لا شك في أن من بين أهم حسنات المخاض الداخلي، الذي عاش على إيقاعه حزب الأصالة والمعاصرة مؤخرا، هو ظهور بعض الأصوات والأقلام والتصورات التي قد تشكل في المستقبل القريب ضمير الحزب والنواة الحقيقية لدائرة "مثقفيه" و"مفكريه" وحتى إيديولوجييه، قاطعة بذلك مع المرحلة التي كان غالبا ما ينظر فيها إلى أعضاء الحزب بمثقفيه وأطره وعموم منخرطيه بكونهم جميعا مجرد تقنيين ومنفذين يقعون تحت رحمة "الهاتف الذي قد يرن وقد لا يرن"؛ وهو ما جعل منهم، في نظر متتبعي الشأن الحزبي الوطني، مجرد مريدين ينتظرون رحمة "الشيخ"، أو انتهازيين لا يستطيعون الرد المختلف على هاتف يأمر ولا يستشير. ولعل ما حرك هذه "البركة الآسنة" هي آراء ثلاثة مترشحين إلى الأمانة العامة للحزب، وما أعقبها من ردود. وهنا، لا نحتفظ للنقاش إلا بالعقلاني منه، وتلك التي احترمت أصحاب التصريح، ولم تسب أو تنبش في أعراضهم. الرأي الأول اعتبر أن الصراع داخل الحزب هو صراع الذوات، وأن الصراع مع ممثلي الإخوان المسلمين بالمغرب يجب أن يستمر مستعملا نفس نبرة "القادة" السابقين، وأن على أمازيغ البلد كتابة لغتهم بحروف لغة أخرى أحدث من لغتهم. الرأي الثاني أعلن، أولا، عن نيته ترجمة إرادة جزء من الدولة، ومعها من يريدون أن يصبح الحزب حزبا "عاديا"، أي التخلي المتبادل: أن تتخلى الدولة على الحزب، وأن يتخلى الحزب على الدولة. ولهذا، التخلي المطلوب تاريخ مرتبط بتاريخ تجربة الانصاف والمصالحة التي لم ترض رجالات الدولة برمتهم. وقد سعت الدولة إلى توسيع المسافة بينها وبين الحزب دون أن تنجح في ذلك منذ خروج السيد فؤاد عالي الهمة من الحزب، وخاصة عندما لم تجد من بين أطر الحزب، من هو قادر فكريا وسياسيا على توضيح هويته وكينونته باعتباره حزبا وجد من أجل الترجمة السياسية لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، ولأن الدولة كانت ترى في هذه الترجمة مساهمة لتجديد فكر ونخب الأحزاب السياسية التقليدية. وثانيا، تقربه إلى مستعملي الدين في السياسية ماسحا كل الخطوط التي تفصله مع جميع الأحزاب المغربية إلا الحزب الشبيه بحزبه، أي حزب التجمع الوطني للأحرار. وثالثا، تبنيه المطلق لملف ما يعرف ب"حراك الريف"، وهو ملف استهلك جهود الدولة والسياسيين والفاعليين الحقوقيين الكبار دون الوصول راهنا ولو إلى الضوء الذي يبدو في نهاية الخندق كما يقال. وقد كان كاتب هذه السطور مشاركا في تأسيس إحدى أهم المبادرات الهادفة الى المساهمة في حل الملف، أي المبادرة المدنية من أجل الريف التي استسلمت لقدرها بعد أن وجدت نفسها مفتقدة للأدوات العلمية والعملية الكفيلة بتحليل هذه الظاهرة المتكررة دوريا، والتي حمل أصحابها مطالب ومشاريع ضبابية تختلط فيها السياسية بالذاكرة والتاريخ والأوهام، ناهيك عن الكثير من المواقف التي زادت الملف تعقيدا. الرأي الثالث، قدمه بتواضع شديد كاتب هذه السطور، والذي لم ولن يمل من تكرار القول إن مشكل الحزب ليس في صراع منخرطيه من أجل مصالحهم، بالرغم من أن هذا الصراع المصلحي انتهى بأسماء إلى نماذج مأساوية سياسيا واجتماعيا، واندحار أخرى إلى قاع التاريخ. كما أن المشكل لا يوجد في القرب أو البعد من الدولة، وليس في طبيعة العلاقة التي تربط الحزب بباقي الأحزاب السياسية؛ بل إن المشكل يكمن في أن الكثير من منخرطيه كائنات حزبية فقط، مما لم يسمح لهم بمعرفة طبيعة حزبهم، وأسباب وجوده، وطبيعة علاقته بالدولة. وهذا ما لخصته في أن مشكل الحزب المزمن يكمن في عدم تحديد هويته وكينونته بشكل واضح. الآن وقد انتهى المؤتمر الرابع، وفاز الأخ عبد اللطيف وهبي الداعي إلى التخلي المتبادل بين الدولة والحزب، وإلى التقرب من حزب العدالة والتنمية، وإلى طلب العفو عن معتقلي الريف، فإن السؤال الذي يطرح هو: هل هذه المواقف المعلن عنها ستجعل من حزب الأصالة والمعاصرة حزبا قويا، وتنهي صراعاته الداخلية؟ الجواب بدون تردد هو: لا. وكي نوضح تعليلات هذه (لا) فإننا نعود إلى نقطة البداية، إلى مناقشة علاقة الدولة بالحزب مؤكدين أن هذه العلاقة كانت سليمة سياسيا وأخلاقيا، لأنها جزء من حرصها المتواصل إلى اليوم على نجاح مسلسل الإنصاف والمصالحة. قليلون هم أولئك الذين يعرفون أن الحزب الذي ننتمي إليه اليوم كان من بين أهم أحلام مهندس الإنصاف والمصالحة المرحوم إدريس بن زكري، الذي كان يعتقد بوعي الدارس العميق لمناهج العدالة الانتقالية أن مسلسل الإنصاف والمصالحة مسلسل فاشل إن لم يتوج بإنشاء حزب سياسي قوي من مهامه الرئيسة الترجمة السياسية لتوصياتها. قد يقول قائل إن الدولة أقامت مؤسسات عديدة لترجمة هذه التوصيات. نعم، صحيح؛ لكن هذه التوصيات إن لم تكن جوهر برنامج سياسي لحزب ما فإن مآلها الفشل. لذا، عندما أدعو إلى تبني هذه التوصيات في برنامجنا السياسي فإنني لا أدعو إلى استمرار العلاقة مع الدولة كما كان يروج لها القادة السابقون خدمة لأغراضهم الصغيرة؛ بل نحن اليوم ملزمون بتجديد التعاقد مع الدولة، لأن مسلسل الإنصاف والمصالحة وتوصيات هيئتها هي منتوج للدولة والمجتمع. فهل يتصور أحد منكم أن هذا المسلسل كان سينجح، ويصبح تجربة رائدة دوليا بدون الموقف الحازم لجلالة الملك منها؟ لقد كان جلالة الملك مع المسلسل بحزم، واليوم علينا استخدام ذكائنا الجماعي من أجل المرحلة الثانية من هذا المسلسل، والحزب عليه أن يلعب هذا الدور بذكاء وريادة. وإن شئنا تلخيص توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة على شكل مبادئ؛ فلا يمكن أن نضيف أكثر من هذه المبادئ الأربعة، وهي مبادئ اشتغلت عليها كل الدول التي قررت يوما السير نحو بناء دولة الحق من أي مدخل كان، وهذه المبادئ هي: الكرامة: لتمكين كل فرد أو جماعة من التعبير الحر عن الذات والأفكار والرغبات والمعتقدات، والمساهمة بشكل إيجابي في خلق الثروة واقتراح صيغ توزيعها؛ الحرية: لتمكين كل فرد أو جماعة من تحقيق المشروع الشخصي أو الجماعي في الحياة، والمساهمة تضامنيا في انجاز المشاريع المشتركة والارتقاء بالمسؤوليات والالتزامات نحو المجتمع. المساواة: لتمكين كل فرد أو جماعة من التعبير عن القدرات والكفاءات، وجعل المجتمع برمته يستفيد من هذه القدرات والكفاءات بشكل متساو؛ التضامن: لتمكين الفرد أو الجماعة من كل الضرورات الأساسية، خاصة في مجال الصحة والتعلم والشغل، وتحويل الفعل التضامني إلى وقود للتنمية الدائمة. ومن منطلق هذه المبادئ المذكورة، علينا بناء علاقاتنا الحزبية غدا، وأن نميز فيها بين الإستراتيجي والتكتيكي؛ ذلك أن حزبنا لا يمكن له أن يعقد تحالفا إلا مع الأحزاب التي تتقاسمه المبادئ الأربعة سابقة الذكر، وانطلاقا منها سنحدد موقفنا من الملفات "الحقوقية" المطروحة على بلدنا، ولا سيما الملفات الحقوقية الشائكة مثل ما يسمى بحراك الريف والذي يتطلب منا تجاوز المطلب / الشعار إلى اجتهادا عميق نستحضر فيه كل العلوم المتدخلة لفهم تكرار الاضطرابات في المنطقة من أجل الحد منها خدمة للمنطقة وساكنتها برمتهم والوطن. كما أن هذه المبادئ هي ركيزة المواقف التي يمكن للحزب تبنيها في القضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفي مشاريع التنمية محليا وجهويا ووطنيا، وانطلاقا منها يمكن للحزب اشتقاق ما يراه من مشاريع حلول للقضايا التي تهم المواطن وتفيد المجال. *عضو المجلس الوطني لحزب الأصالة والمعاصرة رئيس مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلم