انهيار الحكم المريني. إذ لا ننسى أن هذا الانهيار كان مرتبطا بالتحولات التي عرفتها المبادلات التجارية العالمية وانتقالها من المنطقة المتوسطية إلى المنطقة الأطلسية، مع ما صاحب ذلك من انعكاسات على الدولة بالمغرب. كما سجل تاريخيا أن المخزن، محاولة منه لتحقيق استقلاليته، كان غالبا ما يعقد اتفاقيات تجارية مع أوربا سعيا منه إلى الحصول على موارد مالية. ولعل هذا ما يفسر سياسة سيدي محمد بن عبد الله في الاهتمام بالموانئ الأطلسية أو عقد اتفاقيات تجارية مع كل من فرنسا وهولندا أو انجلترا. لذا، من الصعب جدا الربط بين وجود نمط إنتاج سائد وبروز الدولة المخزنية، وربط وظيفة هذه الدولة باستجلاب الضرائب واستخدام العنف. إذ ليس من الضروري أن يمر المغرب بنمط الإنتاج الفيودالي لكي يواجه نمط الإنتاج الرأسمالي ويعاني من الغزو الاستعماري. فالاستعمار الرأسمالي لم يكن يميز بين أنماط إنتاج الدول المستعمرة لكي يقوم باستعمارها؟؟. 2- الدولة ونمط الإنتاج الرأسمالي اهتمت أطروحة عبد العالي دومو حول "الدولة والرأسمالية بالمغرب" بالمنطلقات التالية: - ضرورة الاهتمام بالدولة في المجتمعات التابعة نظرا لأنها هي التي تنظم وتراقب الحياة الاجتماعية في هذه البلدان. - انتقاد مختلف النظريات الاقتصادوية التي أهملت خصوصية الدول التابعة، والتي تتجلى في عدم قيام البنى الاقتصادية بنفس الدور الذي تقوم به في البلدان المصنعة. - الخصوصية التاريخية لنشأة وتطور الدولة في المجتمعات التابعة. - تحليل الأنماط الرأسمالية التابعة من خلال تحليل الأنظمة السياسية لهذه المجتمعات. وانطلاقا من المعطى الأخير، يرى الباحث أن تحليلا شموليا للدولة المغربية ينبغي أن يقوم على رصد تطور شكلها وطبيعتها لتفسير نمط الإنتاج الرأسمالي الذي عرفه المغرب؛ ليخلص إلى مسلمة مفادها أن "عدم التطابق بين جوهر وشكل الدولة المغربية هو الذي يفسر تطور نمط خاص للرأسمالية في المغرب. وينعكس عدم التطابق هذا في عدم وجود أرضية مادية صلبة لشرعنة الدولة. وهذه الوضعية هي السبب في هيمنة الميكانيزمات السياسية -الإيديولوجية في عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي". فالرجوع إلى تاريخ الدولة المغربية السابق عن المرحلة الرأسمالية يسلط الضوء على الصراع الطويل والممتد الذي دار بين الدولة وفضائها الاجتماعي. انطلاقا من هذه المسلمات الابستمولوجية، ركز الباحث أطروحته على الجوانب التالية: أولا - العمق التاريخي للدولة في المغرب ثانيا - عدم التطابق بين شكل وجوهر الدولة المغربية أولا - العمق التاريخي للدولة في المغرب ينطلق الباحث من قناعة رئيسية تستند إلى أن الدولة في المغرب تتمتع بكثافة تاريخية، لا يمكن بأي حال من الأحوال تحديدها أو ربطها بتاريخ ظهور الرأسمالية في المغرب. ولتأكيد هذه القناعة يعتمد الباحث على أطروحات بعض المؤرخين المغاربة الذين اهتموا، ورغم تمايز الفترات التاريخية التي تناولوها، بالتأكيد على وجود مؤسسة قديمة للدولة سبقت العهد الاستعماري. ثم يعمد الباحث إلى تصنيف أطروحات هؤلاء المؤرخين إلى ثلاث أطروحات: أ - الأطروحة الاستعمارية، والتي أكدت على الطابع التسلطي للمخزن وطفيليته مقابل وجود بلاد للمخزن وبلاد للسيبة. ب - الأطروحة الخلدونية الجديدة، والتي تربط تطور الدولة بصراع العصبيات القبلية. ج - الأطروحة الوطنية، والتي ترجع ظهور الدولة إلى ظهور الأدارسة. فمنذ هذا التاريخ قامت الدولة المغربية على أساس وحدة السلطة المخزنية من جهة وانسجام عناصر المجتمع المغربي من جهة أخرى. وقد خلص الباحث، بعد عرض هذه الأطروحات، إلى أن تطور الدولة بالمغرب يرتبط بالأساس بطبيعة الوظائف التي قامت بها الدولة المغربية عبر تاريخها. كما ينبغي أيضا، لرصد هذا التطور، تحليل العلاقات التي كانت بين الدولة المركزية وأشكال السلطات الجهوية التي كانت متواجدة، مثل القبائل والزوايا. فمثل هذا التحليل هو الذي يحدد فترات القطيعة والمنعطفات الحاسمة في تطور الدولة بالمغرب، وكذا الخصائص الرئيسية التي طبعت هذه الدولة. من هنا يخلص الباحث إلى أن العمق التاريخي للدولة المغربية هو نتيجة لعهود ثلاثة: - مرحلة ما قبل الاستعمار - المرحلة الاستعمارية - مرحلة ما بعد الاستعمار. وبعد تحديد كل هذه المعطيات الابستمولوجية، يقترح الباحث التمييز بين مستويين في تحليل الدولة المغربية: - مستوى أول يرتبط بتحليل علاقة الدولة بالرأسمال العالمي. - مستوى ثان يقوم على دراسة الخصائص التي تميز الدولة في مرحلة تاريخية معينة. فتحليل هذين المستويين يؤدي بالضرورة إلى طرح التساؤل عن مدى تطابق شكل وجوهر الدولة بالمغرب. ثانيا: عدم التطابق بين شكل وجوهر الدولة قبل التعرض إلى تحليل جوانب التناقض بين شكل وجوهر الدولة المغربية، يتعرض الباحث إلى النقاش الذي أثير حول طبيعة منطق الدولة بالمغرب، بمعنى آخر هل هناك رأسمالية الدولة أو دولة للرأسمال؟ ليخلص إلى انتقاد أطروحة الحبيب المالكي حول رأسمالية الدولة وأطروحة عبد القادر برادة حول دولة الرأسمال. - رأسمالية الدولة يرى الباحث أن أطروحة الحبيب المالكي حول رأسمالية الدولة بالمغرب تقوم بالأساس على ركيزتين رئيستين: - هيمنة جهاز الدولة - عدم وجود طبقة برجوازية مغربية بالمفهوم الماركسي وقد انتقد الباحث هذه الأطروحة مستندا إلى أن المالكي لم يهتم إلا بشكل الدولة (le phenoménale Etatique) وأغفل جوهرها. ب - دولة الرأسمال يرى الباحث أن أطروحة دولة الرأسمال التي أكد عليها عبد القادر برادة تستند بدورها إلى ركيزتين رئيسيتين: - اعتبار الدولة بنية فوقية - اعتبار الدولة المغربية دولة تابعة فحسب برادة فإن الدولة بالمغرب هي جهاز للطبقات المهيمنة التي تتحكم فيها انطلاقا من مكانتها داخل عملية الاستغلال الرأسمالي العالمي. ودور الدولة المغربية ينحصر فقط في إعادة إنتاج الرأسمال العالمي. من هنا، يخلص الباحث إلى أن منطق هذا التحليل يقوم على منظور الرأسمالية المركزية، ويؤدي أيضا إلى قصور منهجي في تحليله للدولة المغربية يتجلى في: - الاقتصار على مستوى واحد للدولة يتجسد في تحليل طبيعتها الرأسمالية. - إغفال الوظائف الأخرى للدولة المغربية، والتي لا تنحصر فقط في إعادة إنتاج الرأسمال العالمي. ومن خلال انتقاد هاتين الأطروحتين، يحدد الباحث تصورا جديدا في تحليله للدولة المغربية ينطلق من أن خصوصية الدولة بالمغرب تتمثل في أن شكل الدولة هو الذي يقوم بدور هام في إعادة الإنتاج الاجتماعي (la reproduction sociale) على المستوى الداخلي؛ ومن ثمة في إعادة إنتاج الرأسمال العالمي. وانطلاقا من ذلك يحدد الباحث المعالم الابستيمولوجية لهذا التصور في ركيزتين رئيسيتين: أولهما إضفاء ديالكتية خاصة على شكل وجوهر الدولة، ثانيهما التمييز الأساسي بين الدولة والنظام السياسي. ولقد اعتمد الباحث في تحديد الركيزة الأولى على مجموعة من المقولات استقاها من مدرسة الاشتقاق (école de dérivation) وكتابات نيكوس بولنتزاس وكتابات هنري لوفيفر حول الدولة. أما بالنسبة للركيزة الثانية فيبرز الباحث أهميتها في إضفاء استقلالية نسبية على النظام السياسي. واستنادا إلى هذا التمييز بين شكل وجوهر الدولة بالمغرب خلص الباحث إلى استنتاجين رئيسين: - التناقض بين شكل الدولة (أي النظام السياسي) وطبيعتها الرأسمالية. فالنظام السياسي المغربي حافظ على استمراريته التاريخية حتى بعد التدخل الاستعماري، الذي سمح هو أيضا بهذه الاستمرارية سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي؛ في حين أن ارتباط الدولة بالرأسمال العالمي أدى إلى عدم التطابق بين منطق النظام السياسي الذي يبحث دائما على الشرعنة السياسية ومنطق الدولة الذي يقوم بالأساس على تكريس تراكم الرأسمال. - البحث عن التوافق بين الشرعنة وتراكم الرأسمال "فتحليل خصوصية رأسمالية الدولة المغربية على مستوى دور السياسة الاقتصادية في إعادة الإنتاج الاجتماعي ووظيفة القطاع العام في الشرعنة، تبين أن التدخل العام تحركه محاولة إحداث التوافق بين الشرعنة وتراكم الرأسمال. ولعل استمرارية الطابع التقليدي هو الذي يشكل عائقا لانتشار علاقات الإنتاج الرأسمالي في المغرب، كما أن خصوصية وظيفة التراكم هي التي تترجم الطابع المحدود والانتقائي لنمط تنمية الرأسمالية بالمغرب". وعموما، فهذه الأطروحة ساهمت كثيرا في إغناء النقاش الذي كان دائرا داخل الأوساط الاقتصادية المغربية حول طبيعة الدولة بالمغرب؛ حيث تجلت هذه المساهمة بالأساس في النقطتين التاليتين: - التأكيد على خصوصية الدولة بالمغرب ودورها في تحديد النمط السائد. - إبراز عدم التطابق بين طبيعة الدولة المغربية وشكلها وتأثير النظام السياسي في السيرورة الاقتصادية الداخلية. غير أن هذه الأطروحة تثير، مع ذلك، بعض الملاحظات، تتمثل في ما يلي: - إن الكثافة التاريخية التي ميزت الدولة بالمغرب لم يتم تحليلها من طرف الباحث بشكل معمق؛ بحيث تم الاكتفاء فقط بدراسة الدولة السلطانية؛ في حين تم إغفال الأشكال التي سبقت هذه المرحلة. بالإضافة إلى ذلك فاللجوء إلى التاريخ كأداة ومنهجية للتحليل تم من خلال البحث في الأطروحات التاريخية أكثر من البحث في الأحداث السياسية. كما أنه إلى جانب ذلك اتخذ الباحث من الاستعمار مؤشرا تاريخيا تم من خلاله تحديد كل مراحل تطور الدولة. في حين أن الاستعمار لم يكن المنعطف التاريخي الوحيد في تاريخ الدولة بالمغرب؛ فالبلاد عرفت منعطفات تاريخية أخرى كان من المفروض أن تتم دراستها ورصد تطور الدولة من خلالها. ثم ألا يعتبر أن هناك تناقضا صارخا بين الادعاء بأن نشأة الدولة المغربية لم ترتبط بظهور الرأسمالية وتحديد الاستعمار كمؤشر لتصنيف المراحل التاريخية التي مرت من خلالها الدولة بالمغرب؟. - إن تحليل الباحث للدولة المغربية انطلاقا من مستوى طبيعتها وشكلها يجعل المرء يتساءل عن المعايير التي تم من خلالها تحديد هذه الثنائية (دولة/نظام سياسي) وما هي الأصول التاريخية لهذه الثنائية؟ أي هل كانت الدولة المغربية منذ نشأتها تقوم على هذه الثنائية أم أن الأمر يقتصر فقط على المرحلة الاستعمارية /الرأسمالية؟. - إن الباحث ركز فقط على أن النظام السياسي هو الذي يؤثر في طبيعة الدولة، ما يؤدي إلى عدم التطابق بين شكل وطبيعة الدولة؛ لكن ألا يمكن أن يكون هناك تأثير متبادل فتؤثر الطبيعة في الشكل أيضا؟. ولعل سياسية التقويم التي خضعت لها الدولة المغربية منذ الثمانينيات تعطي مثالا على ذلك. - إن الباحث لم ينتبه إلى أن الإصلاحات الاقتصادية والقانونية التي فرضت على المغرب من طرف الدول الأوربية كانت لها انعكاسات كبيرة على النظام السياسي بالمغرب، بدليل الإصلاحات السياسية التي تم إدخالها على الهيكلة المخزنية منذ عهد الحسن الأول. فالنظام السياسي في المغرب، وعلى غرار أنظمة ثالثية، رغم تمتعه باستقلالية نسبية وبتحكمه في المجتمع المدني، يبقى مع ذلك نظاما منفتحا للضغوط الأجنبية بشكل كبير.